من حيث الشكل يبدو تململ اللجنة المختصة في مجلس الشيوخ الأميركي من التصديق على تعيين مندوب جديد للولايات المتحدة لدى الأممالمتحدة حدثاً داخلياً. لكن من حيث الموضوع بدا الترشيح نفسه وانقسام اللجنة بصدده هو في صلب الجدل العام بشأن رؤية إدارة جورج بوش للأمم المتحدة، ومن ثم رؤيتها للعالم. فالإدارة الأميركية رشحت بشكل متزامن رئيساً جديداً للبنك الدولي وكذلك سفيراً جديداً لها لدى الأممالمتحدة. بول ولفوفيتز الرجل البارز في وزارة الدفاع الأميركية وقطب الصقور المروجين لغزو العراق حصل بسلاسة على رئاسة البنك الدولي، ربما لأن الترشيح لا يحتاج إلى نقاش في الكونغرس الأميركي أو تصديق منه. ربما أيضا لأن كثيرين يتناسون حقيقة أن البنك الدولي هو مؤسسة تابعة للأمم المتحدة من الناحية الفنية. وعلى رغم أن حصة الولاياتالمتحدة في رأسمال البنك الدولي لا تتجاوز ثمانية عشرة في المئة إلا أنها بالتوافق مع أوروبا حصلت لمرشحها على المنصب، ومن هناك سيغير توجهات البنك الدولي أكثر وأكثر لحساب المصالح التي يمثلها. في ترشيح جون بولتون لتمثيل الولاياتالمتحدة لدى الأممالمتحدة، اتخذت المسألة منحى آخر لأن تصديق الكونغرس على الترشيح ضرورة حاكمة. وفى جلسات اللجنة المختصة جرى إعادة فحص مؤهلات ومواقف جون بولتون من حيث عدائه المعروف للأمم المتحدة بل وتحقيره لها بما جعل المعترضين يحتجون بأن شخصاً مثل هذا لن يكون الواجهة الملائمة لأميركا داخل المنظمة الدولية. أما الإدارة الأميركية فأعلنت صراحة أنها على العكس ترى أن جون بولتون تحديداً هو الشخص المناسب لتمثيل الولاياتالمتحدة في هذه المرحلة أمام المجتمع الدولي الذي تمثله الأممالمتحدة. يتزامن هذا الجدل مع حملة متصاعدة شنها صقور اليمين الأميركي ضد كوفي أنان السكرتير العام للأمم المتحدة بحجة الفساد في إدارة برنامج"النفط مقابل الغذاء"الذي كان معمولاً به مع العراق حتى إسقاط النظام في نيسان ابريل 2003. ومن جانبه رد أنان باتهام مضاد ذكر فيه إن الولاياتالمتحدةوبريطانيا هما تحديداً اللتان غضتا النظر عن قيام نظام صدام حسين بتهريب صادرات بترولية إلى الأردن وتركيا خارج إطار برنامج الأممالمتحدة بما أعطاه موارد إضافية تتجاوز تسعة بلايين دولار. بريطانيا كالعادة أعطت رداً مراوغاً بينما قررت أميركا صراحة أن هذا الترتيب الخارج عن رقابة الأممالمتحدة كان إجراء علنياً سمح به الكونغرس الأميركي. في كل هذا نجد أنفسنا أمام تقاطع من السياسات والمصالح والأهداف تتعلق بالمستقبل بأكثر مما هي تتعلق بالماضي. فعلى رغم أن أنان وصل إلى منصبه سكرتيرا عاما للأمم المتحدة بضغط أميركي غير مسبوق إلا أن الإدارة الأميركية لم تغفر له تصريحه بأن حرب العراق لم تكن شرعية. والحملة الأميركية ضد كوفي أنان لم تستهدف إقالته بقدر ما استهدفت إعادته إلى بيت الطاعة الأميركي والإبقاء عليه حتى نهاية مدته ضعيفاً وأسيراً لرضاء أميركا أو غضبها. لكن المهم في هذا الإطار هو الرؤية الأميركية الجديدة للأمم المتحدة. هناك استراتيجية أميركية معلنة سابقاً تعطى بها أميركا لنفسها سلطة شن الحروب الاستباقية والوقائية حول العالم كلما رأت أن هذا مناسب لمصالحها المستجدة. مصالح جوهرها منع ظهور دولة - أو مجموعة من الدول - منافسة لأميركا باتساع العالم عسكريا واقتصادياً واستراتيجياً. في التنويعات التطبيقية لتلك الاستراتيجية توالد مفهوم أميركي جديد عنوانه"الفوضى البناءة"، بمعنى أنه قد ترى أميركا من مصلحتها في موقف محدد ومنطقة محددة فرض الفوضى لكي تعيد من أنقاضها بناء واقع جديد أكثر ملاءمة