تبدو حركة"حماس"التي أعلنت اسرائيل والولايات المتحدة أنهما لن تتعاملا مع منتخبيها طالما انها لم تتخل تماماً عن"ممارسة الارهاب"ولم تشطب كل البنود التي تتحدث عن"ابادة اسرائيل"في برنامجها، وقبل أن تقرر حكومة ايهود أولمرت استبعاد مرشحيها من دخول مدينة القدس أو القيام بحملة انتخابية فيها بعدما اعتبرت أن انتخاب أكثرية من هذه الحركة في المجلس التشريعي سيخلق وضعاً جديداً يحتاج الى تقويم جديد وسياسة جديدة على الأصعدة كافة، تبدو وكأنها تسير في حقل ألغام ايديولوجي وسياسي وميداني على رغم كل الثقة التي تحاول اسباغها على موقفها وخطواتها، وعلى رغم كل الشعبية والتأييد اللذين تحظى بهما في صعيد الشارع الفلسطيني الذي قلّص، في آخر استطلاعات الرأي، الفارق بينها وبين"فتح"التي تمتلك السلطة والنفوذ ووسائل الاعلام، الى نحو خمسة في المئة فقط من أصوات الناخبين، وذلك لأسباب عدة ومتنوعة أهمها فساد السلطة وتداعي أدائها السياسي والأمني والاجتماعي. ويمكن تلمس جوانب هذه المعضلة البنيوية المركبة ليس فقط من خلال العراقيل والعقبات الداخلية والاقليمية والدولية التي توضع في وجه مشاركة"حماس"في الانتخابات، وتقليص فرصها في حصد حصة وافرة في المجلس المقبل، وانما أيضاً عبر الالتباس الايديولوجي والسياسي الذي خلفه أداؤها السياسي وبرنامجها الانتخابي والاشارات المتناقضة التي يوزعها قادتها في كل الاتجاهات. في الأصل، تقوم رؤية"حماس"على اعتبار مواجهة اسرائيل ومقاومتها في فلسطين واجبة حتى النصر والتحرير. ويأتي القتال وإلحاق الأذى بجنود اسرائيل وآلياتها على رأس وسائل المقاومة. أما العمل السياسي فهو احدى وسائل الجهاد، ويهدف الى تقوية جهاد الشعب الفلسطيني وصموده في مواجهة الاحتلال، وحشد الطاقات الفلسطينية والعربية والاسلامية لنصرة القضية والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وعرض قضيته العادلة أمام المجتمع الدولي. والى جانب ذلك ثمة قناعات خمس لدى الحركة، الأولى تتمثل في قبول"الحل المرحلي"المشروط للقضية الفلسطينية، والذي يجد مدخله الشرعي الديني في الهدنة التي تختلف عن اتفاقية السلام كون أمدها محدوداً بفترة معلومة وليس فيها تسليم باغتصاب الحقوق، والثانية اشتراط عدم الاعتراف بإسرائيل، والثالثة وجوب طرد الاحتلال واجبار الجيش الاسرائيلي على الانسحاب، والرابعة ضرورة تبلور فكرة الهدنة واشتراطاتها، فيما تتمحور الخامسة حول السعي الى اجراء استفتاء شعبي فلسطيني للوصول الى اجماع أو شبه اجماع وطني في شأن الخيارات المصيرية للشعب الفلسطيني. اما الحامل الرئيس لهذه القناعات فهو العمل العسكري الذي يحتل موقعاً مركزياً في فكر"حماس"وممارستها واستراتيجيتها. غير ان هذه الرؤية الارثوذكسية التي ما زالت ترشح في المهرجانات الجماهيرية وبعض التصريحات النارية، تعرضت، في الواقع، لمراسية سياسية"غير معلنة"على خلفية التطورات النوعية والتداعيات التي أعقبت احداث 11 أيلول سبتمبر 2001، ولا سيما حصول آرييل شارون على ضوء أميركي أخضر لتصعيد عمليات جيشه في المناطق الفلسطينية، واعلانه"حماس"وبعض التنظيمات الاخرى منظمات ارهابية، وتجميد اصول العديد من المؤسسات المتهمة بتزويدها بالاموال، وما تلى ذلك من احتلال اميركي للعراق واغتيال لقائدي الحركة التاريخيين، الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبدالعزيز الرنتيسي، وحصول شارون على"وعد بوش". وكان ابرز تجليات هذه المراسية اتخاذ"حماس"في 12 آذار مارس 2005 قراراً مفصلياً بخوض انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني بهدف"تأسيس حكومة قوية في مناطق السلطة تحارب الفساد، وتساند المواطنين الذين لحق بهم الضرر جراء الاعتداءات الاسرائيلية عليهم"، مع عدم نسيان القول ان"كتائب القسام"جاهزة لمواصلة المقاومة ضد الاحتلال. وبعيداً من الغوض في الحيثيات الاضافية لهذا التطور، والمرتبطة اساساً بفوز"حماس"في الانتخابات البلدية وما شكله ذلك من حافز لمحاولة تغيير المشهد الفلسطيني، والمتصلة كذلك بخلافات"فتح"الداخلية التي وصلت الى حدود غير