لا يلام مستهلكو الطاقة في البلدان الصناعية الكبرى على شعورهم بالقلق. فأسعار النفط ما زالت تحطّم أرقاماً قياسية، بالتزامن مع تغييرات هيكلية في صناعة النفط والغاز لا تنبئ بالخير. وظهر القلق لدى المستهلكين حين بدأت شركات النفط الصينية المدعومة من الدولة بالحصول على اتفاقات إنتاج وتنقيب في أنحاء العالم لتلبية الطلب الداخلي المتزايد على المنتجات النفطية. وأبدت شركات نفط خاصة غربية انزعاجها من اقتراح الشركات الصينية اتفاقات مغرية للحكومات المضيفة لا يمكن تبريرها اقتصادياً أو تجارياً. وتعمد الشركات الصينية أيضاً إلى الاستثمار في بلدان تعاني الفساد وغياب الاستقرار و/أو تشهد عقوبات سياسية، ما يبعد المستثمرين الغربيين. تشافيز والشركات الخاصة وتزايد القلق لدى المستهلكين بسبب السياسات التي تتبعها حكومة تشافيز في فنزويلا حيث تُجبر شركات النفط الخاصة على إعادة النظر في الاتفاقات القائمة، والتخلي عن الحماية التي تؤمنها نصوص التحكيم الدولي. وأخيراً، حذرت الشركات العاملة في فنزويلا من أن الضرائب المستقبلية وحقوق النفط لن تبقى مستقرة، فهي ستخضع لتغييرات أحادية الجانب تختارها الحكومة المضيفة. وأصبح المناخ الاستثماري في فنزويلا معادياً للمستثمرين الخاصّين، إلا أن الصين وسعت نشاطها هناك، لا سيّما أن الرئيس تشافيز أعلن أن الصين هي"الزبون"المفضل في عمليات تصدير النفط. "يوكوس" ويدرك المستهلكون الأوروبيون في شكلٍ خاص أهمية دور الحكومة الروسية في التأثير في شركات الطاقة الخاصة بها وفي توجيهها ودعمها. وأتى تفكيك شركة"يوكوس"في المحاكم إشارة واضحة إلى تصميم الحكومة على إحكام قبضتها على القطاع. ويندرج ضمن هذه الإشارة إعلان وزارة الموارد الطبيعية الروسية أن الشركات التي تبلغ فيها حصة المواطنين الروس 15 في المئة، هي الوحيدة المخوّلة تطوير حقول نفط وغاز جديدة وپ"إستراتيجية". وأما النزاع الذي وقع بين شركة"غازبروم"وأوكرانيا حول أسعار الغاز الطبيعي - وأدى إلى قطع الإمدادات لوقت قصير - فقد اعتُبر أنه ناجم جزئياً عن أسباب سياسية. ومما زاد من قلق المستهلكين الأوروبيين تحذيرٌ أطلقته شركة"غازبروم"، أعلنت فيه أنها ستلجأ إلى أسواقٍ بديلة لتصريف غازها في الصين وأميركا الشمالية في حال مُنعت من إمكان الحصول على صناعة مشتقات النفط في أوروبا. وفيما المستهلكون حساسون أصلاً لتطورات من هذا النوع، جاء إعلان الرئيس إيفو موراليس في أيار مايو، أن أمام الشركات التي تدير الغاز الطبيعي في بوليفيا خيارين: إما إعادة النظر في العقود وإما مواجهة عملية تأميم موجوداتها، ليشكّل إشارة واضحة إلى أن الأفكار الأساسية المتعلقة بصناعة النفط والغاز بحاجة إلى إعادة نظر. ويشكل إصرار الحكومات أخيراً على التدخل في قطاع الطاقة صدمة بالنسبة إلى المستهلكين، لأن أبرز البلدان المستهلكة علقت على امتداد عقدٍ، أهمية كبرى على تحرير السوق وتخفيف الرقابة. وتحت هذه الذريعة خُصصت المنشآت التي تملكها الحكومة وفُككت خدمات الغاز الطبيعي وشبكات الكهرباء. فمثلاً، فُصل النقل