لم يحدث أن شهدت المنطقة العربية زلزالاً سياسياً منذ صعود وانكسار مشروع عبد الناصر، مثلما حدث أخيراً بعد فوز حركة"حماس"في الانتخابات الفلسطينية، لتدخل عملياً مرحلة جديدة تختلف بصورة جذرية عن تلك التي عرفتها أثناء مرحلة المقاومة المسلحة، وأصبحت مطالبة بتقديم استحقاقات غير ايديولوجية في الحكم تحكمها توازنات القوى الدولية والمحلية لا رغبات"حماس"وأمانيها في إزالة إسرائيل من الوجود، واعتبار كل أرض فلسطين التاريخية أرضا محتلة يجب تحريرها، ونتيجة لذلك فإن"حماس"لم تتحدث عن سلام مع إسرائيل إنما عن هدنة تضطر بمقتضاها إلى الاعتراف بحدود آمنة بين الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع والدولة العبرية. وقد اعتبر هذا الموقف مبرراً للولايات المتحدة وأوروبا لرفض أي حوار مع"حماس"، وقامتا بفرض حصار سياسي ومادي عليها، في محاولة لعزلها عن الشعب الفلسطيني وعن المجتمع الدولي، والضغط بكل السبل من اجل افشال مشروعها السياسي. والحقيقة أن استراتيجية"كسر حماس"التي اعتمدتها الإدارة الأميركية والقائمة على فرض حصار اقتصادي صارم على الحكومة الجديدة ومنع أي تحويلات مالية من الوصول إليها، ورفض أي حوار ديبلوماسي معها، أدت إلى الاستمرار في الحلقة المفرغة نفسها التي لا تساعد"حماس"على القيام بأي مراجعات فكرية أو سياسية لموقفها من إسرائيل، وعكست أيضا غياب أي رغبة حقيقية لدى الإدارة الأميركية في الضغط على إسرائيل من أجل التزامها بالشرعية الدولية، بما يعني استمرار"حماس"والحركات الإسلامية في ترديد خطاب"المؤامرة"على الشعب الفلسطيني وعداء الغرب للإسلام والمسلمين، خصوصاً أن الموقف الأميركي المتشدد من الحكومة المنتخبة خلق تربة مؤاتية لتصاعد هذا الخطاب. والحقيقة أن الولاياتالمتحدة اختارت عدم التعامل مع"حماس"، باعتبارها تشكل"خطراً على أمن إسرائيل". ورغم أن الاعتراف بالخيار الديموقراطي للشعب الفلسطيني يعني في الواقع ضرورة التعامل مع"حماس"، ويعني بالنتيجة ضرورة دمجها في المعادلة الدولية والإقليمية الجديدة لا استئصالها، إلا أن الإدارة الأميركية اختارت سياسية حصار"حماس"وعزلها. وبدت هذه البيئة الاستبعادية على المستوى الدولي مماثلة للبيئة الداخلية العربية الرافضة أيضا للتعامل مع الإسلاميين ودمجهم في عملية الإصلاح السياسي المتعثرة لهذا السبب تحت حجج كثيرة منها الخطر على أمن البلاد، أو أمن إسرائيل كما تردد الإدارة الأميركية. إن قبول المجتمع الدولي ب"حماس"كشريك منتخب في العملية السياسية لا يعني في واقع الأمر تسليمه بكل خطاب الحركة ومفرداتها، بقدر ما يعني القبول بمبدأ التفاعل بين الجانبين، وإيجاد علاقة للتأثير والتأثر تساعد"حماس"على التطور والاندماج في المنظومة الدولية من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، كما تدفع الجانب الأميركي - الإسرائيلي الى الالتزام باستحقاقاته التي يتملص منها تحت حجج واهية أبرزها وصول"حماس"للسلطة. ويبدو أن الخيار الدولي استقر على استبعاد"حماس"من العملية السياسية حتى يمكن لإسرائيل أن تتملص بقدر الإمكان من الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، ومن تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، ولا يبقى أمام الفلسطينيين إلا القبول بأقل من نصف الضفة الغربية، وبقاء المسجد الأقصى والحي القديم - وليس القدسالشرقية - في دائرة مفاوضات شاقة بين الجانبين العربي والإسرائيلي. والمدهش أن الموقف الأميركي من رفض الحوار مع"حماس"قد تواكبت معه حماسة شديدة للحوار مع التيارات الإسلامية السنية المختلفة في العراق وعلى رأسها"الحزب الإسلامي"العراقي المنتمي إلى"مدرسة الإخوان المسلمين"، والذي بذلت الإدارة الأميركية جهوداً كبيرة لدعوته إلى المشاركة في العملية السياسية، بل أنها قامت بالتحاور مع بعض الفصائل الإسلامية العنيفة والتي تمارس أعمال مقاومة مسلحة ضد الاحتلال، في مفارقة تبدو صارخة، خصوصاً أن الجانب الأميركي في الحالة العراقية هو الذي ألح على الفصائل الإسلامية السنية من أجل المشاركة في العملية السياسية، واعترف بدور المرجعيات الدينية الشيعية الحاسم في العملية السياسية، في حين قام برفض نتائج الانتخابات الديموقراطية في فلسطين لأنها أدت إلى فوز"حماس"الأكثر اعتدالاً من بعض الجماعات السنية في العراق. ويبدو الموقف الأميركي من"حماس"متناقضاً مع مواقفها في العراق وبعض الأماكن الأخرى، إذ خضعت للمصلحة الضيقة وليس للمبادئ الديموقراطية، وبدا الحفاظ على أمن إسرائيل والقبول بسياستها الاستعمارية كآخر دولة احتلال في العالم هو المبرر الوحيد وراء هذا الموقف من الحكومة الفلسطينية المنتخبة. والمؤكد أن الخيار الآخر الذي استبعدته الإدارة الأميركية، والقائم على القبول ب"حماس"في العملية السياسية والتحاور معها كشريك في عملية التسوية، من شأنه أن يعيد تشكيل خطاب"حماس"مرة أخرى على أسس جديدة، خصوصاً إذا نجحت في التوصل إلى تسوية مع إسرائيل برعاية أميركية، لأن هذا سيعني دخول الحركات الاسلامية مرحلة جديدة، ستضطر فيها إلى الاعتراف بإسرائيل بكل ما يمثله ذلك من"انقلاب"جذري في أدبيات هذه الحركات، التي اعتادت على دعم شكل واحد من أشكال المقاومة وهو المقاومة المسلحة، كما أنه سيدفع"حماس"إلى مراجعة عميقة لخطاب الهدنة مع إسرائيل في اتجاه البحث عن خطاب سياسي لا يعتمد الحرب والمواجهات المسلحة كطريق أساسي للتعامل مع اسرائيل، وسيفتح الباب أمام خطاب إنساني قائم على احترام حقوق المواطنة في فلسطين المحررة، والعمل على بناء دولة لكل المواطنين تعترف بحق اليهود والمسيحيين والمسلمين في العيش بسلام داخل دولة مدنية في فلسطين التاريخية. ومن المؤكد أن التقدم في مسار التسوية السلمية سيؤدي إلى تقدم مماثل في طريقة تعاطي"حماس"والحركات الإسلامية مع قضية الصراع العربي - الإسرائيلي والمرشحة لتغيير جذري بصورة ستضطرها إلى فتح المجال أمام ظهور مفاهيم جديدة عن المساواة وحقوق المواطنة، والعمل على تفكيك الأساس العنصري والتمييزي الذي تقوم عليه الدولة العبرية. ولذا فإن هذا التقدم المعطل في مسار التسوية سيفرض على"حماس"اكتشاف أدبيات سياسية ونضالية جديدة تختلف عن تلك التي عرفتها وهي خارج السلطة وطوال فترة المقاومة المسلحة، وستتجه نحو المقاومة السلمية، والعمل على بناء حيز إنساني في التعامل مع أبناء الديانات الأخرى، واعتبار التوصل الى حل الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع نهاية لمفاهيم عقائدية وسياسية كاملة تبنتها"حماس"ومعها معظم الفصائل الإسلامية، لأنه سيفتح الباب امام خطاب إسلامي إنساني يسعى إلى استقطاب حلفاء جدد على أسس غير دينية لا تقوم على تقسيم العالم بين مسلمين وغير مسلمين، إنما على أساس العدالة والمساواة والحرية، وهنا ستكون الدولة الفلسطينية الديموقراطية أكبر مصدر للقلق في وجه الدولة العبرية القائمة على التمييز بين مواطنيها اليهود والعرب. والمؤكد أن الولاياتالمتحدة التي جرت أوروبا خلفها، اختارت استبعاد"حماس"وكسرها، لتساعد على بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وليجد بعض العرب أن طريق"المقاومة" الوحيد هو الإرهاب لإيلام الآخر والنفس، ولتغيب من الأفق المنظور أي فرص لحل عادل للقضية الفلسطينية، ولأي صوت معارض للإدارة الأميركية في ساحة السياسة والأفكار، ليبقى العالم العربي أسير ثنائية النظم المعتدلة، والمعارضة الجهادية الراديكالية. أما تجارب"حماس"والقوى الإصلاحية العربية ونموذج النظام الايراني، فلا مكان لها على الساحة الدولية، لأن الإدارة الأميركية تفضل الحوار مع المطيعين، أما المعارضون فيفضل أن يصنفوا ضمن الجماعات الإرهابية، أما القوى التي تختلف سياسيا مع الولاياتالمتحدة وتمتلك وزناً شعبياً ويمكنها أن تؤثر في الساحة العالمية والمحلية فلا مكان لها في مخططات الإدارة الاميركية. * كاتب مصري