ربما قبل عشر دقائق ... كانت الساعة قد جاوزت الحادية عشرة بقليل، حين أطفأتُ تلفزيون الصالة، بينما كانت ياسمين تهم بالنهوض، قلت أنا وكأنني أحدث نفسي: "سأبقى قليلاً". فاجأتها جملتي، فتسمرت في مكانها، ولأوضح لها قلت: "لا أشعر برغبة في النوم". لم تُشبع جملتي تساؤلها، فأشرت لها بيدي: "اذهبي أنت وسألحق بك بعد قليل". "هل تشعر بأي تعب؟". "كلا". قلت جملتي وسكتّ. ظلت هي واقفة. عبرت لحظة صمت في جو الصالة. توقعت أنها ستعاود استجوابي بعد قليل، فقلت لها: "لا أشكو من أي تعب". أسرعت تقاطعني: " لقد لاحظت... كنت ساكتاً طوال جلستنا؟". "أنتِ تعرفين أنني أحب السكوت، ثم أن السكوت ليس مرضاً". هزّت رأسها مرددة: "أعرف، أعرف". وانسحبت إلى غرفة نومنا. عجيب أمر رزّاق، بعث في طلبي ظهر اليوم. دخلت عليَّ سكرتيرة مكتبي، قالت لي: "السيد المدير العام يريد رؤيتك بعد نصف ساعة". كنت غارقاً في تدقيق التقرير المالي. للسنة الثانية والمؤسسة تحقق خسائر وتنحدر في أدائها... ظلت السكرتيرة واقفة في مكانها، وكأنها تنتظر إفادتي، قالت: "سكرتيرته اتصلت وأبلغتني". حين دخلت عليه، كان يتكلم في التلفون، أشار لي بيده أن أجلس، فجلست. لحظة أنهى المكالمة، خاطبني مباشرة: "أريد أن آخذ رأيك بموضوع...". يتغيّر وجه رزّاق حين يكون مشغولاً بفكرة تشوّشه، سألني: "ما رأيك بعثمان؟". "أي عثمان؟". "مدير إدارة شؤون الموظفين". "زميلي منذ سنوات... رجل هادئ ويعرف عمله جيداً". "أريد نقله ليحل محل الدكتورة هناء". استغربت قراره... الدكتورة تشغل منصب مديرة إدارة التخطيط والتطوير، وهي موظفة كفوءة ومخلصة وملمة في عملها. قلت له: "لا اعتقد أن هذا قرار صائب". "هل أحضر لك أي شيء؟". انتشلني صوتها، وقفت ياسمين تنظر إليَّ وأنا في جلستي، فقلت: "شكراً". "هل ضايقتك أنا بشيء الليلة؟". "حبيبتي، لست متضايقاً، ولا أشكو من أي شيء، فقط أشعر أنني محتاج لأن أكون وحدي". "لهذا أغلقت التلفزيون؟". "نعم، ثم أنني لا أودّ مشاهدة أي برنامج، فقط أريد لحظة هدوء". "كما تشاء". رمت جملتها وقد زمت شفتها السفلى بما يعني عدم رضاها، واستدارت عائدة إلى غرفة نومنا. رزّاق صديق طفولتي، هم جيراننا، توفى أبوه ولم يبلغ العاشرة. أذكر كيف أن أمي كانت تعد لنا أنا وهو في كل عام حفلة عيد ميلاد مشتركة... أمه في أول حفلة، قالت لأمي بصوت بلله الدمع: "الله يكثر خيركم، عبدالرزّاق صار ولدكم". أنا ورزّاق درسنا المراحل الدراسية معاً، الابتدائية والمتوسطة والثانوية. أبي كان يأخذنا بسيارته إلى المدرسة. حين دخلنا جامعة الكويت في بداية السبعينات اخترت أنا دراسة الاقتصاد واختار هو قسم التاريخ. وقتها طلبت منه أن نبقى معاً، لكنه رفض مبرراً: "لست ابن تجار ولا نقود لدي، ثم أنني أحب قصص التاريخ وحوادثه". لم أصدق الخبر حين سمعته في"الديوانية": "عبدالرزّاق سيأتي مديراً عاماً للمؤسسة عندكم، زوج أخته الوزير رتب له المنصب". "كيف سيدير عبدالرزّاق مؤسسة مالية كبرى، وهو لا يفرق بين الين الياباني والمارك الألماني؟". بعثت بسؤالي، رحت أسأل نفسي. مضت سنتان على مجيء رزّاق إلى المؤسسة ولم يزل يتخذ قراراته الخاطئة. استبدل أكثر من مدير، وفرّط بأكثر من موظف جيد. أساء كثيراً الى سمعة المؤسسة. أسهمها في السوق بانحدارٍ دائم. حين أقابله أشعر أنني أمام رزّاق آخر. ما عاد يستسيغ أن أناديه باسمه القديم الذي أحب، نبّهني مرة: "الزملاء لا يعرفون عمق صداقتنا، أرجوك نادني بعبدالرزّاق، والأفضل لو قلت: بو مشاري". استغربت رنة صوته. رحت أنظر إليه، فعلّقَ موضحاً: "المؤسسة مكان عمل، يجب أن يأخذ التعامل بيننا الطابع الرسمي". لحظتها تقافزت أمامي صور كثيرة من طفولتنا: دشداشته المبقعة، وحقيبته المدرسية، وانتظاره قرب بابنا لحين خروج أبي، وأعياد ميلادنا المشتركة، ودموع أمه: "لا اعتقد أن هذا يضايقك". عاد صوته ينبهني. فأسرعت أقول: "كلا كلا". وقبل خروجي، تعمدت أن أنفخ في صوتي قائلاً: "عن إذنك يا بو