الثامنة والربع. تعبت معها.. الصغيرة لولو أخرتني، ما كانت لتنام. عليَّ أن انتهي من ارتداء ملابسي، وأسرع في مكياجي. ما أسرع اشتعال غضبه... سينقلب مزاجه لو وصل ووجدني غير جاهزة. قال سيأتي في الثامنة والنصف كي يصطحبني للعشاء. وقال: "لكِ عندي مفاجأة". ما تعودت منه مفاجآت... الليلة عيد زواجنا الثالث. كأنه الأمس... يوم رجتني صديقتي بطة حضور الحفلة الجامعية، قالت: "إسماعيل ياسين سيكون هناك". كانت المرة الأولى التي أسمع به. قالت: "تعرّفي إليه. لن تتمالكي نفسك، ستضحكين من القلب". راقبته طوال الحفلة يتنقل بين طاولة وأخرى. قرأت نظرات الإعجاب في عينيَّ بطة، ظلت تشرق ضاحكة لمجرد النظر إليه.. شعرت به سخيفاً، متجاوزاً بكلماته حد الأدب. حين خرجنا من المكان، حملت بطة الحفلة معها، كانت مأخوذة بالحديث عنه وعن تعليقاته المضحكة، فقاطعتها قائلة: "باستثناء دمامته لا شيء يجمعه بإسماعيل ياسين". نظرت إليّ مستغربة. شعرت أن جملتي قد مسّتها، فأضفتُ كي أغيظها أكثر: "لم أجده مسلياً، ولن أحرص على حضور مجلس يكون هو موجوداً فيه". ربما في لقائنا الثالث، تحرش بي عابراً، قال: "عيناك أجمل حين تضحكين". تجاهلت ملاحظته. كنت أقرب إلى الضيق، فبقيت صامتة. ثلاث سنوات وناصر يملأ حفلات الجامعة بصخبه وحضوره وتعليقاته. يقفز من طاولة إلى أخرى. تلتقي عيوننا، فأصد عنه. حاول مراراً التقرب مني، لكنني بقيت أتحاشاه مضمرة ضيقي منه، واستسخافي لحركاته وألفاظه المتفكّهة. كم تمنيته؟ وحده أسعد بوسامته وهدوئه كان يلوّن أحلامي. لم أكن في يوم أحب القطط. منذ صغري وأنا أخافها. يقشعر بدني لحظة يعلق شعرها برؤوس أصابعي، ويوترني شخيرها الممطوط. القطة" سكر" نائمة قرب قدم الصوفا. يوم خرجت من آخر امتحان، وجدت ناصر واقفاً بانتظاري، قال لي في ما يشبه ضيقاً: "تأخرت". استغربت كلمته، لم يكن بيني وبينه ما يسمح له بمخاطبتي بهذا التبسط. سألته: "تكلمني؟". أسرع يقول: "نعم". لاحظت نظرة جد في عينيه، وميّزت اضطراب أنفاسه وحسّه. أكمل يخبرني: "مضى عليَّ أكثر من نصف ساعة منتظراً". "تنتظرني أنا؟". سألت ثانية، فردَّ من دون أن تفارق نظرة الجد نبرة صوته: "نعم أنتظرك، أريد التحدث إليك". شعرت بخفق قلبي. ظل هو باندفاعه، قال: "هذا هو آخر امتحان لكِ في الجامعة، بعد أسبوعين ستأخذين الشهادة". تلفتُ حولي، تمنيت لو أن إحدى البنات تظهر لتكون بقربي. "كان لا بدَّ أن أفاتحك بالموضوع". أخافتني كلماته وهيئته. "أين تفضلين الجلوس؟ يمكننا الذهاب إلى الكافتيريا". لمعت فكرة في ذهني، فاستوقفته: "هل هذا أحد مقالبك بالاتفاق مع بطة؟". "سيكون هذا هو المقلب الأهم في حياتنا". "حياتنا؟". سألته متعجبة من إجابته الغريبة. "نعم حياتنا، أنا وأنتِ". شعرت بخوف من طريقة كلامه ومن كلماته. تمنيت لو تلحق بنا أي من الصديقات. لكن الممر ظل خالياً يشمت بي. ستقفز سكر كالنمر لحظة يفتح ناصر الباب. ترمي بنفسها بين قدميه، تصدر نونوة خافتة، تتمسح بدشداشته وحذائه، وتساير خطوه حتى مقعده. تعجبت لحظة انتبهت علاقة سكر بناصر. الثامنة وعشرون دقيقة. ما توقعت ناصر يكون هكذا. توترني علاقته