Sophie Shihab ed.. Tche'tche'nie: Dix Cles pour Comprendre. الشيشان: عشرة مفاتيح للفهم. La De'couverte, Paris. 2003. 128 pages. قد لا تكون حرب الشيشان مستمرة منذ قرنين ونصف القرن، كما يؤكد الشيشانيون، اي منذ ان قاد الشيخ منصور حرب المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الروسي في الربع الاخير من القرن الثامن عشر. وقد لا تكون حرب الشيشان مستمرة منذ مئة وخمسين سنة، يوم استسلام الامام شامل عام 1859 بعد ان كان نجح في تحرير الشيشان وداغستان وتوحيدهما. بل قد لا تكون مستمرة منذ ستين سنة يوم نفى ستالين عام 1944 جملة الشيشانيين الى آسيا الوسطى، والغى كلمة الشيشان من القاموس. لكنها مستمرة بكل تأكيد منذ اثنتي عشرة سنة، وتحديداً منذ 1991، يوم هجر الجنرال السوفياتي الشيشاني جوهر دودايف منصبه كقائد للقاذفات الاستراتيجية في بحر البلطيق ليعود الى الشيشان وليرشح نفسه لانتخابات رئاستها ثم يعلن استقلالها في اليوم الاول من تشرين الثاني نوفمبر 1991. هذه المبادرة، التي جاءت ضمن منطق تفكيك الاتحاد السوفياتي بعد انهيار النظام الشيوعي، اعتبرت عملاً انشقاقياً من قبل سلطات "اتحاد روسيا" الذي تولد هو نفسه من انحلال الامبراطورية السوفياتية، ففرضت حصاراً اقتصادياً على الجمهورية الصغيرة المنشقة، واعقبته بغزو مسلح، مصحوب بقصف مدمر بالطيران دام شهراً بتمامه. وكانت حصيلة تلك الحرب الاولى ما بين خمسين ومئة الف قتيل، اي ما يناهز عشر تعداد السكان الشيشانيين. لكن المفاجأة جاءت في 1996 عندما تمكنت قوات الانصار الشيشانيين، حتى بعد مصرع الجنرال دودايف بصاروخ روسي، من استرداد العاصمة غروزني، ومن اقامة حكومة جمهورية جديدة برئاسة اصلان مسخادوف الذي وقع مع موسكو في ايار مايو 1997 اتفاقية لإنهاء حالة الحرب ولعدم اللجوء الى القوة "الى الابد". لكن حال السلم هذه لم تدم مطولاً. فبعد انسحاب القوات الروسية تحولت الشيشان نفسها الى مسرح للحرب بين الشيشانيين، وتحديداً بين "العلمانيين" و"الاسلاميين". وتحت ضغط الاسلاميين، الذين تعاظم نفوذهم بقوة التمويل الخارجي ووفود متطوعين عرب، اضطر الرئيس مسخادوف الى الاعلان عن تطبيق "الشريعة". وكان الحلم بتوسيع الجمهورية الاسلامية الشيشانية لتشمل داغستان الروسية، التي تسللت اليها قوات باساييف والخطاب في آب اغسطس 1999، هو السبب في اندلاع الحرب الشيشانية الثانية التي ما زالت مستمرة الى اليوم. فبعد قصف دام اشهراً بالطيران وأدى الى تدمير البنية التحتية المدنية الشيشانية، وبعد حصار دام طيلة أشهر شتاء 1999 - 2000، سقطت العاصمة غروزني من جديد في ايدي القوات الروسية بعد ان تحولت الى انقاض وهجرها سكانها الذين قدر تعدادهم في حينه بربع مليون نسمة. لكن على رغم وجود مئة الف عسكري روسي على ارض لا تزيد مساحتها على 13 الف كلم2 اكبر بقليل من مساحة لبنان، ولا يزيد اجمالي تعداد سكانها من شيشانيين وانغوشيين وروس على المليون نسمة، وعلى رغم اعلان الرئيس بوتين نفسه في نيسان ابريل 2002 عن ان "المرحلة العسكرية من الحرب قد انتهت"، فان الحرب لم تضع اوزارها. فالمعدل الوسطي للقتلى في صفوف القوات الروسية لا يقل عن الخمسة في اليوم الواحد، والكمائن وعمليات التفجير تتوالى بإيقاع اسبوعي، ولا يندر ان يُسقط "المجاهدون" للروس طائرات هليكوبتر كتلك التي اسقطوها يوم 18 آب 