لو هبط شخص جدلاً من المريخ وتابع ما يجري في منطقتنا فربما يصيبه الدوار مما يجري. الولاياتالمتحدة تروِّج حول العالم لفكرة أن ايران عدو البشرية وخطر مباشر على المصالح الأميركية بل ومصالح الغرب كله. وأميركا تدعو الى عقاب سريع وصارم ونهائي لمنع الخطر الإيراني حتى تشعر أميركا والمنطقة والعالم بالأمن والسلام. المفارقة هنا هي أن ايران هي الدولة الصغيرة النامية المحاصرة بينما أميركا هي القوة العظمى المنفردة حالياً بعرش القوة العالمية. أميركا أيضاً تنفق على تسليح نفسها سنوياً ما يعادل انفاق باقي العالم كله. والقوات الأميركية لا تحيط فقط بإيران من خلال احتلالها للعراق غرباً وأفغانستان شرقاً، وانما القواعد الأميركية موجودة في تركيا أيضاً زائد قطر وأوزبكستان بغير أن نذكر حاملات الطائرات والغواصات الأميركية في مياه الخليج وبعضها مسلح نووياً، وبغير أن نذكر كذلك الأسطول الأميركي الخامس في المحيط الهندي. لم تبدأ القصة الأميركية مع ايران بالملف النووي. بدأت أصلاً منذ قيام المخابرات الأميركية بقلب حكومة محمد مصدق في سنة 1953 وهي المنتخبة ديموقراطياً من الشعب الإيراني. وكل ذلك بسبب تجرؤ حكومة مصدق وقتها بدعم من البرلمان على تأميم البترول الإيراني. بعد 26 سنة من عمالة شاه ايران لأميركا واسرائيل وبترول ايراني برخص التراب، قامت ثورة شعبية في ايران بجذور حقيقية في التربة الأيرانية. من وقتها والحصار الأميركي لايران مستمر، فضلا عن العقوبات وفي بعض الأحيان الضربات العسكرية. أميركا لم تشجع صدام حسين فقط على غزو ايران ولكنها في المرحلة الأخيرة من حربه ساعدته بتدمير نصف الأسطول الإيراني في الخليج وأسقطت طائرة ركاب مدنية بكل ركابها قتلى... وبحجة أن الأمر من باب الخطأ. لكن بغير خطأ ربما يتذكر العالم أن أميركا، كعقاب آخر للثورة الأيرانية، صادرت الودائع الأيرانية في البنوك الأميركية، ولا يزال هناك عشرة بلايين دولار مصادرة أميركياً منذ 1979 وهي أساساً أموال الشعب الإيراني، وترفض أميركا مجرد التفاوض على اعادتها. وفي الحملة الدعائية المتصاعدة ضد ايران تلوح أميركا بورقة الخطر النووى الإيراني. التوجه النووي الإيراني بدأ أصلاً في عهد شاه ايران وبتكنولوجيا أميركية ثم ألمانية. وبعد توقف موقت في البرنامج عقب نجاح الثورة استأنفت ايران برنامجها السلمي بالقواعد المسلم بها في المجتمع الدولي. ايران منضمة أصلاً الى معاهدة منع الانتشار النووي منذ سنوات الشاه وهي جددت عضويتها في وكالة الطاقة النووية. وبتلك الصفة فإن كل البرنامج النووى الإيراني السلمي هو تحت مراقبة ومتابعة الوكالة الدولية ومفتشيها. وزيادة في طمأنة المتخوفين وقعت ايران في كانون الاول ديسمبر 2003 بروتوكولاً اضافياً ألحت به عليها كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا. ولأن الطمأنة لم تمض في اتجاهين كما كان متفقاً عليه استأنفت ايران عملية تخصيب اليورانيوم، وهو حقها الطبيعي أصلاً ككل الدول الأعضاء في وكالة الطاقة النووية. التربص الأميركي بأيران كان سابقاً على ذلك بكثير. الكونغرس الأميركي مثلاً أصدر قانوناً يعاقب أي دولة تستثمر أكثر من عشرين مليون دولار في صناعة البترول الأيرانية عقوبة اضافية في قائمة العقوبات الأميركية ضد ايران منذ 1979، ولأن الإدارة الأميركية الحالية جاءت الى السلطة أصلاً ولديها برنامج معلن للهيمنة العالمية ومشروع امبراطوري باتساع العالم، فأنها لم تكتف بغزو أفغانستانوالعراق ولكنها أيضاً تعد مبكراً لغزو