حظيت الذكرى السنوية الثالثة لإعلان الرئيس جورج بوش في أول أيار مايو 2003 ان"المهمة انجزت"في العراق بنصيب وافر من اهتمام الإعلام العالمي، غير انني عدت في أول هذا الشهر الى ما عرف باسم"مذكرة داوننغ ستريت"، مع حلول الذكرى السنوية الأولى لنشرها في"الصنداي تايمز"اللندنية، فهي تظهر في شكل قاطع ان الرئيس الأميركي ورئيس وزراء بريطانيا كانا يعدان للحرب بمعزل عن أسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع القاعدة ورأي مجلس الأمن الدولي في الموضوع. المذكرة لم تنف، ويستحيل أن تنفى، فهي تحمل تاريخ 23/7/2002، وكتبها ماثيو رايكروفت، المستشار السياسي في حينه لرئيس الوزراء، وأرسلها الى كبار أركان الحكومة، مثل وزيري الخارجية والدفاع، الذين حضروا اجتماع ذلك اليوم مع توني بلير في مقره الرسمي. ولا أريد ان أعود الى نص قُتل بحثاً في حينه، ولكن أقول على سبيل التذكير أن السير ريتشارد ديرلوف، رئيس الاستخبارات البريطانية، عاد من زيارة الولاياتالمتحدة ليقول ان قرار غزو العراق في حكم المتّخذ، والى درجة التفكير باستفزاز صدام حسين ليرد ويستدرج الى حرب، ومن دون العودة الى مجلس الأمن. غير ان الرئيس بوش قال بعد توقيعه تفويض الكونغرس باستخدام القوة العسكرية في 16/10/2002 حرفياً:"لم آمر باستخدام القوة العسكرية، وأرجو ألا يكون استعمال القوة ضرورياً"، بل انه زاد:"انني درست بدقة الثمن في الأرواح البشرية لكل خيار معروض". أرجو أن يقارن القارئ بين"مذكرة داوننغ ستريت"وكلام الرئيس اللاحق في مؤتمر صحافي، وأن يقدر إن كان الرئيس كذب، وإن كان يستحق العزل والمحاكمة نتيجة لكذبه. منذ"إنجاز المهمة"وحتى اليوم قتل اكثر من ألفي أميركي آخر، وجرح حوالى 20 ألفاً. وبلغت خسائر العراقيين حوالى مئة ألف ضحية، وجاءت الذكرى الثالثة، وهناك أخبار عن قتلى في تفجيرات واكتشاف جثث رجال مذبوحين. ومع اعلان السيد عادل عبدالمهدي ان حوالى مئة ألف أسرة عراقية هجرت بسبب العنف الطائفي منذ ضرب مقام الإمامين في سامراء في شباط فبراير الماضي. وفي سوء كل ما سبق أن الذكرى السنوية الثالثة تزامنت مع تردد حديث أميركي عن تقسيم العراق وكأن هذا البلد العربي إرث اميركي يقسم بين المستفيدين. السناتور جوزف بايدن، وهو ديموقراطي من ديلاوير، اقترح التقسيم بين شمال وجنوب ووسط، مع حكومة مركزية ضعيفة، في خطاب في مجلس الشؤون العالمية في فيلادلفيا، وايضاً في مقال بالمعنى نفسه في"نيويورك تايمز". غير ان توماس ريكس، الكاتب البارز في"واشنطن بوست"سبق بايدن بيوم، فهو في نهاية الشهر الماضي كتب مقالاً بعنوان"فوائد التقسيم أو السماح بحرب أهلية"قارن فيه بين آراء دعاة التقسيم ودعاة الحرب الأهلية، فهناك من يرى في التقسيم حلاً لمشاكل العراق الطائفية، وهناك من يقول إن الولاياتالمتحدة خلقت وضعاً ثورياً في العراق يجب أن يسمح له بأن يستمر. وهكذا فبعد ثلاث سنوات من انجاز المهمة، نحن أمام خيارين: التقسيم أو الحرب الأهلية. لن أسأل عن الديموقراطية التي وعدنا بها في العراق نموذجاً لنا جميعاً، وانما اسجل أن التقسيم لم يبدأ بعد شن الحرب على العراق في آذار مارس 2003، وإنما بعد تحرير الكويت سنة 1991، عندما قسم العراق الى مناطق ثلاث، منع التحليق في الشمالية والجنوبية منها. واقتراحات التقسيم الحالية هي نفسها تلك المناطق الثلاث. مع الذكرى الثالثة لإنجاز المهمة صدر تقرير رسمي أميركي آخر هو هذه المرة من ستيوارت بوين، المحقق العام الخاص بالعراق الذي عيّنه الكونغرس، وهو يسجل فضائح أخرى تتعلق بهدر أموال إعادة التعمير أو سرقتها، وما يضيق عنه المجال هنا، فأكتفي بالقول ان فريق الكونغرس يحقق في 72 عملية نصب واحتيال وفساد تطاول أشخاصاً من الولاياتالمتحدة وأوروبا والشرق الأوسط. هناك كل يوم أخبار عن القتل والدمار في العراق، وعن السرقة والفساد، وهناك أدلة متراكمة على تضخيم ادارة بوش معلومات الاستخبارات عن العراق أو تزويرها بالكامل لشن حرب غير مبررة. والأدلة هذه تكفي للادانة في أي محكمة فأزيد على"مذكرة داوننغ ستريت"وعشرات الوثائق الرسمية الأخرى المسرّبة، حديث تايلر درمهلر، كبير عملاء سي آي ايه في أوروبا حتى تقاعده السنة الماضية، عن ناجي صبري، وزير خارجية العراق في حينه، فعندما قيل للرئيس بوش ونائبه ديك تشيني والدكتورة كوندوليزا رايس ان الاستخبارات الاميركية نجحت في تجنيده للحصول على المعلومات، رحب أركان الادارة بالخبر كثيراً، ولكن عندما تبين أن معلومات ناجي صبري لا تؤيد مزاعم الادارة أهمل نهائياً بحجة ان الادارة لا تستطيع الاعتماد على معلومات رجل واحد، مع انها اعتمدت على معلومات مخبر قدّمه جاسوس معروف، وتبين بعد فوات الأوان انها كاذبة بالكامل. مرة أخرى، أدعو الى محاكمة المسؤولين عن الكذب والتزوير والفساد، وعن قتل العراقيين والأميركيين، وأجد العزل عقاباً خفيفاً مقارنة بالجريمة المستمرة، إلا انه ضروري حتى لا ترتكب جريمة مماثلة بحق شعب آخر، عربي أو مسلم، فالجرائم ترتكب بحقنا وحدنا.