مسبوقة، ما رفع اسهم التشكيك في قدرة الحركة على اعادة التوازن الى صفوفها وترتيب بيتها الداخلي قبل الانتخابات التشريعية، وشجع قيادة"حماس"على استغلال هذا الظرف واسقاط تحفظاتها السابقة عن احد أبرز افرازات"اتفاق أوسلو"المجلس التشريعي تحت حجة ان الاتفاق المذكور تجاوزته الانتفاضة، وان ليس في القانون الانتخابي ما يلزم بهذا الاتفاق، فان من الصعوبة بمكان مواءمة خطاب"حماس"العمومي والمفتوح، لا بل والملتبس الى حد التناقض، مع الصمت على الخروقات الاسرائيلية المتكررة، كما يصعب فهم اصرارها على اعتبار الانسحاب الاسرائيلي الآحادي من قطاع غزة والذي حول القطاع سجناً كبيراً ومرمى لنيران المدفعية الاسرائيلية ومرتعاً لعصابات البلطجة والابتزاز، انتصاراً لخيار المقاومة، ودليلاً على صحة خطها الجهادي، لا على قاعدة التحول"البراغماتي"الذي طرأ على مواقفها اذ بدا جلياً انها بدأت تعد العدة لوراثة حركة"فتح"التي ما زالت مبادئها وثوابتها المدونة تعتبر الكفاح المسلحة استراتيجية وليس تكتيكاً، وتصر على تحرير كل فلسطين عبر حرب الشعب الطويلة الامد. وعليه، وبصرف النظر عن الشعارات الفضفاضة التي تصلح لكل زمان ومكان، يمكن الزعم بأن"حماس"التي خلا بيانها الانتخابي من اي اشارة الى"تدمير اسرائيل"، باتت تتحدث بلسانين متناقضين: الأول يعيد تأكيد رفض التفاوض مع الكيان الصهيوني ويعلن التمسك بالثوابت المعروفة تصريحات الدكتور محمود الزهار، والثاني يعلن، عبر صحيفة"هآرتس"، الاستعداد للتفاوض مع اسرائيل"في شكل افضل من الباقين الذين لم يحصلوا على شيء خلال عشر سنوات"الشيخ محمد أبو طير المرشح الثاني على قائمة"حماس"الوطنية ما يعني في حال استبعاد أي صراع سياسي داخل الحركة، ان"حماس"تندفع في اتجاه تكييف مواقفها وسياساتها مع مقتضيات اللعبة السياسية، وتهرول، عملياً على الأقل، نحو وراثة حركة"فتح"ووراثة منظمة التحرير، وضمناً السلطة الفلسطينية، وهو ما يزيد الخشية من ان تكون المرحلة المقبلة محكومة، في حال فوز"حماس"، بأشكال مختلفة من الاستقطاب السياسي والإيديولوجي ومحاولات الإقصاء، وتالياً انحراف الصراع والمواجهة نحو الداخل الفلسطيني. وليس مقنعاً، والحال هذه، تكرار المزاعم القائلة ان الإسرائيليين الذين اغتالوا"ابو عمار"وهمّشوا محمود عباس ورفضوا اعتباره شريكاً سياسياً، لن يقبلوا التعاطي مع خالد مشعل ومحمود الزهار وأكرم هنية، كما من غير المنطقي تغطية هذا الالتباس بمحاولة تحويل الأنظار في اتجاه الزعم بأنه في حال فوز"حماس"فإن السيناريو الأكثر احتمالاً هو ان يقوم محمد دحلان وجبريل الرجوب، وبدعم اسرائيلي واميركي وعربي، بتكرار السيناريو الجزائري. فپ"حماس"التي تؤكد ادبياتها وخطابها ان المقاومة المسلحة هي الخيار الرئيس لتحرير فلسطين، والتي ابدت استعدادها لحماية صناديق الاقتراع، ليست"جبهة الإنقاذ الإسلامية"، ودحلان والرجوب ليسا عسكر الجزائر الذي وقفت خلفه دول كبرى، وقطاع غزة وشظايا الضفة الغربية ليست المليون ونصف مليون من الكيلومترات الجزائرية المتخمة بالنفط والغاز، والتي تشكل مركز استقطاب اقليمي ودولي. ولئن كانت الملاحظات السابقة على اداء"حماس"والتباسات خطابها وموقفها، لا تعني بأي حال الانتقاص من دور الحركة، فإن ثمة اسئلة اضافية ملحة تفرض نفسها: ما الذي يضغط على الإسرائيليين وإدارة جورج بوش التي تتعامل بانتقائية مرعبة مع مسألة"الديموقراطية"في انحاء العالم كي يلتزموا تسهيل هذا الاستحقاق الفلسطيني؟ وهل ثمة ضمانة بأن يكون هذا الاستحقاق مفتاحاً لطرق ابواب الحقوق الوطنية الفلسطينية الموصدة بالجدار والاستيطان وتهويد القدس ورفض حق العودة، ام انه سيصب في خانة الإدارة الأميركية التي تختصر عملية الدمقرطة المزعومة في مسألة الانتخابات، اياً كان شكلها ولونها؟ ثم أليست هناك أية خشية في ظل موازين القوى القائمة على الأرض من تورط"حماس"في محرقة السلطة ومتطلباتها السياسية والأمنية، وبالتالي إضعافها وسحب بساطها الجماهيري، ام ينبغي التسليم بالوعود والنيات الطيبة التي ترصف الطريق الموصل الى الجحيم؟ كاتب فلسطيني