مع تعثر المشروع الأمبراطوري الأميركي الجديد، ليس فقط في العراق وإنما حتى في أفغانستان، زائد ارتفاع تكلفته يوماً بعد آخر، استمرت الأدارة الأميركية في الهروب الى الأمام مرة بعد مرة. هي تتطلع الى استكمال مهمتها"الديموقراطية"في العراق مثلاً، لكنها في الوقت نفسه مستمرة في اقامة القواعد العسكرية الدائمة في العراق. ومن بين 75 قاعدة عسكرية أميركية في العراق هناك أربع قواعد عسكرية رئيسية احداها تحتل مساحة 15 ميلاً مربعاً شمال بغداد، فيها حمام سباحة وجيمنيزيوم وملعب غولف مصغر ودار سينما، ومن بين العشرين ألف جندي المقيمين فيها فإن أقل من ألف يغادرونها أحياناً. ووزير الدفاع الأميركي أعلن في كانون الأول ديسمبر الماضي انه:"حتى هذه اللحظة لا توجد لدينا خطط لإقامة قواعد دائمة في العراق"، لكنه أضاف ان الولاياتالمتحدة قد تناقش اقامة قواعد لقواتها في العراق مع الحكومة العراقية الجديدة. بالطبع بعد أن توجد حكومة جديدة في العراق يوافق عليها الاحتلال الاميركي سيصبح المطلوب منها أميركياً الدخول في اتفاق طويل الأجل بوجود قواعد عسكرية أميركية دائمة في العراق. قد تكتمل الجهود الأميركية لإقامة وتدريب قوة عراقية محلية لكن تلك القوة ستكون لها مهمتان: أولاً - حماية القواعد الأميركية ذاتها، وثانياً - التصدي، بدل الأميركيين، لقمع المقاومة العراقية في المدن حتى لو كان هذا يعني حرباً أهلية. في هذه الحال تصبح الحرب الأهلية سبباً اضافياً لتبرير استمرار القواعد العسكرية الأميركية في العراق. وتقوم الإستراتيجية الأميركية الجديدة للأمن القومي، منذ سنة 2002 والمتجددة هذه السنة، على التصدي للأرهاب العالمي. وبعد أن كنا في سنة 2002 بصدد"محور للشر"حددته الأدارة الأميركية بثلاث دول أصبحنا في سنة 2006 بصدد سبع دول حددتها الوثيقة الأخيرة بالاسم : كوريا الشماليةوايران وسورية وكوبا وبيلاروسيا وبورما وزيمبابوي. مع ذلك فإن التصاعد المنتظم في الميزانية العسكرية الأميركية، والذي يتجاوز خمسمئة بليون دولار سنوياً، ويعتمد على نظم تسلح متطورة للغاية براً وبحراً وجواً وفضاءً، زائد التعامل مع الأسلحة النووية للمرة الاولى باعتبارها للاستخدام الفعلي وليس للردع، تصبح المفارقة هنا مروعة. هل تلك الأسلحة النووية التكتيكية هي حقاً للأستخدام ضد زيمبابوي؟ أو بورما؟ أو بيلاروسيا؟ روسيا الاتحادية هي الطبعة"المسخوطة"من الاتحاد السوفياتي السابق مع 14 دولة أخرى استقلت من العباءة السوفياتية. مع ذلك تستمر الادارة الأميركية في تشكيل أحلاف عسكرية مع دول الجوار الروسي لمحاصرة موسكو فضلاً عن تقديم الدعم المعلن للقوى السياسية الداخلية المناوئة للرئيس فلاديمير بوتين. وبينما تروج أميركا في العالم كله، بل تضغط على الجميع، للأخذ باقتصاد السوق، إلا أن أميركا نفسها عارضت روسيا بشدة حينما حاولت الأخيرة بيع الغاز الروسي الى أوكرانيا بأسعار السوق. وتضغط الادارة الأميركية على ايران لمنعها من استخدام حقها الطبيعي