ما اشبه اليوم بالبارحة، او ما اشبه هذا الصيف بصيف السنة الماضية، او الصيف قبل سنتين، وربما بصيف السنة المقبلة. منذ اسبوع وأنا في فرنسا اراجع ملفي الصيفين الماضيين، اي تموز/ آب يوليو/ اغسطس، 2002 و2003، محاولاً ان افهم كيف انزلقت الإدارة الأميركية نحو حرب على العراق، وكيف انتصر دعاة الحرب، على رغم الأصوات العاقلة التي ارتفعت محذرة. في مثل هذا الوقت قبل سنتين نشرت "واشنطن بوست" تحقيقاً طويلاً كتبه توماس ريكس وعنوانه "كبار الجنرالات يفضلون بقاء الوضع الراهن في العراق"، وهو يقول ان هؤلاء الجنرالات، وبعضهم اعضاء في رئاسة الأركان العامة، يؤكدون ان صدام حسين لا يمثل خطراً على الولاياتالمتحدة، وأن على بلادهم ان تواصل سياسة الاحتواء الحالية بدل ان تهاجم العراق لتغيير النظام فيه. ونسب الخبر الى جنرال خدم في افغانستان انه لا يعرف عن وجود اي علاقة بين صدام حسين والقاعدة. وصوت العقل، او الحذر، هذا لم يقتصر على الجنرالات، فالسناتور جوزف بايدن، وكان في حينه رئيس لجنة الشؤون الخارجية النافذة جداً، دعا الى اجتماع لجنته للبحث في موقف الإدارة من العراق. وهو والسناتور ريتشارد لوغر كتبا مقالاً في "نيويورك تايمز" في نهاية تموز من تلك السنة عنوانه "مناقشة العراق"، في محاولة لإشراك الشعب مع الكونغرس في مناقشة موقف الإدارة من العراق، وكانت هناك نقطة مهمة في المقال الذي درس احتمالات الحرب والاحتواء هي سؤال الكاتبين ماذا ستكون واجبات الولاياتالمتحدة بعد ان يسقط صدام حسين؟ وهما سجلا ان بلادهما "كانت مقصرة في اعادة تعمير افغانستان بعد الحرب، وبالنظر الى اهمية العراق الاستراتيجية ووجود النفط فنحن لا نستطيع ان نتحمل ان تحل الفوضى محل صدام". وفي اليوم التالي، نسبت "التايمز" اللندنية الى السناتور بايدن قوله: "اذا هاجمنا فسننتصر، ولكن ماذا نفعل في اليوم التالي؟". أتوقف هنا لأذكر القارئ بأن جورج تينيت، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية، استقال مستبقاً إدانة تحقيق لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ واتهامه اجهزة الاستخبارات كافة في التقصير في جمع المعلومات عن الحرب، وتقديمها الى الإدارة. غير ان هذا لم يكن الوضع في صيف 2002، فكل الأخبار التي بيدي، وهي من اهم صحف اميركا وبريطانيا، ومن دور بحث اكثرها يميني مؤيد للإدارة، كان جعل وزارة الخارجية ومعها "سي آي ايه" في فريق ضد دعاة الحرب في وزارة الدفاع، وهو فريق ضم الوزير دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفوفيتز وأيضاً دوغلاس فايث الرجل الثالث في الوزارة، إلا انه كان في الواقع برئاسة نائب الرئيس ديك تشيني يعاونه مدير مكتبه لويس ليبي. إذا استثنينا تشيني ورامسفيلد فالأسماء الأخرى ازيد بسرعة ريتشارد بيرل، رئيس مجلس سياسة الدفاع في حينه هي ليهود اميركيين متطرفين من الليكوديين المعروفين، وهؤلاء سياستهم عنصرية تكره العرب والمسلمين، ولا يمكن ان يخططوا لشيء غير خدمة مصلحة اسرائيل التي يقدمونها على مصالح الولاياتالمتحدة نفسها. في خبر "واشنطن بوست" الذي بدأت به كان جنرال يسأل هل سبب موقف الرئيس بوش ان صدام حسين استهدف والده عندما زار الكويت سنة 1993، وكان خبراء عسكريون آخرون يطالبون بالاحتواء ويبدون حيرة إزاء تركيز الإدارة على صدام حسين، ولكن الخبر ضم كذلك قول وولفوفيتز ان صدام حسين "لا يحتاج الى صواريخ بعيدة المدى لإرسال سلاح قاتل مثل بودرة الإنثراكس". وزاد بيرل ان صدام حسين قد يقرر في اي وقت تسليم الإرهابيين انثراكس. ونشرت الجريدة نفسها في نهاية الشهر، وفيما كان بايدن يحذر من التورط في العراق خبراً عن ترسانة العراق خلاصته ان لا شيء اكيداً في هذا الموضوع، وفي مقابل شكوك الاستخبارات والعسكر في خطر العراق الذي تزعمه الإدارة، كان هناك جيش من الكذابين من نوع السيد احمد الجلبي، رئيس المؤتمر الوطني العراقي، الذي زعم ان مخبرين من الاستخبارات العراقية بلغوه ان مخزون العراق من عنصر في اكس يزيد على 9،3 طن، وزاد ان العراق خزن هذا العنصر في ملح جاف لحفظه، وانتهى الخبر بأكاذيب مماثلة من خضر حمزة الذي زعم ان صدام حسين أتقن فن إخفاء ما يستورد، لذلك فالواردات لبرنامجه النووي لن تظهر في سجلات الشحن. الجلبي ترك العراق وهو في مطلع سنوات المراهقة، ومع ذلك يزعم اتصالاً بمخبرين داخل الاستخبارات العراقية، وحمزة ترك البرنامج النووي العراقي سنة 1990 أو 1991، وفرّ من العراق سنة 1994، اي ان معلوماته صفر. والمحافظون الجدد من عصابة اسرائيل اخبث من ان يخدعوا إلا انهم سمعوا ما يريدون سماعه، أو ما اتفقوا عليه مع حليفهم الجلبي الذي لقن حمزة ما يفيد في مؤامرة قتل فيها حتى الآن ألف جندي اميركي وبريطاني وحليف وثلاثة اضعافهم من الجنود العراقيين وأكثر من عشرة آلاف مدني عراقي، ومع ذلك يحاكم صدام حسين، وينجو هؤلاء من المحاكمة. في صيف سنة 2002 كان خضر حمزة لا يزال يكذب بامتياز ويجد من يصدقه، وأمامي عدد "الغارديان" الذي يحمل تاريخ اول آب 2002، وخبره الرئيس عن قرب امتلاك صدام حسين قنبلة نووية، وفيه ان حمزة قال في تحقيق للكونغرس ان صدام حسين يملك عشرة اطنان يورانيوم وطن يورانيوم مشبع قليلاً. لن أسأل الآن اين هذه الأطنان، ولكن خضر حمزة كان ينسب معلوماته هذه المرة الى "الاستخبارات الألمانية"، وأسأل هل من العقل او المنطق ان يحتاج الكونغرس الأميركي الى وساطة عراقي فار مع الاستخبارات الألمانية، او ان دعاة الحرب سمعوا ما يريدون سماعه. أكمل غداً.