انتهت الدورة الپ59 لمهرجان"كان"السينمائي الدولي، على خير: لا ضجيج سلبياً صاحب اعلان النتائج. لا مناورات كواليس رصدت. لا فضائح أعلنت. كل شيء جرى بهدوء. وحتى الذين غاظهم أن تذهب"السعفة الذهبية"الى فيلم لم يتوقع أحد منذ البداية أن تذهب السعفة اليه، بدوا راضين ولو على مضض: أوليس كين لوتش أندم المشاركين؟ ومهما كان من شأن فيلمه"الرياح العاصفة"، أفلا يستحق صاحب"الحياة العائلية"وپ"ليدي بيرد"ودزينة من أفلام مناضلة محترمة أخرى، أن تُتوج مسيرته السينمائية - السياسية، بتكريم مثل هذا؟ كين لوتش يحظى باحترام عام، حتى وإن لم يكن هذا الاحترام مقروناً بإعجاب كبير بسينما، قد تجدد سياسياً لكنها تبدو مأزومة فنياً غير قادرة على أي تجديد. من هنا لم يصل الاحتجاج ونُظر الى اعطائه الجائزة الأسمى في"كان"على أنه خطوة أخلاقية لا تجوز مناكفتها. واذ تذكر الناس ظرفاً مماثلاً قبل عامين، حين أعطيت السعفة، عن غير حق، لمايكل مور عن فيلم سياسي لا فن فيه ولا لحظات ابداع حقيقية، وإذ تذكروا ما حدث العام الفائت حين أعطيت السعفة الى"الطفل"للأخوين داردين وبؤسه الاجتماعي، قال الحضور:"لا بأس... ليسا كين لوتش أسوأ من هؤلاء، ولا فيلمه أقل قيمة من فيلميهم". تجديد انتقالي على هذه الملاحظة، اذاً، أغلقت الدورة ونال لوتش ما كان يسعى اليه منذ زمن بعيد. فما الذي يبقى من دورة"كانية"قال كثر انها ستدخل تاريخ المهرجان بصفتها الدورة الأضعف منذ سنوات طويلة؟ كونها الدورة الأضعف أمر لا شك فيه. ومع هذا لا بد هنا من توضيح الأمور في شكل أفضل: على رغم ضعف الدورة في شكل عام، كانت فيها أفلام قوية. أفلام مجددة، الى درجة انه يمكن ببساطة وصف الدورة بالانتقالية. فأفلام مثل"متاهة بان"لغيّرمو ديل تورو، أو"بابل"لألكسندر غونزاليس اينيراتو، ليست من نوع الأفلام التي تحقق في كل يوم، أو التي تشبه أفلاماً كثيرة سبقتها. في المقابل بدا"الدرب الأحمر"لأندريا آرنولد وريثاً شرعياً مطوّراً لتيار"دوغما 95"الذي لفظت صيغته المتقشفة الأولى أنفاسها على أية حال. أما بيدرو ألمودوفار، فإنه عاد في فيلمه المعنون تحديداً"العودة"، ليس الى سينما النساء فقط، بل كذلك الى نوع من سينما الواقعية الايطالية كما سادت في الخمسينات، وكذلك الى المرأة القوية يعطيها أرجحية مدهشة على الرجل. والحقيقة ان قوة المرأة في سينما اليوم - اذا اعتبرنا دورة"كان"لهذا العام صورة ما لسينما اليوم - كانت واحدة من"التيمات"الأساسية لأفلام عدة من"بولبر"الى"الدرب الأحمر"مروراً بپ"البنات دول"للمصرية تهاني راشد... بين أعمال أخرى. وكأن قضية المرأة قفزت فجأة لتحتل الواجهة. الحرب بدت قضية أخرى، سواء شكلت الموضوع الفكري للحرب كما في"فلاندر"لبرونو دومون، الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى، أو شكلت خلفيته كما في"الأفارقة الفرنسيون"للجزائري رشيد بوشارب، الذي فاز ممثلوه جماعة بجائزة أفضل تمثيل ذكوري، أو موضوع السجال فيه كما في"الرياح العاصفة"لكين لوتش، صاحب السعفة الذهبية. الحرب موضوع يظل شغل الناس، وبالتالي شغل السينمائيين الشاغل. وما كان يمكن دورة"كان"هذه، الا ان تعكسه، والحروب منتشرة، مستترة أو مكشوفة هنا وهناك في هذا الكوكب الأرضي، الذي كان أحدهم تنبأ له قبل عقد ونيّف بأنه شهد نهاية التاريخ. والحال أن المرء اذا تحدث عن الحرب اليوم، سيجد نفسه مساقاً، بالضرورة، الى الحديث، من ناحية، عن حرب العراق، ومن ناحية أخرى عن"الإرهاب". وهذان حضرا بقوة، وان مواربة أحياناً، في دورة"كان"المنتهية لتوّها: صحيح أن"فلاندر"برونو دومون تدور حربه في أرض غير محددة، لكن هذا ليس من شأنه أن يخدع أحداً: فالإيحاء بأننا في العراق قوي: طبيعة الجغرافيا، ثياب الجنود، أشكال المقاومة، العنف، ضروب