البعيد المدى عن التوزيع المحلي. أما شركات الاحتكار الوطنية التي ما زالت قائمة فقد فُرض عليها التنازل قسرياً عن حصصٍ من أسواقها التقليدية لمصلحة منافسين جدد. ووُعد المستهلكون بأن هذه الخطوات ستؤدي إلى خفض الأسعار، إضافة إلى تأمين الاستثمار المناسب وتنويع مصادر الإمداد وتعزيز حمايته. وحضت البلدان الصناعية الكبرى والمؤسسات الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين، البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية على تبني سياسات مماثلة لتحرير سوق الطاقة. التدخل السياسي في قطاع الطاقة ومع أخذ هذه الظروف في الحسبان، أثار التدخل السياسي أخيراً في قطاع الطاقة قلق المستهلكين. وربما يفسر ذلك سبب المعارضة الشديدة التي أبدتها البلدان المستهلكة حيال عمليات الدمج والتملك عبر الحدود عرض الشراء الذي تقدمت به شركة"سنووك"الصينية لشركة"يونوكال"في الولاياتالمتحدة، ونية شركة"غازبروم"شراء شركة"سنتريكا"في بريطانيا وحتى حيال عمليات التملك عبر الحدود داخل الاتحاد الأوروبي عرض الشراء الذي تقدمت به شركة"إيون"لشركة"إنديزا"، وآخر تقدمت به شركة"إينل"لشركة"سويز". وفي موقف جديد ومفاجئ، أشارت حكومات البلدان المستهلكة الكبرى الى أنها، ولأسباب أمنية، تعتبر أن قطاع الطاقة قطاع إستراتيجي يجب ألا تتحكم به قوى السوق الحرة. وينتج إصرار بعض الدول المصدرة للنفط والغاز أخيراً عن الأسعار والعائدات الحالية المرتفعة. فبعد أن انتفت الحاجة إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية، عمد عدد من الحكومات إلى الانسحاب من اتفاقات مع شركات نفط والتشدد في الشروط المالية. والعائدات المرتفعة هي العامل الذي يكمن وراء ممارسات مماثلة، إلا أنها ليست العامل الوحيد. وبعد أن تسلّمت حكومات شعبوية مقاليد السلطة في بعض البلدان المصدرة للطاقة، أصبحت توجهاتها تخضع للاعتبارات السياسية الداخلية. ففي بعض البلدان المصدرة للنفط لم تستفد شريحة واسعة من السكان من هذه الصناعة الرئيسة. فقد دفعت شركات النفط العالمية ضرائب وحقوقاً إلى الحكومات المضيفة، إلا أن الحكومات عجزت عن تأمين الخدمات الاجتماعية والبنى التحتية اللازمة لإخراج مواطنيها من الفقر. وحين يرى المواطنون أن مواردهم الوطنية الخام تُصدر من دون أي تحسن يطرأ على حياتهم في المقابل ويدركون - عن خطأ أو صواب - أن شركات النفط العالمية هي سبب بؤسهم، فهم إما يثورون كما حصل في منطقة دلتا النيجر أو ينتخبون سياسيين شعبويين كما حصل في فنزويلاوبوليفيا يعدون بتوزيع عادلٍ للعائدات، أو بطرد المستثمرين الأجانب، أو القيام بالأمرين في آن واحد. ردود فعل الشركات الدولية وتتأثر شركات النفط العالمية مباشرة بهذه التطورات، فتجد نفسها مجبرة على إعادة النظر في الاتفاقات أو مواجهة إمكان خسارة موجوداتها في البلد المضيف. حينئذٍ يبدأ مستثمرو القطاع الخاص الجدد بالابتعاد محدثين فراغاً هو بمثابة فرصة للآخرين. في عام 4002 وقعت الصين اتفاقاً مع فنزويلا أجاز توسيع نشاطات شركات النفط الصينية في