مع الوقت. يثور كالمجنون، يصرخ في وجهي لو تأخرت دقائق عن أي موعد. يومها، سلك الممر المؤدي إلى الكافتيريا. سار بتأنٍ تاركاً مسافة فاصلة بيننا. كان هاجس المقلب يسيطر عليَّ. تصورت أن بطة وبقية البنات سيكونن في انتظاري في الكافتيريا، لكن الكافتيريا بدت شبه خالية. "تفضلي". أشار إلى أقرب طاولة، وقال: "سأحضر عصير برتقال طازجاً". كنت لم أزل أتلفت، أنتظر لحظة تظهر بطة. لكن المكان ظل غارقاً في صمته، وحركة عمال الكافتيريا من حولنا. فكرت بالانسحاب، لكن شيئاً أبقاني لصق مقعدي. بعد أن أحضر العصير، راح ينظر إليَّ وكأنه يتأكد وجودي قبالته. قال: "انتظرتك تنهين آخر الامتحانات". كانت المرة الأولى التي أراه فيها جاداً، راسماً مسافة حاجبيه كأقرب ما تكون. "أردت أن أخبرك أنني أحبك، وأنني سأتقدم لخطبتك". رمى بجملته ببساطة من يحيّي شخصاً يعرفه. ارتخت أصابعي حول كأس العصير. ردد عمال وحوائط الكافتيريا معه: "أحبك وسأتقدم لخطبتك". تراءى لي طيف أسعد خلف زجاج النافذة التي تواجهني. أمسكت رجفة باردة بي. سألته كمن يبحث عن طوق نجاته: "هل سيقف المقلب عند هنا؟". "أتمنى لو كان مقلباً. أنا أحبك يا نورة، ولن استطيع العيش من دونك". أحسست بشيء من البحة يلحق بصوته، وأنه تحاشى النظر إلى عينيَّ لحظة نطق اسمي. ارتبكت لا أدري كيف أردّ عليه. أنا أمام ناصر مختلف غير ذاك الذي عرفت. خبّأت نظرتي عنه. غاب خيال أسعد عن النافذة. وأنتفضت واقفة وقلت له: "عن إذنك". باغته رد فعلي. مسرعة قفزت فوق سلالم الكافتيريا. لكنه لحق بي. اعترض طريقي. التقت عيوننا، فقال: "ربما فاجأك الأمر، لكنني أفكر بك منذ لقائنا الأول". كأنه حلم! لاحت نظرة خضوع في عينيه، خاطبني في ما يشبه بوحاً: "عملت كل ما عملت لألفت انتباهك. أنا أحبك وأتمنى الارتباط بك، وسأبقى أنتظر ردك". خلّفني واقفة، ومشى مبتعداً عني، وقد لحق بعض انحناءٍ بظهره. سكر تقفز نحو ناصر لحظة يصل، لكنها تقف متجمدة في مكانها، وكأن شيئاً يمنعها من التقدم، تبتعد من طريقه، لا تسير خلفه، ولا تتمسح بدشداشته. تعود مخذولة لمكان نومها. لحظتها أعرف أن ناصر قد عاد بمزاج سيئ. ربما تشمّ رائحته، أو تقرأ خطوه، أو ينبهها شيء آخر لا أعرفه. لا أعرف ما الذي حلَّ بي في ذلك اليوم. شعرت بالطريق بعيداً إلى موقف سيارتي. تخيلت للحظة أن ناصر سينبعث واقفاً أمامي من أي زاوية، ينفجر ضاحكاً مطوّحاً بذراعيه الطويلتين على طريقته، يخبرني أن الذي حصل مزحة، وأن بطة وراء كل شيء. لكن ناصر لم يظهر، وموحشاً ظل الطريق. حين ركبت سيارتي. انتبهت آثار رجفة في أصابعي، وحبات عَرَقٍ على جبهتي. لمع عِرق الوجع في صدغي نابضاً يبشر بصداع نصفي قادم. أكاد أنتهي من المكياج. الثامنة وأثنتان وعشرون دقيقة. سكر تشخر بنومها. "أنا اتزوج إسماعيل ياسين؟". أفسد عليَّ السؤال فرحة إنهاء الامتحانات والتخرج من الجامعة. رمى بي في بئر ذكريات كثيرة أبحث بين زواياها عن وجه ناصر، بينما جملته تطاردني: "عملت كل ما عملت لألفت انتباهك". لماذا ظل ناصر ساكتاً طوال سنوات الدراسة الجامعية؟ ماذا ستقول بطة حين أرتبط به؟