2002، ما ادى الى مصرع 118 ضابطاً وجندياً روسياً. وفي 27 كانون الاول ديسمبر 2002، تم تفجير سيارتين مفخختين امام مبنى الادارة الروسية في غروزني، مما اوقع 72 قتيلاً. وفي الوقت الذي بقيت فيه الجبال المحدقة بغروزني حيث يتحصن الرئس مسخادوف وبضعة آلاف من رجاله، منيعة على القوات الروسية، نجح الشيشانيون في نقل عملياتهم الى داخل روسيا، بل الى قلب موسكو بالذات كما في عملية الاستيلاء "المسرحية" على مسرح "دوبروفكا" في موسكو واحتجاز 700 رهينة فيه، مما اسفر في ختام العملية عن سقوط 167 ضحية 117 رهينة و50 مهاجماً اكثرهم من الشيشانيات الأرامل. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا تستمر هذه الحرب الشيشانية على رغم انه كان يفترض فيها ان تنتهي منذ زمن طويل بحكم اللاتكافؤ المطلق عددياً ونوعياً على حدّ سواء بين بضعة آلاف من "المجاهدين" الشيشانيين واكثر من مئة الف من القوات النظامية الروسية المجهزة بالطيران والدبابات والصواريخ؟ الجواب الذي يبدو انه لا يحتمل نقاشاً: ان هذه الحرب لا تنتهي لأنه لا يراد لها ان تنتهي. اولاً من الجانب الشيشاني. فصحيح ان هناك رجلاً واحداً له مصلحة في ان تنتهي هذه الحرب، وهو الرئيس مسخادوف، الا ان اضطراره الى تجديد التحالف مع الاسلاميين بعد الاجتياح الروسي عام 2000 قد جعله ايضاً اسيراً لهم، او بالأحرى لاستراتيجيتهم. فالاسلاميون من جماعات باساييف وفاتح والخطّاب الذي لقي مصرعه يوم 19 نيسان 2002، لا يريدون الحرب في الشيشان محض حرب شيشانية. فهي ليست في نظرهم حرب تحرير قومي، بل حرب جهادية. وهذا تحول ايديولوجي جذري عرفته المقاومة الشيشانية منذ آلت القيادة من ايدي الملاّت والائمة التقليدية ومشايخ الطرق النقشبندية والقادرية الى ايدي العقائديين الاسلاميين الجدد المتخرجين من مدارس الاسلام السياسي في الشرق الاوسط. والحال ان هذه القيادات الجديدة المتأدلجة والمدعومة بالمال والرجال من خارج الشيشان كانت، في فترة السلم النسبي ما بين الاجتياحين الروسيين، في حالة قطيعة مع المدنيين الشيشانيين الذين كانوا ينظرون اليها بعين التشكك ويرفضون الانصياع لتوجيهاتها في أسلمة مظاهر الحياة اليومية. فمن اصل 700 ألف شيشاني لم ينضم الى الاسلاميين في فترة 1996 - 1999 سوى ثلاثة آلاف شاب. كما ان العدد الضئيل من الشيشانيات اللواتي ارتدين الحجاب فعلن ذلك في معظم الاحوال مكرهات، وفقط في المناطق التي كانت تخضع للميليشيات الاسلامية. وفضلاً عن ذلك وقعت مصادمات مسلحة وعمليات تصفية جسدية في صورة يومية بين الجهاديين الاسلاميين وانصار مسخادوف. وكاد مسخادوف نفسه يذهب ضحية اغتيال. والحال ان الانتقال من حال السلم القلق الى حال الحرب المستمرة أسهم، لا في رأب الصدع داخل المعسكر الشيشاني فحسب، بل ايضاً في تغليب المنطق الجهادي على المنطق السياسي. فمن مرجعية قومية تحولت المقاومة الشيشانية الى مرجعية اسلامية. وقد بدا ذلك واضحاً في عملية مسرح "دوبرفكا" بالذات اذ غلب الخطاب الاسلامي في بيانات الاستشهاديين الذين نفّذوا العملية على الخطاب القومي. كذلك فان الصور التي عرضتها قناة "الجزيرة" في حينه للانتحاريات الشيشانيات اظهرتهن متلفحات بالبرقع الاسود ومتمنطقات بالمتفجرات، في الوقت الذي كان فيه الرجال يتكلمون، لا بلغة التحرير الوطنية، بل بلغة الاستشهاد الدينية. وفي الواقع، وكما