المقرر في معاهدة منع الأنتشار النووي بتخصيب اليورانيوم. مع ذلك فإن الادارة الأميركية هي التي تبرم مع الهند اتفاقاً لأمدادها بالوقود النووي. ورغم اختلاف الحالتن - ايرانوالهند - الا أن التأمل بعمق يكشف عنصراً مشتركاً: الحرص الأميركي على حرمان زبائنها المحتملين التكنولوجيا النووية السلمية. أكثر من ذلك، كانت المعاهدة النووية الأميركية المستجدة مع الهند مصحوبة بإلحاح على الهند لتشتري طائرات"إف 16"و"إف 18"الأميركية بديلاً عن الطائرات الروسية، زائد امداد الهند بنظام صاروخي أميركي مضاد للصواريخ، كرشوة تكنولوجية لإبعاد الهند عن التكنولوجيا العسكرية الروسية، واستمراراً في الحصار الأميركي لموسكو والمتجدد بعد انتهاء الحرب الباردة. في الحرب الباردة كانت موسكو عاصمة لقوة عظمى متخلفة عن أميركا في مجالات عديدة، لكنها كانت تضاهي أميركا، بل تتفوق عليها أحياناً في مجالين اثنين: التكنولوجيا العسكرية وعلوم الفضاء. وبعد انسخاط الأتحاد السوفياتي الى روسيا خسرت روسيا تكتيكياً واستراتيجياً. لكن مؤسستها العسكرية استمرت وريثة لتكنولوجيا عسكرية متطورة نجحت في مناطحة أميركا رأساً برأس لأكثر من أربعين سنة. في القاموس الأميركي هذا يعني أن المجمع العسكري الصناعي الأميركي لن يهدأ له بال الا اذا اطمأن الى حرمان روسيا من تلك الميزة التي تعني علما وعلماء وتكنولوجيا وتطبيقات وزبائن محتملين باتساع العالم. من هنا كان الحرص الأميركي مبكراً منذ سنوات غورباتشوف وبوريس يلتسين على حرمان المجمع العسكري/ الصناعي الروسي المنافس من أي تمويل اضافي بحجة متطلبات التحول الروسي الى اقتصاد السوق. في التطبيق أصبح هذا يعنى دفع العلماء الروس وخبراء التكنولوجيا الى الكفر بمجتمعهم ودولتهم، بل الى التقاعد أو الهجرة الى الغرب. لا يحتاج الأمر هنا الى ذكاء كبير لمعرفة أن دفع جيل كامل من العلماء الروس وخبراء التكنولوجيا الى الفرار يعني عمليا دفع روسيا الى ما كانت عليه قبل مئة سنة: دولة كبرى متخلفة علميا وتكنولوجيا وتعيش على فيض الكريم. في ترويجه لوثيقة الأمن القومى الجديدة/ القديمة تحدث الرئيس جورج بوش عن مستقبل الحرب التى أعلنها ضد الأرهاب. من الملفت أنه كرر القول بأنها ستكون حرباً طويلة كما الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي السابق. التشبيه ملفت، وان كانت كوندوليزا رايس قد ألمحت اليه ضمنياً قبل ثلاث سنوات في جلسات ضيقة لم تكن للنشر. وقتها قالت كوندوليزا رايس لنخبة مختارة من المجتمع الأكاديمي الأميركي ان الولاياتالمتحدة تواجه موقفاً شبيهاً بما كانت عليه الحال في سنتي 1947 - 1948 من حيث التحول الجذري في سياساتها الخارجية والدولية. الآن يقولها الرئيس الأميركي بنفسه علناً فيفسر لنا بأثر رجعي معنى ومغزى حربه العالمية الجديدة ضد الأرهاب. في الحرب العالمية الثانية اضطرت الولاياتالمتحدة الى التحالف مع الاتحاد السوفياتي الخصم الأيديولوجي اللدود ضد ألمانيا النازية وتاليا ضد