الاغتصاب وما شابهها. كل هذا، في"فلاندر"يضعنا أمام الراهن العراقي... حتى وإن كان المخرج سعى الى التعميم. في المقابل، فيلم الحرب الآخر، بين الأفلام الرابحة في النهاية، لم يعمم. ففي"الأفارقة الفرنسيون"لم يشأ رشيد بوشارب ان يدين الحرب ولا أن يتحدث عن راهنها. المعركة بالنسبة اليه في مكان آخر: في اعادة الاعتبار الى جزء من التاريخ الفرنسي مسكوت عنه تماماً: تحرير مناطق عدة من الشرق والجنوب الفرنسيين من طريق جنود أُتي بهم من البلدان المستعمرة ليحرروا"الوطن الأم"، فحرروه وضحّوا من أجله ليحتفل الفرنسيون منذ ذلك الحين بتحرير الأميركيين لهم! الحرب تحاكم الراهن اذاً، فيلم بوشارب يضع الحرب عل مستوى تاريخها ليحاكم الراهن السياسي والاجتماعي الفرنسي. غير ان الفرنسيين الذين أزعجتهم هذه المحاكمة بالتأكيد - حتى وإن كان رفّه عنهم كثيراً جمال دبوس، المغربي الأصل وأحد جنود الفيلم - في حفل الختام حين أيقظ الحفل والدورة كلها من رتابة قاتلة، هؤلاء الفرنسيين كان عليهم أن يشكروا السماء لأن محاكمة السينما لهم، أتت أضأل أهمية بكثير من محاكمة الفن السابع لأميركا: هنا في هذا الاطار كانت الدعاوى صاخبة والقضايا حارة. بدءاً بالنظرة الباردة سياسياً، الحارة فنياً التي ألقاها بول غرينغرس على حكاية الطائرة الرابعة رحلة"يونايتد 93"، التي لم يتمكن ارهابيو 11 أيلول/ سبتمبر من تفجيرها فوق الكابيتول، فسقطت دون هدفها ليقتل كل من فيها، وصولاً الى المحاكمة السياسية المباشرة في فيلم"نيران صديقة"الذي يسخر، بالوثائق والتعليقات، من هذا المصطلح الذي كثيراً ما استخدمه الأميركيون - والانكليز - خلال حرب العراق تبريراً لمقتل جنود منهم بنيران حليفة."نيران صديقة"فيلم وثائقي قاس وعنيف كان من المستحب للمرء أن يعرف رأي أوليفر ستون فيه، هو الذي اذ اعتاد مشاكسة السياسة الرسمية الأميركية طويلاً، بدا هذه المرة - وربما تبدو المظاهر خادعة في نهاية الأمر - هادئاً حكيماً في تعامله مع احداث ايلول 2001، من خلال المشاهد التي عرضها من فيلمه الجديد، الذي لم يكتمل بعد،"مركز التجارة العالمي". مهما يكن... كل هذه الاعمال أتت، في شكل أو في آخر، بقوة أو بضعف، لتوجه اصابع اتهام محددة الى اميركا. لكنها لم تكن الاقوى أو الاعنف في هذا ولم تكن قضية الارهاب وردود الفعل عليه القضية الوحيدة التي من خلالها هوجمت اميركا. فالوجبات السريعة والعنصرية والاضرار بالبيئة اتت ايضاً مواضيع مختارة ومدخلاً لمناكفة واشنطن. فيلم"أمة الوجبات السريعة"جمع هذا كله، في ثرثرة نضالية مثيرة للاشمئزاز في سياق الفيلم طبعاً عن صناعة اللحوم للوجبات السريعة واستعبادها العمال المكسيكيين وغدرها بالزبائن من خلال نفايات واقذار تمزج باللحم. وفيلم"الحقيقة غير الملائمة"اتى، على يد آل غور، نائب كلينتون المرشح الخاسر للانتخابات الاميركية، يفضح تلوث البيئة وكيف اننا، بدءاً من واشنطن، ندمر عالمنا بأيدينا. وهو الموضوع نفسه تقريباً الذي يشغل فيلم"حكايات الجنوب"لريتشارد كيلي الذي اختار البعد الروائي الكوميدي لتمرير موضوعه حول فرضية شن هجوم نووي على اميركا وفقدانها المحروقات، ما جعلها تبني مفاعلاً ضخماً بينهل من مياه المحيط ويتسبب في التأثير في حركة دوران الكرة الارضية. موضوع علمي كوني ربما، لكن مخرجه الشاب اختار له اسلوب العمل الروائي البسيط الذي ينطلق من تأثير هذا كله على حياة بعض الافراد، هم نجوم الفيلم. فاشية الجنرالات من الارهاب وإفساد بيئة الارض، الى الاعلام وفقدان التفاهم بين البشر، خطوة كان يمكن قطعها بسهولة، لكن المكسيكي - المنفي دائماً وأبداً كما قال لنا بنفسه - ايتيراتو، قطعها بصعوبة. والصعوبة هنا تتعلق بأسلوبه السينمائي الفريد الذي يحمل قدراً كبيراً من التجديد. والفضل في هذا يعود الى السيناريو الذي كتبه له غييرمو آرياغا، مازجاً بين ثلاث حكايات تدور في ثلاث قارات وتروى لنا بأربع لغات بينها العربية المغربية. لكن هذه الحكايات ليست منفصلة، بل هي تنطلق من رصاصة بندقية تطلق في منطقة جبال الرعاة المغربية، لتؤثر في مصير اناس يعيشون على مبعدة عشرات ألوف الكيلومترات عن بعضهم بعضاً. ماذا اراد هذا الفيلم "بابل" أن يقول؟ الجواب سهل للغاية، ويمكن من سيشاهد الفيلم ويقيناً ان الذين سيشاهدونه سيكونون كثراً ومن غلاة محبي السينما وفنها ان يدرك منذ البداية لعبة الاعلام، وعجز البشر عن التفاهم في ما بينهم، ودور اللغة في هذه الوضعية، منذ خلق الله لأهل بابل لغات عدة تفرق بينهم بدلاً من ان تجمع، عقاباً لهم... والى هذا، اراد الفيلم ان يقول كيف اننا، خارج اطار اللغة، نعيش في عالم واحد يؤثر كل ما يحدث فيه في العالم كله. غير ان المهم هنا ليس ما يقوله الفيلم، بل مرة اخرى: كيف يقوله... الثراء السينمائي فيه. وهذا ينطبق على افلام اخرى، في مقدمها، بالطبع،"متاهة بان"الذي كان إحدى المفاجآت الكبرى في هذه الدورة. فهذا الفيلم يجمع اللغة السينمائية الغريبة والمتطورة والخاصة جداً في انطلاقه مما يشبه حكايات الجن والكائنات الخرافية بالسياسة من خلال ادانته القاطعة للسلطة الفاشية ممثلة هنا بضابط من جنود فرانكو في اسبانيا بعيد الحرب الاهلية الاسبانية. ديل تورو، مخرج الفيلم، يقدم الفاشية هنا في ابشع صورها، ولكن من خلال أليس معاصرة تدخل بلاد العجائب من منطلق احلامها الرافضة للواقع البائس. وهذه الادانة للسلطة الفاشية يقدمها في فيلم رائع مخرج مكسيكي يعيش في المنفى الاسباني منذ سنوات، تجد معادلها المحلي في الارجنتين من خلال فيلم"مدونات هروب"او"بيونس آيرس" الذي يحكي، في شكل شديد القسوة، الحكاية الحقيقية لشبان ارجنتينيين اعتقلوا وعذبوا على يد السلطات العسكرية الفاشية حكومة الجنرالات أواخر سنوات السبعين، لكنهم في نهاية الامر تمكنوا من الهرب. والحال ان هذا الهرب ليس أهم ما في هذا الفيلم ذي اللغة الكلاسيكية والسرد الخطي. أهم ما فيه هو الصورة المفزعة التي يصو بها كل سلطة فاشية عسكرية في تعاملها مع كل من يحاول ان ينتقدها أو حتى من تشتبه مجرد اشتباه في انه يفعل، كما يحدث في الفيلم مع لاعب الكرة الذي يعتقل من دون أن يكون لاعتقاله سبب محدود. اذاً، من آخر أخبار الفاشية التي هي هي اخبارها القديمة الى آخر اخبار الحروب والإعلام، الى آخر اخبار الصراع بين المرأة والرجل، الى السياسة والارهاب السياسة الارهابية والارهاب السياسي، في حدودهما القصوى، الى جملة من مسائل أخرى، مثل بؤس العالم، وبؤس طعامه وبؤس بيئته، تجولت هذه الدورة من مهرجان"كان"في حلبة قد لا تكون جديدة من الناحية الفكرية، لكنها بالتأكيد أتت مجددة من ناحية قدرة السينما على قول السياسة والقضايا الكبرى، من دون ان تبدو وعظية ثرثارة، أو مجرد سينما رسائل. ولعل هذا هو الجديد في دورة مثل"كان"يمكن ايضاً ان يقال عنها ذات يوم انها الاكثر سياسة وغوصاً في راهن العالم، من كل الدورات السابقة... وبخاصة اذا قارناها بدورة العام الفائت التي، اذ شهدت بدورها، مواضيع سياسية، تميزت في الوقت نفسه بكبار من وودي آلن، الى لارسن فون تراير ودافيد كروننبرغ وجيم جارموش وغيرهم عبروا عن انزياح نحو الكلاسيكية، اسلوباً وموضوعاً، في سينما من الواضح، في الدورات السابقة كما في هذه الدورة، انها لا تزال قادرة ليس فقط على ان تعطي الكثير، بل ايضاً - خصوصاً - على ان تجدد نفسها باستمرار. واذا كان من اسم يمكن اطلاقه على دورة هذا العام فسيكون"دورة التجديد"، بكل ما تحمله هذه العبارة من التباس وسوء فهم، و.... دعوة الى الصبر ريثما يتجسد هذا التجديد، تيارات واضحة.