كان لاحظ مندوب شيشاني للرئيس مسخادوف في فرنسا، فإنه "كلما طالت الحرب طالت اللحى اكثر". ومن الجانب الروسي ثانياً. فالجهاديون الشيشانيون يؤدون للرئيس بوتين الدور الذي اداه ويؤديه البنلادنيون للرئيس بوش. فهم يقدمون له على طبق من فضة "العدو الخارجي" الذي من شأنه ان يرصّ الصفوف من حوله ويرفع أسهم شعبيته ويغطي على جوانب القصور والفشل في سياسته الداخلية والاقتصادية. وليس من قبيل الصدفة ان الرئيس الروسي قد تقصّد ان يقيم علاقة مماثلة ومساواة بين حربه ضد "الارهابيين" الشيشانيين وحرب الرئيس الاميركي ضد الارهابيين البنلادنيين. ولقد صرح بنفسه ان "التفاوض مع مسخادوف سيكون اشبه بالتفاوض مع ابن لادن". ولكن حتى لو كان بوتين يود، بينه وبين نفسه، ان يهتدي الى مخرج سياسي للازمة الشيشانية، فانه لا يستطيع بصفة رسمية ان يقبل بعروض التفاوض التي لا يفتأ مسخادوف يرسلها باتجاهه. فالرئيس الشيشاني قد يحلم، في محصلة الحساب، بأن يحرّر نفسه من هيمنة الجهاديين الذين يريدون المضي بالحرب الى النهاية. لكن الرئيس الروسي يبدو عاجزاً في المقابل عن فك نفسه من اسار الاستراتيجية التي اوصلته الى السلطة. وهاك، في الداخل الروسي، من يصوره بالفعل على انه رهينة للعسكريين والمسؤولين في اجهزة الاستخبارات التي هو من خريجيها. والحال ان هؤلاء العسكريين والاستخباراتيين لا يريدون بحال من الاحوال للحرب الشيشانية ان تضع اوزارها. فعدا الهالة العسكرية التي تزداد تألقاً في ازمنة الحرب، فان الحرب تلك مصدر رزق يومي لجنرالات الجيش الروسي وضباطه الذين أكل التضخم رواتبهم. فالشيشان هي اليوم اوسع سوق من نوعها في العالم لتجارة النفط اللامشروعة. وتنتشر في القرى الشيشانية مئات المصافي الصغيرة التي تعمل في الخفاء وتضمن بيع النفط لجميع المناطق المجاورة بأسعار "متهاودة" للغاية. وفي تشرين الاول اكتوبر من العام الماضي اعلن الجنرال مولتنسكوي بلهجة مظفرة عن تدمير ثلاثمئة مصفاة غير شرعية. وبالاضافة الى النفط تزدهر في الشيشان "تجارة الاحياء والاموات". فالكثير من الاشخاص الذين يقعون في "الأسر" او يوقفون قيد التحقيق يُعاد اطلاق سراحهم، اي "بيعهم" مقابل مبالغ يُتفق عليها مع "الوسطاء" وتزداد مقاديرها تبعاً لأهمية الشخص الأسير او المعتقل. ويسري هذا القانون نفسه على "تجارة الاموات": فالشيشاني الذي يقتل لا تعاد جثته في الغالب الى اهله الا مقابل "رسم" لا يقل في العادة عن 7500 روبل، اي ما يعادل نحوا من 300 دولار. وهو مبلغ زهيد بحد ذاته ، لكنه يعادل عملياً ضعفي او ثلاثة اضعاف المرتب الشهري للضباط الروس. ثم ان اختلاس الاموال المرصودة "لاعادة اعمار" الشيشان يشكل مصدراً ثالثاً للارتزاق في الحرب. وتبعاً للتقديرات الروسية الرسمية فان حجم الاختلاسات بلغ في العام 2002 وحده نحواً من 700 مليون روبل، اي ما يعادل اكثر من 25 مليون دولار. حرب الشيشان اذاً مرشحة للاستمرار الى أجل غير مسمى. فهي حرب تغذّي نفسها بنفسها وتبني منطقها الخاص بها ميدانياً بمعزل عن الاستراتيجيات النظرية التي ترسم في مقرات هيئات الاركان. وفي هذه الحرب، التي يبدو النصر فيها مستحيلاً والهزيمة ايضاً مستحيلة، فان ثمة طرفاً واحداً يدفع الثمن باستمرار، هو الشعب الشيشاني، او البقية الباقية منه. فالشيشانيون هم اليوم، بكل ما في الكلمة من معنى، فلسطينيو القوقاز.