اليابان. ولكي تبرر أميركا لشعبها هذا التحالف المفاجئ مع خصم الأمس ايديولوجياً تولى الأعلام الأميركي تسويق جوزيف ستالين الديكتاتور الحاكم في موسكو ونظامه الشيوعي باعتبارهما أصدقاء جدد والكتابة عن جوزيف ستالين باعتباره"العم جو". كلها عشرين مليون قتيل تحملها الاتحاد السوفياتي من أجل هزيمة ألمانيا النازية وقروض أميركية سخية وبضع عشرات ألوف من الضحايا الأميركيين زائد ضحايا أكثر من الأنكليز وانهزمت ألمانيا في المسرح الأوروبي. وحينما تأكدت لحظة الهزيمة اجتمع الحلفاء الثلاثة الكبار - فرانكلين روزفلت وجوزيف ستالين وونستون تشرشل - في يالتا لاقتسام غنائم الحرب. حين نراجع الآن وثائق تلك الفترة نكتشف الأولويات المختلفة للأطراف الثلاثة. بريطانيا تريد أن تشكر كلا الطرفين أميركا والاتحاد السوفياتي على جهودهما لكسب الحرب... لكن مع السلامة لأنها تريد استئناف امبراطوريتها في العالم الثالث. الاتحاد السوفياتي يريد الأقرار له من حليفيه بالنصف الشرقي من أوربا كتعويض دائم عن تضحياته. أما أميركا/ روزفلت فسايرت كل من حليفيها حسب تطلعاته ومخاوفه لكن عينها كانت في الأساس على بترول الشرق الأوسط كجائزة كبرى للمستقبل، وهو ما يعني التخلص من كليهما لأفساح الطريق أمامها في نظام دولى جديد. بريطانيا بدأت بالتململ لكنها بالتدريج أخذتها من قاصرها وأصبحت الذروة هي نهاية الامبراطورية البريطانية من خلال هزيمتها في مصر سنة 1956. فرنسا الشيء نفسه. وأصبح القادمان الجديدان الى عرش القوة العالمية هما الولاياتالمتحدة والأتحاد السوفياتي. وبمجرد أن انفض تحالف الأمس ضد العدو المشترك ألمانيا وايطاليا في المسرح الأوروبي واليابان في المسرح الآسيوي عادت المواجهة الى سيرتها الأولى: رأسمالية عالمية بقيادة الولاياتالمتحدة وشيوعية عالمية بقيادة الاتحاد السوفياتي. وقبل أن يفيق الأخير من خراب ودمار الحرب العالمية الثانية فاجأته أميركا بسياسة جديدة لاحتوائه عالمياً. لقد أصبح الخطر العاجل يتركز أولاً في المسرح الأوروبي حيث الأحزاب الشيوعية تريد نصيبها من السلطة بقدر نصيبها في المقاومة ضد النازية. في فرنسا وايطاليا مثلاً صوت ما بين ربع وثلث الناخبين للحزب الشيوعي المحلي في تلك السنوات. في اليونان قلاقل وفي أوربا الشرقية نموذج اقتصادى يطرح التحدي كل هذا واجهته أميركا بأقامة منظمة حلف شمال الأطلسي تحت قيادتها من جهة، ومحاصرة الاتحاد السوفياتي بسلسلة من القواعد العسكرية من ناحية أخرى. لكن الأكثر أهمية هو ما جرى داخل أميركا ذاتها. فبين عامي 1947 و 1953 قاد جوزيف مكارثي عضو مجلس الشيوخ الأميركي حملة كبرى لتطهير الصفوف تخلصاً من كل من يتعاطف أو يُحتمل أن يتعاطف مع الشيوعية والشيوعيين. حملة تحولت الى هوس كبير اكتسح في طريقه كتاباً ومؤرخين ومطربين وممثلين ومسرحيين وقادة نقابيين وأساتذة جامعات. كثيرون غادروا أميركا هجرة الى أوربا الغربية وكندا بعدما أصبحوا في القوائم السوداء داخل أميركا. بل ان