مشاري". "أنت متأكد أن لا شيء يؤلمك؟". انتشلني مجدداً صوت زوجتي ياسمين، كانت تقف أمامي بقميص النوم، وقد أكل القلق صفحة وجهها: "أقسم لك أن لا شيء يؤلمني". "هل أستطيع مساعدتك بأي شيء؟". "نعم تستطيعين مساعدتي". لاح طيف لهفة على وجهها، فقلت لها: "تستطيعين مساعدتي بأن تتركيني وحدي". انعكست ظلال الصالة المظلمة على وجهها، دمدمت: "كما تريد". جرّت خطواتها المحبطة، وبقيت أنا بجلستي في هدأة الصالة. ظهر اليوم قلت لرزّاق: "أنا لا أوافقك الرأي على نقل عثمان الى إدارة التخطيط والتطوير". بدا لي أنه تحسس من صراحة جملتي: "لماذا؟". سألني بنبرة باردة: "لأن عثمان لا علاقة له بالتخطيط والتطوير، هو رجل إداري، ويعمل في تخصصه منذ سنوات". كنت أتكلم وكان يستمع إليَّ في ما يشبه ضيقاً، فأكملت: "ربما رفض الرجل الانتقال". "لن يرفض". "هل فاتحته بالموضوع؟". "سأصدر قراري ولن يكون أمامه إلا الموافقة". كان ينظر إليَّ بوجه خالٍ من أي تعبير. فسألته: "إلى أين ستذهب بالدكتورة هناء؟". "ستكون مسؤولة عن إدارة السجل العام". "ماذا ؟". اندفع يوضح لي آراءه في عمل المؤسسة، وأشار إلى أن الدكتورة متقوقعة ولا تتواصل مع أي من الإدارات الأخرى، واختتم كلامه قائلاً: "كلما طلبت أمراً منها اعترضت أو دخلت معي في نقاشات لا تنتهي، وأنا لا أحب هذا الأسلوب". في أول يوم دوام له في المؤسسة، استدعى رزّاق جميع مديري الإدارات، ورؤساء الأقسام، عقد اجتماعاً مطولاً. شرح طريقته لإدارة المؤسسة، قال: "يجب تطوير كل قطاعات المؤسسة وتجديدها، لتصبح واحدة من أهم مؤسسات البلد المالية". وردد في أكثر من مرة بنبرة تطفح بالثقة الزائدة: "مؤسستنا تحظى بدعم حكومي كبير، قلما تحظى مؤسسة أخرى بمثله". كان يقصد زوج أخته الوزير، وقال: "بالتأكيد سأغيّر بعض المناصب، وبالتأكيد سيكون التغيير نحو الأفضل". كنت مشوشاً لا أدري كيف سأتعامل معه، وكنت متأكداً من أنه سيتصل بي، ولهذا فضلت الانتظار. في اليوم الثالث طلبتني سكرتيرته، قالت لي: "الأستاذ بو مشاري يطلبك للمقابلة في تمام الساعة الثانية عشرة". يومها دخلت عليه، فنهض من خلف مكتبه الفاخر، سلّم عليَّ بحرارة: "يا هلا ومرحبا". "تسلم يا رزّاق". تجاوز جملتي، وأسرع يقول: "كان من دواعي سروري أن نعمل معاً في مؤسسة واحدة". شعرت أنني أمام رزّاق جديد، بنظرة عينيه، وحركة يديه، ونبرة صوته: "أنت صديقي وستكون ساعدي الأيمن". كان صعباً عليَّ تقبل فكرة أن يكون رزّاق مديراً عاماً للمؤسسة، فهو طوال عمره كان بعيداً من عالم المال والتجارة والاقتصاد، وحين كنا نلتقي في"الديوانية"كان يردد عليَّ: "التاريخ يقدم المواعظ، والتجارة تقدم وجع الرأس". يوم تخرجنا في الجامعة، توسط أبي لرزّاق كي يعمل مدرساً لمادة التاريخ في وزارة التربية، ويوم تزوج رزّاق ذهبت وأبي في خطبته. في اجتماع ظهر اليوم تناقشت معه: "هذا ليس في مصلحة المؤسسة، الدكتورة هناء ممتازة في عملها...". فجأة احتد صوته: "ما أقوله أنا في مصلحة المؤسسة". "رزّاق...". تلاقت أعيننا، فارتفع صوتي: "أنا ابن المؤسسة وأعرف مصلحتها أكثر منك، لا يصحّ أن تلعب بالمناصب والمديرين. منذ سنتين وأنت تهبط بالمؤسسة إلى الأسفل". "لو سمحت...". قاطعني صارخاً وقد اشتعلت عيناه بغضب مسعور أعرفه. نهضت واقفاً، وصوته: "أنت...". استوقفته قبل أن يكمل، قلت له: "أعرف تماماً من أنا، وأعرف أيضاً من أنت". وانسحبت خارجاً... "إلى متى ستبقى على هذه الحال؟". قلقاً وصلني صوت ياسمين. وقفت أمامي وقد أكل الضيق وجهها... أشعر بأن حجراً يضغط صدري: "أرجوك تكلم، ما الذي يشغل بالك؟". "أشياء كثيرة". قلت لها، فاقتربت لتجلس بجانبي: "ما هي". قالت وأسرعت تكمل: "هل استطيع مساعدتك؟". أعرف طبعها وحرصها المرضي عليَّ... ربما حملها قلقها الى حفر مظلمة. أشفق عليها، لم تستطع النوم. قلت لها: "أودّ لو أسافر". تغيير وجهها: "إلى أين؟". سألت بصوت مفجوع، فأجبتها: "إلى أي مكان، فقط أكون وحدي". * روائي كويتي