فنزويلا، وتتخلل هذه النشاطات عملية تطوير الغاز الطبيعي للاستعمال المنزلي. ووافقت الصين أخيراً على استثمار أربعة بلايين دولار في البنية التحتية النيجرية مصفاة نفط، معمل كهرمائي لتوليد الطاقة، اتصالات مقابل حق امتياز تفضيلي لأربع مجموعات تنقيب نفطية. واقترحت الشركة الصينية"سينوبك"في أنغولا مبلغ 2.4 بليون دولار يشمل 002 مليون دولار مخصصة للاستثمار في البنى التحتية الاجتماعية في عرض لشراء مجموعتين للتنقيب عن النفط. في المقابل كانت عروض الشركات الخاصة منخفضة في شكلٍ ملحوظ. في المدى القريب، ستكون عروض مماثلة مثار قلق لمستهلكي الطاقة في أوروبا وأميركا الشمالية. وأما على المدى الطويل، فسيكون لتلك العروض تأثير إيجابي في المستهلكين في كل أنحاء العالم. الشركات الصينية وإذا كانت الشركات الصينية والشركات المدعومة من الدولة تنجح، من جهة، في الحصول على قدرات إنتاج نفط جديدة وتطويرها، فهي تساعد من جهة أخرى على تهدئة الأسواق والحد من ارتفاع الأسعار. وإن قررت حتى هذه الشركات أن توجه عملية إنتاج النفط الخاص بها نحو أسواق معينة لأسباب سياسية، فإن ذلك يساعد في التخفيف من احتقان أسواق النفط. ومرجح أن هذا النفط سيُطرح في السوق حيث سيحصل على أعلى الأسعار، وإن حدث ذلك وربما على وجه الخصوص خلال فترات تكون فيها الأسواق دقيقة وضيقة. وفي الوقت عينه، قد يتبين أن الاستثمارات التي تأتي بمنافع مادية - مثلاً، بنية تحتية جديدة، توظيف، أو خدمات عامة - مباشرة لمصلحة مواطني البلد المضيف، قد يتبين أنها أكثر استمرارية من الاستثمارات التي تأتي فقط بالأموال لمصلحة الحكومة المركزية مغذية بذلك الفساد. وتشكّل عدم قدرة الحكومة المركزية أو عدم رغبتها في تأمين منافع مماثلة لمواطنيها نموذجاً سياسياً - اقتصادياً يفتقر إلى الاستقرار. فالمواطنون بحاجة إلى تلمّس تحسّن في حياتهم بالتوافق مباشرة مع الاستفادة الواضحة والمربحة من مواردهم الطبيعية. المسؤوليات الاجتماعية ويمثّل تأمين البنية التحتية الاجتماعية الضرورية وخدمات أخرى تحدياً كبيراً لشركات النفط العالمية الخاصة التي يجب أن تضمن لحاملي الأسهم فيها أن ينتج كلّ استثمار العائدات المناسبة. وتشعر شركات النفط العالمية بالارتياح للاستثمار في التنقيب عن النفط والغاز وإنتاجهما، وفي تكريرهما ونقلهما، وفي النشاطات البتروكيماوية وتوابعها. وترتكز هذه الصناعة في شكلٍ كبير على الرأسمالية والمهارات. وبالتالي، فإن إمكان تقديم المساعدة للدول المضيفة حيث البطالة مرتفعة تبقى محدودة. وحالياً، حين تكون البلدان المصدرة للنفط بحاجة إلى رؤوس الأموال الأجنبية، فإن شركات النفط العالمية تميل إلى التركيز على وسائلها التكنولوجية الفريدة التي تُستخدم في أصعب أنواع آبار النفط أو عمليات تحويل الغاز. وهي لا تعرض عادة استثمارات في البنى التحتية الاجتماعية كما أنها تتردد في تغيير طريقة العمل التقليدية المتبعة. المنافسة الجديدة على المدى الطويل، سيتغيّر هذا الموقف المتردد ليس فقط بالنسبة إلى الشركات وحاملي الأسهم