لها. هذا العنوان تابعناه تطبيقياً في حالات متنوعة. تابعناه في تعمد الاحتلال الأميركي للعراق تفكيك مؤسسات الدولة القائمة، بما فيها الجيش العراقي ذاته، لأن هذا يعطى فسحة كافية من الوقت والعذر لإعادة تركيب الواقع العراقي الجديد متكيفا مع استمرار وجود الاحتلال الأميركي. تابعناه أيضاً في المبادرة الأميركية المعلنة بعنوان"الشرق الأوسط الكبير"لنشر الديموقراطية والحرية. العنوان هو ذاته العالم العربي، مضافاً إليه إيران وتركيا وإسرائيل. وتحت هذا العنوان التبشيري مباشرة نجد المصالح الإمبراطورية الأميركية الفعلية التي تتصرف على أساس أن السيطرة النهائية على تلك المنطقة هي الجائزة الكبرى التي تريدها أميركا بعد انتهاء الحرب الياردة وتفكك الاتحاد السوفياتي. في هذا السياق، تحركت الولاياتالمتحدة لمحاصرة الصين بثلاث عشرة قاعدة عسكرية جديدة، وتتحرك لتشجيع اليابان على القيام بدور عسكري أكثر نشاطاً في منطقتها. لم يعد يكفي استمرار وجود خمسين ألف جندي أميركي في جزيرة أوكيناوا اليابانية وتدفع اليابان لأميركا خمسة بلايين دولار سنوياً مقابل هذا"التواجد"الأميركي المسلح على أراضيها. في إدارة جورج بوش الأولى قيل إن استراليا ستصبح نائب المأمور الأميركي في المنطقة. في الإدارة الثانية يمتد التكليف إلى اليابان أيضاً التي تعتمد في كل وارداتها البترولية على منطقة الخليج التي يتزاحم عليها وجود عسكري أميركي كثيف ومستمر. في مرحلة الحرب الباردة، كانت الولاياتالمتحدة تعتمد على وجودها العسكري برياً في أوروبا والشرق الأقصى. الآن زاد على ذلك منطقة الخليج. وفى كتاب أخير له، قام زبغنيو بريزينسكي المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي بطرح سؤال افتراضي هو: ماذا سيحدث لو أن الكونغرس الأميركي تبنى فكرة السحب الفوري للقوات العسكرية الأميركية من مراكز انتشارها الأجنبية الثلاثة الحاسمة، أوروبا والشرق الأقصى والخليج؟ بريزينسكي يسارع بتقديم إجابته الافتراضية على سؤاله الافتراضي. الإجابة هي: أن العالم سيدخل فورا في أزمة شاملة من الفوضى السياسية. فأوروبا لن تستطيع أن تكون آمنة بغير أميركا، وبالتالي ستندفع بعض أطرافها إلى سباق تسلح مكلف وأيضاً إلى عمل بعض الترتيبات مع روسيا، كما أن العداءات القديمة في أوروبا ستستيقظ من جديد. في الشرق الأقصى والكلام مستمر لبريزينسكي ربما تنشب الحرب في كوريا بينما اليابان ستمارس برنامجاً سريعاً مكثفاً لإعادة التسلح، بما في ذلك التسلح النووي. أما في منطقة الخليج، فإن إيران ستصبح القوة المسيطرة وستقوم بترويع الدول العربية المجاورة. زبغنيو بريزينسكي كان من الصقور دائماً وان احتفظ لنفسه بمسافة عن الصقور والمحافظين الجدد. والإنجاز المشهود له أميركياً أيام عمله مستشاراً للأمن القومي، هو أنه صاحب فكرة استدراج الاتحاد السوفياتي إلى الدخول عسكرياً إلى أفغانستان ثم تعبئة الاستنزاف ضده من تحت غطاء الجهاد الإسلامي ضد السوفيات الكفرة والملحدين. لكن تبريره الأخير هذا للانتشار العسكري الأميركي الكثيف في أوربا والشرق الأقصى والخليج يمكن فهمه من منظورين. في المنظور الأول هو يصور أميركا الإمبراطورية في انتشارها هذا عسكريا باعتبارها فاعل خير. موجودة فقط في أوروبا والشرق الأقصى والخليج باعتبارها صاحبة الوصاية على أشقياء لو جرى تركهم لحالهم فسيستديرون فوراً لقتال بعضهم بعضاً. بالتالي مهمة أميركا السامية هي إنقاذ هؤلاء من أنفسهم لأن عداءهم لبعضهم البعض أعمق وأشد هولاً من تراضيهم على الوجود العسكري الأميركي بينهم. لكن في المنظور الثاني