انه كريستوف رويتر في كتاب بعنوان "التاريخ الحديث للاستشهاديين" من يسأل: "كيف للاستشهاديين ان يبرروا موتاً انتحارياً وقد جعلوا الحياة قنبلة موقوتة وكفروا بالحياة بغير كفر! أي جبروت يتمتع به المستضعفون في الأرض وأية مهانة يُعير بها المتجبرون والمستكبرون وقد جدّفوا في الإنسانية وحقروا الديموقراطية وابتذلوا الحرية، وجعلوا من الآخر"جحيماً"للاختلاف لا الائتلاف او التجاور او التعاهد! أنّى لهؤلاء وأولئك ان يتقاسموا ثقافة الموت". فكريستوف رويتر كمراسل لمجلة"شتيرن"الألمانية، وبعد ان حاور كثيرين من الحالمين ببطولاتهم، ومن أصحاب الفتاوى وقد ميزوا بين الانتحار والسبل الأقرب الى الخلود، وبعد ان جمع شهادات الأصدقاء والأهل والأمهات، ايقن ان المستضعف، مثقفاً كان ام غير مثقف، هو من يقرر وحيداً ان يحول ضعفه المهين الى قوة معجزة وخارقة، وأن يترك الذكرى تصعد الى حديقة الله وألا يخلط احد بين الشهادة والجريمة! ولما كان كريستوف رويتر عاين في فلسطين وإسرائيل، كما في ايرانولبنان، ومثلهما الانتحاريون في اليابان، فإنه إذ يعود لإنسانه ينهض في نفسه السؤال ويقول: كيف لشاهد غريب - مثلي - نجا من موته ان ينسى ويسلو رائحة الأجساد المحروقة لو فجّر استشهادي نفسه صدفة في حافلة أو قافلة أو مركز تجاري أو مقهى أو مجمّع للأبرياء؟ وإلامَ يهرع رجال الشرطة - قبل رجال الإنقاذ والأطباء - لأخذ بصمات الأصابع المشتبه بها وقد استراح اصحابها من ضعفهم وقهروا عذابهم ورحلوا! لمَ يهرع رجال الشرطة في فلسطين وإسرائيل - وقد تسربلوا ببذلات صفر وسود - لجمع الأشلاء، ولملمة الأسنان شهادات حية يمنون بها على عائلات الضحايا، فيكون لها ما تدفنه وتأنس بذكراه! ثم ان رويتر الذي صدر كتابه عن دار"برتلسمان فيرلاج"في ميونيخ، ألمانيا، بدأ في منتصف تسعينات القرن العشرين يرصد حركة الاستشهاديين في فلسطينولبنان وإيران، مذ راح الغرب الأميركي وبعده الأوروبي ينسب الإرهاب في الشرق الأوسط الى حركات أصولية، ولو أن الغرب الأميركي ومثله الأوروبي بقي يجهل مرتكبي عمليات التفجير وخلاياهم النائمة، وتنظيماتهم السرية باستثناء ما عرف عن"القاعدة"وخبرائها في افغانستان. أما السؤال الذي حيّر ولا يزال يحيّر رويتر الغريب الأجنبي فهو: لماذا يضحي استشهادي بحياته ويقتل غالباً الأبرياء لا الأعداء؟ كيف لإنسان ان يلغي"أناه"ويحسب ان لا قيمة لحياته إلا كونها قنبلة موقوتة؟ وإذ يتابع رويتر نقل ما خبره وعاشه من انفجار هذه"القنابل الموقوتة"في لبنانوفلسطين يقول: كما اخطأت العواصم الأوروبية ومثلها كبرى المدن الأميركية إذ حسبت نفسها في مأمن، واعتدّت بترسانتها النووية وصواريخها العابرة للقارات، وجحافل الجو والبحر وظنت ان تفجيرات الاستشهاديين لن تطاولها كما طاولت سري لانكا في 1987 وتركيا وكشمير والشيشان 1990. هذه الأخطاء في الظن والتقدير، قلبت المقاييس العسكرية وقوة الأساطيل بحلول صيف 2003 إذ غيّر الاستشهاديون وجه العالم ونظامه الجديد. فبعد نهاية الحرب الباردة بين الجبارين وفي 11 ايلول سبتمبر 2001، أرغم 19 انتحارياً الولاياتالمتحدة على التشكيك بأنها القوة الأعظم التي تمتلك ترسانة تحكم بها العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وإذ سقطت مقولة الأمن والعيش في مأمن، وطمأنينة تلك القارة البعيدة، بدأ جورج بوش التخطيط لحرب عالمية جديدة ضد"الآخرين"سماها حرباً على الإرهاب في أفغانستانوالعراق. وكأن بوش اذ خدعته قواته، قرر ان ينتقم من"الآخرين"كل"الآخرين"بإعلان حرب"صليبية جديدة"بعدما فاتته قراءة التاريخ، ووقع في ظلال المعاني وتهافت مقاصده. وكان لإعلان بوش قرار الحرب ضد الإرهاب، ان يعمّق الخلافات في الولاياتالمتحدة، ثم ان ينقسم الحلفاء الأوروبيون بين مؤيد ومعارض لسياسة أميركا، ثم ان تأخذ دول أميركا اللاتينية ومثلها دول في الشرق الأقصى جانب الحياد، ثم ان تشتعل في كل العالم الإسلامي، من باكستان الى افغانستان الى ايران الى الشرق الأوسط العصبيات ضد أميركا ومعها حلفاؤها. وهكذا قسم بوش العالم في معسكرين: اما مع أميركا ومصالحها وإما ضد أميركا ولو كانت مصالحها ضد أبناء الكرة الأرضية برمتها! وقد رأى رويتر ان بوش اذ قرع طبول الحرب التي بدأها، فإنه يجهل منها المتاهات والدهاليز المتحركة، اذ ان أحداً لا يجرؤ على التنبؤ بنهاياتها. فالرئيس الأميركي مذ قرر ان عدوه الحقيقي هو أسامة بن لادن - الذي يدعو الى الجهاد - عجز عن ردعه في اميركا والدار البيضاء وكراتشي وأندونيسيا وتونس، حتى لكأن التفوق العسكري الأميركي المجلجل لم يعد فعالاً إزاء حروب البر، ومواجهة الند للند. فالاستشهاديون بتفجيرهم برجي التجارة العالميين، اعتبروا ان حربهم ضد اميركا اعظم بكثير من"حيواتهم"، إذ زرعوا الرعب في النفوس، وزلزلوا الأرض تحت الأقدام، فانزوت العيون الخائفة خلف سراديبها، وراح الاستشهاديون يرون الجنات الغارقة في الغمام الشفيف بلون الخلود. فالاستشهاديون لا يترددون بإزاء الموت، ودفع الخذلان والاستكبار والاستبداد، اما بوش فإذ استبطأ ملاحقة بن لادن في افغانستان، وسقطت عن وجوه الحلفاء الأقنعة، تحول الى العراق وشعبه، كعدو يضاجع تاريخاً من هزائمه ومراثيه قبل الرحيل، وقد رأى رويتر، ان بوش في اوقات حبوره كان يظن"ان إرهاب القاعدة بلغ نهايته، وأن النصر في العراق هو أسهل حروبه الخاطفة والقليلة الكلفة". ونسي في قمة تفاؤله تحذيرات الرئيس المصري حسني مبارك له في آذار مارس 2003 إذ قال:"ان الحرب الأميركية على العراق ستلد مئة ألف بن لادن جديد". والاستشهاديون سيتكاثرون، ويكثفون عملياتهم ضد اميركا وضد الاتحاد السوفياتي كما هي الحال في الشيشان. فبعد 11 ايلول، قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ان يظهر مشاركته مع اميركا في اعلانها الحرب ضد الإرهاب، وذلك بتكثيف الغارات ضد الشيشان. ولما زار بوتين نيويورك في اواسط تشرين الثاني نوفمبر 2001 لم يستقبل كرئيس يحارب ضد الانفصاليين، بل كپ"إرهابي عالمي"محاصر في أرضه. إزاء حيرة رويتر في تخلي الاستشهادي عن حياته، عاد الى الانتحاريين اليابانيين ليجد ان"هؤلاء لم يكن واحدهم"علم بالجنة او بحور العين. إن الواحد منهم لم يكن يحلم حتى بالنصر! فكلما ارتفعت اعداد الرفقاء الموتى، تفجر الحنين للحاق بهم. ومما قاله عالم اليابانيات الفرنسي موريس بينغه:"أنّى للياباني ألا يشعر بعار الحياة وخزي العيش وهو يرى الى كثير من قوافل الموتى الذين سبقوه"! فأوهارا