فيها بل أيضاً بالنسبة إلى المواطنين في البلدان المستوردة والمصدرة للنفط. فعلى شركات النفط العالمية أن تقوم بأمرين لتتمكن من المنافسة في الظروف الحالية: أولاً، أن تتعاون مع أطراف أخرى، بما فيها الشركات من القطاعات الأخرى، وحكومات بلادها والمنظمات العالمية، لكي تتمكن من تقديم اتفاقات للبلدان المضيفة تتعدى المجال الضيق للاستثمار في الصناعة الاستخراجية. وقد لا تدرك كبرى البلدان الصناعية المستوردة للنفط أن مصلحتها المرتبطة بالتطور السياسي - الاقتصادي للبلدان المصدرة للنفط والغاز، تتسع بالترافق مع اعتمادها المتزايد على استيراد مواد الطاقة، غير أن الاهتمام بهذه العلاقة آخذ بالتزايد. ثانياً، أن تقدم إلى الدول المصدرة للطاقة وشركاتها الخاصة استثمارات مشتركة على امتداد سلسلة التسليم، تتضمن نقل مشتقات النفط، وتكريرها وأنظمة توزيعها. وبما أن ذلك يتم في بعض الحالات مثلاً، تملك شركة"أرامكو السعودية"مشاريع مشتركة في مجالات التكرير والتسويق في الولاياتالمتحدة وكوريا والفيليبين واليونان، في حين أن شركة"غازبروم"تملك مشاريع مشتركة في مجال التجارة والتخزين والتسويق، وشركة"ونغاز"في أوروبا، فإن تدابير إضافية مماثلة لن تشكل صعوبة. تشكّل المشاريع المشتركة في استخراج النفط وصناعة مشتقاته - إذ تقوم الشركات في البلدان المستوردة للطاقة بالاستثمار في عملية استخراج النفط، في حين أن الشركات في البلدان المصدرة للطاقة تقوم بالاستثمار في عملية تصنيع مشتقاته - عقبة كأداء أمام اختلال الإمداد والاضطراب المالي. وعملية الملكية المشتركة لعناصر عدة في سلسلة التسليم متبعة في عالم صناعة الغاز الطبيعي السائل، وقد أفادت المصدرين والمستوردين على حد سواء. وكمؤشر على التكامل المتبادل، تعتبر الشركات في صناعة الغاز الطبيعي الاستثمارات المشتركة في عمليات استخراج النفط وتصنيع مشتقاته مكمّلة لبعضها بعضاً. تقع أثقل تبعات موجة تأميم الموارد الطبيعية على كاهل شركات النفط العالمية. وشهدت هذه الشركات مسبقاً حالة مماثلة خلال موجة تأميم عمليات استخراج النفط في السبعينات وهي لم تكتف بتخطيها بل ازدهرت من بعدها. ولا بد من لجوئها إلى أقلمة طريقة عملها - على الأقل في بعض البلدان حيث تعمل - على ضوء العاصفة التي أحدثتها موجة تأميم الموارد الطبيعية. ويمكن تأميم الموارد الطبيعية، شأنه شأن الأشكال الأخرى لسياسات الحماية، أن يؤذي الاقتصاد العالمي. وتنبه موجة تأميم الموارد المستهلكين إلى أن حماية وارداتهم ستتحسن على المدى البعيد، في حال استفاد المواطنون في البلدان المصدرة للطاقة من منافع أكبر في الصناعات الاستخراجية. وستستفيد البلدان المستوردة للطاقة أيضاً في حال سُمح لشركات البلدان المصدرة للطاقة أن تشارك في مشاريع مشتركة تتعلّق بعملية استخراج النفط. ومن ناحية ثانية يستطيع المستهلكون أن يؤخروا هذه التغييرات من خلال تبنيهم أنماطاً مبالغاً فيها خاصة بهم من الوطنية والحمائية الاقتصاديتين. نور الدين آية الحسين وزير الطاقة الجزائري السابق وجون غولت خبير نفطي