تنقلب الآية، فالخبراء الاستراتيجيون الذين ردوا على بريزينسكي قوضوا منطقه من أساسه. فالقواعد العسكرية الأميركية في أوروبا كما في غيرها هي لخدمة مصالح أميركية بالدرجة الأولى. أما التخويف من سباق تسلح بين دول أوروبا فالسؤال هو: تسلح ضد من؟. في الواقع أن الذي يضغط بشدة على دول أوروبا حاليا لكي تزيد من موازناتها العسكرية ليس سوى الولاياتالمتحدة نفسها، لخدمة مصالح شركات السلاح الأميركية. وفي آسيا، لا يمثل الوجود الأميركي تأميناً للأطراف الإقليمية، فحتى كوريا الشمالية ذاتها لم تلجأ إلى التسلح النووي إلا لتأمين نفسها من التهديدات الأميركية، كما أن شباب كوريا الجنوبية هو الذي يرفض استمرار القواعد العسكرية الأميركية في أراضى بلاده. أما اليابان فقد سايرت في زمن مضى الوجود العسكري الأميركي على أراضيها لأنه كان حكم القوي على الضعيف، كما أنه يعفيها من وجود سياسة خارجية مستقلة لها، وهو وضع لا يمكن استمراره إلى الأبد. تبقى منطقة الخليج، وهو ما يعنى البترول أساسا كسلعة واستراتيجية. ولو افترضنا أن دول الخليج تحولت غداً في مبيعاتها البترولية من الدولار إلى العملة الأوروبية الموحدة اليورو مثلاً، فإن هذا سيعيد العملة الأميركية إلى ما هي عليه واقعياً: عملة ورقية لأكبر دولة مدنية في التاريخ. هذا لا يحدث، وليس في الأفق المنظور أن يحدث، لمزيج من ضعف دول البترول ذاتها وللسيطرة الأميركية التي ترفض المزاحمة طالما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. يعيدنا هذا إلى الأممالمتحدة وما تعبر عنه من شرعية دولية هندستها أميركا ذاتها في سياق خروجها منتصرة من الحرب العالمية الثانية. لم تكن الأممالمتحدة في أي وقت قيداً على الانفراد الأميركي في التصرف لكنها كانت وسيلة أميركية لتقييد الآخرين. وطوال خمسين عاماً بعد الحرب العالمية الثانية كان هؤلاء "الآخرون" هم أقوياء الغابة الدولية ويلخصهم الاتحاد السوفيتي. بنهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، انقلبت الآية وأصبح الصقور الأميركيون الجدد يريدون من الأممالمتحدة أن تكون وسيلتهم - أو بالدقة: غطاؤهم - للسيطرة على ضعفاء العالم. أميركا تحتفظ لنفسها بالحق في استخدام قوتها العسكرية أينما وحينما ناسبها ذلك. لكنها في نفس الوقت تستخدم مجلس الأمن الدولي لتحقق بالعقوبات نفس ما تحققه صواريخ كروز... وإن بتكلفة أقل. ولقد كانت الحالة العراقية هي الفصل الافتتاحي لتجريب هذا التحول. فالعقوبات التي تقررت في مجلس الأمن ضد العراق حظيت بالإجماع لأنها تكفل أساسا تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل. لكن بمجرد إغلاق"قفص"مجلس الأمن على العراق لم تعد الدول الكبرى الأخرى نفسها في مجلس الأمن قادرة على إخراجه منه إلا بموافقة أميركية. في النهاية، وبعد غزو العراق واحتلاله أميركيا، تأكد بأثر رجعي عدم امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وهو ما كانت الدول الأربع الأخرى دائمة العضوية - على الأقل - متأكدة منه قبلها بسنوات. وأخيراً أدخلت أميركا ثلاث دول عربية أخرى إلى"قفص"عقوبات مجلس الأمن، هي السودان وسورية ولبنان، ومن قبلها كانت ليبيا. واللافت هنا أن الشروع في هذه العقوبات، أو التهديد بها، بدأ أولاً بقرارات من الكونغرس الأميركي، تماما كما في روما القديمة. من هنا سيصبح سفير أميركا القادم لدى الأممالمتحدة، أياً كان، هو عنوان الطبعة العصرية من السلام الإمبراطوري. إنما السؤال الحاكم هنا هو: من سيعلو على الآخر، الإذعان لهذا التحول أم التمرد عليه؟ سنرى. * كاتب مصري.