ايران... وبالقليل اسقاط النظام الحاكم فيها. وفي صيف 2004 استصدرت الأدارة من الكونغرس قراراً باتخاذ"كل الاجراءات الملائمة"لمنع برنامج التسلح الإيراني. القرار بصياغته تلك يكاد يصبح تفويضاً على بياض بشن حرب أميركية ضد ايران. بتعبير زبيغنيو بريزينسكي مستشار الأمن القومي الأسبق في رئاسة جيمي كارتر فإن" شن هجوم على ايران سيكون عملاً من أعمال الحماقة السياسية لأنه سيؤدي الى اطلاق سلسلة من الفورانات متصاعدة الدرجة في الشؤون الدولية. واذا أخذنا في اعتبارنا أن الولاياتالمتحدة تتحول الآن وبشكل متزايد الى هدف للكراهية في الكثير من مناطق العالم فإن ذلك قد يعني أن عنصر التفوق الأميركي ربما ينتهي قبل الأوان. وعلى رغم أن الولاياتالمتحدة هي القوة المهيمنة في العالم في الوقت الراهن، فإنها لا تملك القوة ولا النية لفرض ارادتها والاستمرار في فرض تلك الارادة في وجه مقاومة طويلة ومكلفة. وهذا بالتأكيد هو الدرس الذي خرجت به من تجربتيها في فيتناموالعراق". لكن مثل هذا التأكد لدى بريزينسكي ليس صحيحاً، على الأقل بالنسبة للإدارة الأميركية الحالية. فحتى الآن، وبعد ثلاث سنوات من غزو العراق و160 ألف جندي للاحتلال و 2400 قتيل أميركي ومئات البلايين من الدولارات لا تزال الادارة تتحدث عن عراق آخر غير الموجود في الواقع ونشرات الأخبار. وبرغم تلميحات مراوغة عن امكانية الانسحاب الأميركي من العراق يوماً ما"حينما تكتمل المهمة"غير المعلنة فإنها تقيم القواعد العسكرية الدائمة في العراق فضلاً عن انفاق ألف مليون دولار لاقامة سفارة محصنة في بغدلد ستكون الأكبر في العالم. والقوات العراقية التي تدربها أميركا هى بهدف أن تتصدى هي لحماية قوات الأحتلال الأميركي مستقبلاً. وحتى حينما اعترفت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية أخيراً على استحياء بارتكاب آلاف من الأخطاء التكتيكية في العراق حرصت في نفس الجملة على أن تؤكد صحة الهدف الاستراتيجي من الذهاب الى العراق. مع ذلك فوزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد ينكر حتى الأخطاء التكتيكية قائلاً انه لا يعرف شيئاً من الذي كانت تتحدث عنه زميلته وزيرة الخارجية. وفي زيارته الأخيرة المفاجئة والقصيرة الى العراق مع وزيرة الخارجية لم يجرؤ وزير الدفاع رامسفيلد على الخروج من المنطقة الخضراء، في وقت لا يكف عن الصياح بأعلى صوته في البرامج التلفزيونية المحافظة"منوِّهاً بالتقدم المحرز في العراق، وموجهاً لومه الى التغطية الصحافية التي تغفل عن نقل الأنباء السارة. لكن اذا كانت هناك فعلاً أنباء سارة، فلماذا لم نرَ رامسفيلد يتجول في أقرب مركز تجاري في بغداد، بدلاً من الاختباء في احدى القواعد العسكرية الأميركية التي أطلق عليها للمفارقة اسم: معسكر النصر"بكلمات الكاتبة مورين داود في"نيويورك تايمز". وزير الدفاع الأميركي يرى في العراق اذن الكثير من الأخبار السارة التي يتجاهلها الاعلام، بينما وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت ترى أن غزو العراق كان واحدة من"أسوأ الكوارث"في تاريخ السياسة الأميركية. وكسرا لتقليد الأمتناع عن انتقاد القيادات المدنية خرج سبعة جنرالات بارزون متقاعدون يطالبون علنا بمحاسبة القيادات المدنية على خطاياها. أحدهم الجنرال المتقاعد غريغ نيوبولد الذي كان قائداً للعمليات المشتركة في قيادة الأركان وكتب يقول:"غداة أحداث 11/9/2001 كنت شاهداً على خطوات مهدت الطريق الى حرب العراق، وهي حرب غير ضرورية. وشهادتي على تلك الخطوات