لم يمرّ جيمي هندريكس حتماً عندما أتى الى الصويرة بحي سبت كزولة. لأنه لو فعل لكان مضطراً الى انتظار ثلاث ساعات على الأقل في الطريق بانتظار مرور الحافلة.. وربما كان مضطراً الى أكل سندويش محشو بلحم مفروم... الآن أبدو شديد الاقتناع بتلك النظرية الرياضية من الرياضيات التي تقول إن أقرب طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم، فبدل الذهاب باكراً من الدار البيضاء باتجاه آسفي ثم من آسفي الى سبت كزولة فإلى الصويرة، كان الأفضل انتظار منتصف النهار والذهاب مباشرة الى موغادور، لكن مجرد النزول في هذه المدينة ينسيك المفاوز التي اجتزت لبلوغها. استقبلت مدينة الصويرة خلال نهاية الأسبوع الماضي أكثر من مئة ألف زائر في المهرجان الثالث لفنون كناوة تحت شعار: تمبوكتو - موغادور. وفي ساحة مولاي حسن استمتع الجمهور بكثافة العرض الذي قدمه المعلم حميدة وحسن بوسو من الدار البيضاء واللذين رافقهما العازف غراهام هانيز على النار وبيبي كانتي بمقطوعات غنائية افريقية. ساحة مولاي حسن لم تكن غير نقطة الانطلاق التي حولت "مدينة الرياح" الى كرنفال راقص على إيقاع الموسيقى الافريقية. فأمام المقاهي وفي الأزقة الضيقة وداخل محلات البازار كانت هناك حفلة مصغرة تشكل جمهورها وإيقاعها الخاص. ساحة الشفشاوني استضافت خمسة موسيقيين من مجموعة "الصويرة تاموزيغا" ابتداء من الساعة السابعة، لتسلم المشعل مجدداً الى ساحة مولاي حسن التي بدت فسيحة بسبب المنصة الكبيرة التي سلطت عليها أضواء كاشفة بألوان مختلفة. وكانت فرقة المعلم عبدالكبير من مراكش تتماهى مع اللوحتين الكبيرتين المرسومتين على شكل حرز كبير مملوء بالطلاسم. بدا المشهد وهو ينعكس على الشاشة الكبيرة كما لو كان مقتطعاً من فضاء افريقي خالص. وإلى جانب المعلم عبدالقادر نستطيع أن نميز ضيوفاً على الفرقة هم كريم زياد ولويس وينسورغ وبعض أعضاء جوقة باربيس الوطنية المؤلفة من مغنيين وعازفين مغاربة وفرنسيين. بدت الصويرة خلال هذه الأيام وكأنها توقفت عند أعتاب زمن قديم، فترة الستينات على الأرجح. تلك الفترة التي عرفت أوج الحركة الهيبية والروك أندرول والحركات التحررية واكتشاف حبوب منع الحمل... الفنادق محجوزة جميعها. وليس أمام الذين يصلون في وقت متأخر من الليل سوى أن يضعوا حقائبهم وأن يجلسوا في ساحة الخيمة ليقضوا "ليلة" كناوية مع المعلم ابراهيم بكاني الى حدود الساعات الأولى من الصباح. في محطة المدينة الطرقية يبادرك أطفال بسؤال عن رغبتك في استئجار شقة أو غرفة في بيت مشترك، ويثيرون اهتمامك الى عدم جدوى البحث عن غرفة في الفنادق. أطفال يأخذون الحياة مأخذ الجد على رغم صغر سنهم، يتصرفون كما لو كان المهرجان هبة سماوية ستمنحهم إضافة الى الرقص طوال الليل في الساحات مصروفاً يومياً كافياً. وإضافة الى الموسيقى التي تصدح في كل مكان، هناك المعارض التشكيلية التي ترصع أزقة المدينة. وتم افتتاح معرض "الفصل الخامس" في فضاء برج باب مراكش. والمعرض من تنظيم مؤسسة اكتوا، لينضاف الى سلسلة المعارض الجماعية والفردية التي يرى أصحابها في المهرجان مناسبة صالحة للعرض، وخصوصاً أن نسبة السياح الأجانب تعرف خلال هذه المناسبة تزايداً مطرداً. كانت الصويرة دائماً ملاذاً روحياً للراغبين في التفاوض مع البوهيمية. لذلك يلبس الشباب هنا لباساً متميزاً يعطي الانطباع أن الزي الرسمي أو زي العمل اختراع رأسمالي تعرّض للانقراض. وليس غريباً أن تشاهد محمد الأشعري، وزير الثقافة المغربي، يتجول بقميص رياضي بين أزقة الصويرة أو أن تشاهد وزراء آخرين تركوا ربطات أعناقهم في خزانات بيوتهم في الرباط. فالصويرة مدينة زاهدة ومتقشفة الى أبعد حد، وهي ككل المدن الساحلية تفرض عليك أن تحترمها وأن تنخرط في الطقس العام. يتفاوت سن السياح الأجانب الذين يقصدون الصويرة خلال هذا الموسم بين 20 و40 سنة. ويشكل الفرنسيون والإسبان النسبة الأكثر ارتفاعاً، بينما يتبعهم الإنكليز والألمان وسائر الجنسيات الأخرى. ويتوافد على الصويرة من داخل المغرب المراكشيون والبيضاويون وسكان أكادير نظراً الى قرب المسافة. أما الحضور العربي فيكاد يكون منعدماً تبعاً لعدم وجود ترويج إعلامي في البلدان العربية. وأصبح مهرجان الصويرة يشكل مناسبة سنوية لتحريك النشاط الاقتصادي للمدينة وهو يقوم أكثر ما يقوم على الصناعة التقليدية، صناعة العرعار والصيد البحري. على امتداد أسبوع تعاقبت على منصة ساحة الحسن وساحة الشفشاوني ودار الصويري وساحة الخيمة وساحة سوق الحبوب ومركب نادي مراكش والصناعة التقليدية فرق غنائية عاتية تمثل كل أنواع الغناء الكناوي في كل تفرعاته الافريقية الضاربة في القدم. أما مدينة الصويرة فتتحول خلال أيام المهرجان من مدينة هادئة الى خلية نحل تضج بالزوار. المقاعد في المقاهي مملوءة والشوارع تزدحم بشبان يلبسون ثياباً رثة ويتركون خصلاتهم طويلة. تستعيد المدينة زمنها الغابر عندما كانت ملتقى فرق البوب والروك العالمية. هنا فكر جيمي هندريكس بالاستقرار ذات يوم، لكنه لم يصنع. وتبدو الصويرة خلال هذا المهرجان كأنها تتذكر هذه الرغبة التي لم تتحقق قط، معطية الفرصة مجدداً لأحفاد هذا الأخير الذين يذرعون طرقاتها بخطواتهم المجهدة من شدة الرقص طوال الليل...