ريوجي اذ توجه الى ذويه برسالة وداع في 11 ايار مايو 1945 قال:"انه لشرف أعظم ان أكون مختاراً في مهمة عسكرية مميزة دفاعاً عن ارض الآباء ونبلها"فأنا"لا أخشى الموت، بل ألقاه بسعادة لأنه سيجمعني ثانية بأخي تانسو الذي افتقدته طويلاً". وعندما حلّق اوهارا ريوجي في فضاء اليابان وهو في الثانية والعشرين من عمره قال:"لم تعد الطائرة بين يدي كقبطان يسعى للانتحار، وإنما تحولت بين يدي الى كائن حي يقاتل حباً باليابان لتبقى الامبراطورية الجبارة". وكان اوهارا ريوجي واحداً من ألفي قبطان قرروا ان يذهبوا في موت له من المسالك الاستشهاد، لا العودة أو فرح النصر! فخلاص اليابان التي حاصرتها الجيوش الأميركية وأساطيلها في المحيط الهادئ لم يكن إلا في ايدي جنودها، الذين سيفجرون الطائرات اليابانية بالمراكب والغواصات والأساطيل الأميركية. ولما صارت كلمة"كاميكاز"تعني"الرياح الإلهية"فإن الاستشهاديين من اليابانيين لا يخالفون امراً لأسيادهم الحكماء، حتى ولو ان الأمر يستوجب الموت. وكثيرة اليوم هي قوافل الشباب التي اختارت طوعاً"الجهاد"في سبيل امبراطوريتها، وفي أعماق ارض حضنت الكثير من أمجاد الأسلاف وأرواحهم. اما في سريلانكا وكردستان، فإن النساء نهضن دفاعاً عن الأرض والعرض، حتى قال عبدالله اوجلان عن اول امرأة استشهدت في العام 1996:"كانت بملء وعيها تتمنى ان تحمل رسالة تحرير الى نساء العالم كله". تلك المرأة الكردية قامت بإزائها جميلة من التاميل لبست ثوباً مطرزاً، وعقصت شعرها بالزهور وكأنها في ليلة عرسها وخبأت مقتل راجيف غاندي في طيات ثوبها، قنابل ومتفجرات. ولما كان الواحد والعشرون من شهر آذار مارس 1991، وصل راجيف غاندي الى مدينة نادو بالقرب من مقر خمسة وخمسين مليوناً من اتنيات التاميل المضطهدة في ارض الهند. وإذ رأت الجميلة التاميلية راجيف غاندي اقتربت منه وانحنت امام قدميه، وتركت ليدها اليمنى ان تضغط الصواعق المتفجرة وتقول:"علينا ان نحارب، لا ان نعيش"اما الهنود"فعليهم ان يحاربوا ليعيشوا"! وإذ يختم رويتر كتابه في"التاريخ المعاصر للاستشهاديين"الذي يرى فيه الى قوة الضعفاء او المستضعفين وإلى ضعف الأقوياء او المستكبرين يتوقف عند الانتحارات الدينية كما يسميها في آسيا الإسلامية أي في الهند، وأندونيسيا والفيليبين، وقد كانت غايتها محاربة المستعمر والغازي والمحتل. فبإزاء الإيمان الديني تسقط علوم النفس ومثلها تتهافت علوم المذاهب وخبراؤها كما كانت الحال في عشق فرثر Werther وآلامه، في رواية غوته الذي جعل بطله ينتحر حباً او تعزية عن غياب لم يعد يطيقه. هذه التعزية يرى إليها رويتر في"ام محمد"التي امست المرأة الفريدة والأقوى في عالم اليوم - الذي انهارت فيه الأنظمة الشيوعية ومثلها الرأسمالية التي كان لها ان تعتد وتتنافس بترساناتها الهيدروجينية، وصواريخها البالستية - إذ كانت تقول بيقين مبرم:"ان ابا محمد رجلها وبعلها لم يمت، وإنما صار باستشهاده الرجل الخالد والحر والمطمئن". وفي العام 1957 قال السناتور جون ف. كينيدي:"ان الإنسان وحده يبقى سيداً للحياة طالما انه وحده سيد الموت"فهو على رغم عاهات الولادة والحياة تبقى له قوة الاقتدار التي تجعل منه المقتدر الوحيد والحر. * كاتبة لبنانية.