جعلت مني طرفا فيها... وقبل أربعة أشهر على غزو العراق استقلت من الجيش اعتراضاً على من استغل مأساة 11/9/2001 في سبيل حرف سياسة أميركا الأمنية عن مسارها. وأخرجتني أخطاء البنتاغون وزياراتي الأليمة الى المستشفى العسكري من صمتي وهزتني رؤية أجسام الجنود المحطمة والمبتورة. فثمن القيادة الخاطئة يُسدد دماً... إن الجندى يقسم على الولاء لقادته، بينما يقسم الضباط الولاء لدستور الولاياتالمتحدة". الدماء والضحايا والدستور ليست كلمات مألوفة ولا رادعاً مقبولاً في قاموس الادارة الأميركية الحالية. من هنا نلاحظ مثلاً أن التوجه الى غزو العراق لم تصحبه بأي قدر مناقشات جادة في الكونغرس الأميركي ولا في الأعلام الأميركي. كثير من الخنوع في جانب، والتضليل في جانب آخر سبق وعاصر غزو العراق. كثير من هذا أيضاً نلاحظه الآن في المناخ الهيستيري الذي تلفقه الادارة الأميركية على مدار الساعة في الحالة الايرانية. وكما كتب بريزينسكي أخيراً فإن"اعلان ايران عن تخصيب كمية قليلة من اليورانيوم أطلق العنان لنداءات مستعجلة لتوجيه ضربة جوية أميركية وقائية ضد ايران من نفس المصادر التي حثت من قبل على شن حرب ضد العراق. اذا وقع هجوم آخر في الولاياتالمتحدة فبامكانك أن تراهن على أنه ستكون هناك تهم فورية عن مسؤولية ايران من أجل خلق هيستيريا عامة لمصلحة الاجراء العسكري". لكن الهيستيريا بدأت فعلا ومتصاعدة على مدار الساعة. وكل ملاحقات ومناورات أميركا مع الصينوروسيا داخل وخارج مجلس الأمن والأمم المتحدة هدفها المعتاد هو تنحيتهم جانباً حتى تنجح أميركا في الاستفراد بأيران، وكأن أحداً لم يتعظ بالمرة من تلك الجناية المستمرة التي ترتكبها أميركا في العراق... ولا من سيناريو التضليل المتعمد الذي سبق الغزو واستمر من بعده. ربما نجد من يتعظ في السياق الأشمل، لكنه في هذه المرة ليس سوى الكاتب الأميركي الروسي الأصل الكسندر سولجينتسين الفائز بجائزة نوبل في الآداب سابقاً. ذلك الأديب الروسي كان أشهر المنشقين الخارجين غضباً واحتجاجاً على الاتحاد السوفياتي السابق، وفي حينها لجأ الى أميركا وحصل على جنسيتها فأصبح رسمياً مواطناً أميركياً. وبتلك الصفة تابع ما جرى لبلاده وما تفعله أميركا بروسيا من وقتها وآخره محاصرة روسيا ذاتها بقواعد حلف شمال الأطلسي. الآن يوجه سولجينستين اتهامه الى السياسة الأميركية علناً بأنها تسعى الى"تجريد روسيا من سيادتها"مفسراً بقوله:"إن حلف شمال الأطلسي يعزز في شكل مدروس وجوده العسكري في شرق أوروبا وحول روسيا من جهة الجنوب ويقدم دعماً مادياً وعقائدياً مكشوفاً لمساندة الثورات الملونة في فضاء الاتحاد السوفياتي السابق بهدف تطويق روسيا عسكرياً من الجهات كلها تمهيداً لتجريدها من سيادتها"... وحذر من أن"السياسة العدوانية للحلف وواشنطن التي تحمل شعارات نشر الديموقراطية الغربية يمكن أن تؤدي الى انهيار الحضارة المسيحية برمتها". الكلام موجع من أديب كبير خاب أمله السابق في السياسة الأميركية. لكن شيئاً من ذلك ليس وارداً بالمرة في حملة المشروع الأمبراطوري الأميركي. روسيا ساعدت أميركا عمليا في غزو أفغانستان. ايران أيضاً ساعدت ضمنياً في غزو أفغانستان. والآن أصبح كل منهما - روسياوايران - تحت الحصار الأميركي من مداخل مختلفة وتحت عناوين ملفقة. وقديما قيل ان السياسة تكره الفراغ وترفضه. الآن يقال إن السياسة الأميركية تصنع الفوضى وتجلس على حطامها لأنه من البترول والاستراتيجية ينعش المشروع الامبراطوري الأميركي الجديد. * كاتب مصري.