المكتبات الأميركية حول العالم صدرت اليها التعليمات من واشنطن بالتخلص فوراً من كل الكتب غير المتناغمة مع مقتضيات الحرب الباردة الجديدة. كتب شملت مؤلفين أميركيين مثل تشارلز بيرد وآرثر ميلر والبرت اينشتاين... وايطاليين مثل ألبرتو مورافيا... الخ. من المهم أن نتذكر هذا الآن في ضوء ما جرى في أميركا بذريعة أحداث 11/9/2001 تقليص الحريات المدنية ومناخ من الأرهاب الفكري جرى فرضه في الجامعات والأعلام ومراكز البحوث. ان شعار"من ليس معنا فهو ضدنا"لم تفرضه الإدارة الأميركية في العالم فقط. فرضته أيضاً داخل أميركا ذاتها في تحولها الامبراطوري الجديد باتساع العالم. وبالرغم من أن الحرب الباردة بدأت أصلاً بالصراع في المسرح الأوروبي إلا أن العالم الثالث ظل هو الجائزة الكبرى المؤجلة التي تتطلع الى مواردها الطبيعية كلتا القوتين العظميين. وهكذا كان أول انقلاب سري تنظمه وكالة المخابرات المركزية الأميركية خارج الحدود هو ما قامت به في سنة 1953 لقلب حكومة محمد مصدق الزعيم الايراني المنتخب شعبياً وديموقراطياً، كي تعيد الى السلطة الشاه محمد رضا بهلوي عميلاً صريحاً لأميركا ولاسرائيل بالتبعية. حينما سقط حائط برلين في كانون الأول ديسمبر 1989 أصبح هذا هو التاريخ الرسمي لانتهاء الحرب الباردة. وفي البداية اعتقد ميخائيل غورباتشوف أن القصة ستنتهي بانسحاب الاتحاد السوفياتي من أوروبا الشرقية. لكنه لم يدرك أن القصة بدأت لتوها وأصبح فصلها التالي سقوط غورباتشوف نفسه وتفكك الاتحاد السوفياتي ذاته الى خمس عشرة شظية منفصلة. مهم للغاية درس ذلك التحول مرة بعد مرة بعد مرة، لأن الطريقة التي جرى بها هي التي فتحت شهية الصقور الجدد في واشنطن لبدء مشروع امبراطوري باتساع العالم. الصقور الجدد أصبحت تسميتهم - تلطيفاً -"المحافظون الجدد". لقد وجدوا تحت تصرفهم قوة عسكرية عظمى تبحث عن وظيفة بعد اختفاء عدو الأمس. ووجدوا أيضاً مجمعاً صناعياً يتلمظ لغزو أسواق العالم ووضع اليد على الموارد الأولية التي يتصدرها البترول. وبينما تعبئ أميركا حلفاءها من أجل حرمان ايران من حقها المعترف به في تخصيب اليورانيوم فإن أميركا نفسها تكثف بحوثها لانتاج قنابل نووية تكتيكية للأستخدام الفعلي تهديداً للعالم الثالث. أميركيون بارزون بدأوا يرفعون أصواتهم رفضا لهذا التحول الأميركي الخطير. أميركيون بحجم جيمي كارتر الرئيس الأسبق الذي كتب يقول انه يرفض التحول الأميركي الجديد بنشر أسلحة للدمار الشامل في الفضاء و"أضف الى ذلك التغيير الذي طرأ على السياسة النووية الأميركية التي كانت متبعة في الحرب الباردة الى احتمال استخدام السلاح النووي استباقياً ضد دول لا تملك أسلحة نووية". أما روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأسبق فكتب في العام الماضي:"لا يمكن أن أصف السياسة الأميركية الحالية في مجال الأسلحة النووية إلا بأنها تفتقر الى الشرعية والأخلاق، كما أنها غير مبررة عسكرياً وخطيرة بشكل كبير". * كاتب مصري.