عند الغبشة، تنفضُ المدينة عنها أثقال السهر لمواجهة نهار جديد. صخب النورس المبكر يؤذن ببدء إيقاع آخر، يغطي البحر قبل أن يمتد إلى الشاطئ أو إلى أرجاء المدينة التي تنهض تدريجاً من وقع الشطح وقد تلاحق على مدى الليل شطح الفرق إلى غاية الإغماء. للصويرة أيام المهرجان حلة فريدة، فرادة جمالية تجعل منها مدينة التعدد الإثني والتلاقح الثقافي، إذ يتزاوج ضمن توفيقية عفوية القدسي بالزنجي، السحر بالعرافة، وتبقى دوماً الرغبة عارمة إلى التوحد بصدى الكون، لأن موسيقى كناوة بما هي اليوم موسيقى عالمية وبالنظر إلى طابعها الإثني أيضاً مرشحة للحفاظ على ديمومتها، وهو ما افتقدته مثلاً موسيقى الراي التي استنزفت اليوم مقوماتها الداخلية. من 22 إلى 25 حزيران يونيو، أقيمت الحلقة التاسعة للمهرجان بمشاركة مغربية متميزة كفيلة بإعطاء تصور متكامل عن الأشكال الموسيقية، كناوة منها أو التي تتقاطع معها في سجل القدسي - الإثني مثل حمادشة، عيساوة فاس، كانكا أكادير، هوارة تارودانت. من الأسماء البارزة، مغربية وأجنبية التي تنشط المهرجان بإحيائها ليالي كناوية نذكر: لمعلم محمود الفيلالي، لمعلم حسن بوسو، سكوت كينسي، غاني كريجا، ياياي كانتي، لمعلم عبدالنبي الكداري، مهر علي، شير علي من مجموعة القوالي، لمعلم عبدالله غينيا، كوري هاريس، رشيد طه الخ... لمدة 4 أيام صدحت الصويرة بإيقاعات آلات الكنبري، لقراقب، البندير، حيث يندس أهل الحال في الجذبة... من خلال حفلات مفتوحة للجمهور أو مغلقة في دور خاصة مثل دار لكبير مع حفلة للمعلم عمر حياة، ماتيوه ميشال، كانتي ي ي ، أو دار الصويري بمشاركة لمعلم عبدالنبي الكداري وتيتي روبين... في الافتتاحية التي كتبتها نادية التازي، مديرة المهرجان، نقرأ في عنوان"الحلقة البشرية":"منذ تسع سنوات، قطع المهرجان أشواطاً حقيقية وذلك بتجميعه سنة بعد أخرى لعزائم، لأفكار ومساهمات جديدة. وعلى مهل اتسعت دائرة المولعين، بإثرائها للعالم الفني والبشري للمهرجان". في نظر نادية التازي، موسيقى كناوة هي نبع نهل منه الكثيرون". على مدى حلقاته التسع، التي استقبلت أشكالاً وصيغاً موسيقية مختلفة ومتمازجة، رسخ مهرجان الصويرة للموسيقى كناوة والعالم في المشهد الفني مرجعيته الوطنية والدولية بفضل شفافية المفهوم الذي استند إليه، الاحترافية التي رافقت التنظيم والتسيير للمهرجان، تنوع وتزاوج الأصناف الموسيقية، وهي الأشكال التي تنهل بسخاء من موسيقى كناوة ومن ينابيعها الزنجية الأفريقية. قوة جذب المهرجان تكمن في محافظته بل تكريسه للمقدس بصفته عصب الطقس الكناوي. الليالي هي للتطهير وتخليص الذات من براثن الشوائب والخباثات العالقة بها. من يتذكر الصويرة قبل تسع سنوات تحضره مدينة عبور، يستهلك فيها الزائر طبقاً من السمك، يلف بسرعة على دكاكينها قبل أن يغادرها صوب مراكش، الجديدة أو أكادير. كانت لا تأسر إلا من رغب في ذلك. ملاذ لصعاليك أوروبا. بقيت تجتر حنين ماض مثخن بالقرصنة والغزوات. للصويرة نكهة ليزوفونية برتغالية لما تدير ظهرها للبحر، إسلامية - يهودية لما تنكفئ على ذاتها داخل أسوار سميكة تهمس بحثيث سري. المنفتح - المنغلق: في ثنائية هذه الجدلية انكتب تاريخ المدينة، ويوم حل بها زنج كناوة حاملاً معه آثار الاستعباد في المعاصم والأرجل ركن القوم إلى آلة الكنبري عند هوامش المدينة أو في شوارعها يدندن استعداداً لاستحضار الأسلاف من الجن، قبل أن يتوزعوا في كل الأصقاع. لما انطلق المهرجان، شددت الرهانات الاقتصادية والثقافية على جودة الحدث مضموناً وأسلوباً، كما ورطت أطراف من مؤسسات خاصة وعمومية القصر الملكي، أبناك، وسائل إعلام، وزارات، وذلك عبر منظومة الرعاية والتبني المالي. أدرك الساهرون على المهرجان أن المهرجانات القائمة على الحماسة والتطوع تجهض في المهد. وعليه سخرت كل أساليب الرعاية والتبني المالي لتوفير سبل فتح المهرجان على آفاق عالمية. وعليه أصبحت الصويرة اليوم بمفعول كناوة، قبلة يتصادى فيها بقوة الفن بالسياحة، متعة الجسد والفكر.