كيف يمكن أن يكون له وجه جاد الى هذا الحد؟ تحجم سكر عن الاقتراب منه ما دام غاضباً. ولحظة تخطو نحوه، تتحرش به، أعرف أن ناره قد انطفأت، وأن مزاج رضاه قد سار في اتجاه آخر. يومها، لا أعرف كيف سرت بسيارتي، ولا كيف وصلتُ إلى بيتنا. حاولت نسيان الموضوع، لكن الصداع النصفي عصف برأسي، فتطاول خيال ناصر صار بارتفاع عمود النور، وصارت يداه تتأرجحان بجانبه... جاءت إليَّ وجوه صديقاتي بتسريحات شعورهن الملونة، ولطخ مكياجهن الغامقة، وروائحهن المختلطة. وضجيج الحفلات ونظرات العيون المسروقة، والغناء والتصفيق، والتزاحم على "البوفيه"، ووحدها بطة ظلت غائبة. بعد مرور أسبوع جاءني صوتها عبر الهاتف: "مساء الخير". كنت أنتظر اتصالها. قلبي حدّثني أن يداً لها في الموضوع. باركت لي انهاء الامتحانات والتخرج، تكلمت عن خططها وسفرها خلال إجازة الصيف. انتظرتها تأتي على ذكر ناصر، كنت أحاول شمّ رائحة حضوره خلف كلماتها. وقبل أن تودعني قالت: "ناصر طلب مني رقم هاتفك". وسكتت بخبث كأنها تستكشف رد فعلي. اصطنعت الغفلة، قلت: "ناصر؟". "إسماعيل ياسين". أسرعت تقذف في وجهي، تجيبني بنبرة ماكرة، وأردفت: "ألحَّ في طلبه". شعرت بها تلعب معي، فقلت لها: "أرجو ألا تعطي رقم هاتفي لأحد". لكنها ردت قائلة: "آسفة، لقد أعطيته الرقم". شعرت بجرس فرحٍ خفي يقرع في قلبي، يكاد يفضحني. قلت لها: "ما كان يجب". في الليلة نفسها اتصل بي ناصر. كان صوته رائقاً. في البدء اعتذر قائلاً: "أخذت رقمك من بطة". وسرعان ما ذكّرني بحوادث كثيرة، قال لي: "ربما كان عليَّ أن أفاتحك منذ مدة". وقال: "أنت فتاة صعبة المزاج، لا تدعين مجالاً لشاب أن يقترب منك". نبّهتني جملته. حدّثت نفسي: هل كنت غبية وصددت أسعد؟ تكلم كثيراً وكنت مصغية، أشاركه بكلمة أو تعليق، وقبل ان ينهي اتصاله، همس بي: "أحبك يا نورة، ووحدك من أحلم بالارتباط بها". انسحبت من مكالمته، وحين دخلت فراشي لأنام، جاءتني نبرته وكلماته الجادة، فارتفع أمامي السؤال: "أين مرح ناصر الذي لوّن حفلات الجامعة؟". الساعة الثامنة والنصف إلا خمس دقائق. أتوقع وصوله في أي لحظة. سأراقب سكر لأعرف مزاجه. اليوم عيد زواجنا الثالث. قبل خروجه قال لي: "سنهسر معاً". وانعطفت نبرة صوته، قال: "في الثامنة والنصف تماماً سأكون عند الباب... لا تتأخري". علا وجهه تلطف عابر، همس: "لكِ عندي مفاجأة". قبل زواجنا قابلت ناصر أكثر من مرة. ظل يأتي بوجهه الجاد. دار ببالي ان أسأله: "أين اختفى وجهك الباسم؟". ربما سألته الليلة السؤال نفسه. بعد إعلان خطوبتنا، جاءت بطة مهنئة، قالت: "مبروك، أنت محظوظة، ستتزوجين شاباً يجعلك تضحكين طوال الوقت". بعد زواجنا اكتشفت أن الضحك لا يعرف سبيلاً لوجه ناصر وقلبه، وأنه صامت وعصبي بطبعه. وأنني ارتبك لا أعرف كيف أتعامل معه لحظة يثور، لذا أبقى صامتة. أين ذهبت سكر؟ الساعة قاربت الثامنة والنصف. عليَّ أن أسرع. سكر مسترخية قرب قدم الصوفا. كأنها بدأت تتحرك. أسمع جرس الباب. سكر تتمطى. تبدأ خطوها. الليلة عيد زواجنا الثالث. ناصر دعاني لسهرة خاصة، قال: لكِ مفاجأة. سكر تركض نحو الباب. أشعر بقلبي يخفق. الكويت - 18 - 6 - 2004