على رغم الصفعة القوية التي تلقاها رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتيجة الاستفتاء البائسة والمهينة في شأن خطته للانفصال من جانب واحد وإخلاء مستوطنات غزة، ظل شارون يؤكد تمسكه بالخطة وما زال يوحي بأنه مصمم على تنفيذها. وعلى رغم رسالة الضمانات التي قدمها الرئيس بوش للملك عبدالله الثاني في 7 أيار مايو الجاري، ومست تعهداته لشارون، والحديث عن رسالة مشابهة ستسلمها كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس بوش إلى"أبو علاء"في 17 الشهر الجاري، بقي شارون يعتبر انه حقق في لقائه في 14 نيسان أبريل الماضي الرئيس الأميركي نجاحا استراتيجيا لا سابق له منذ إعلان قيام دولة إسرائيل العام 1948. فهل يرد شارون الصفعة لتلاميذه في الحزب الذين تطاولوا عليه وتحدوه ويمضي قدما في تنفيذ الخطة بالاعتماد على دعم صديقه بوش؟ وهل تنهي رسائل الضمانات الأميركية التي قدمت الى الجانب العربي خطر التعهدات الأميركية الخطية لرئيس الحكومة الاسرائيلية؟ بصرف النظر عن مصير هذه الخطة يحق لصاحبها شارون أن يظل يتباهى في وسائل الإعلام وأمام الكنيست وقادة الائتلاف الحكومي بأن"وعد"بوش تضمن دعماً لم يتلق احد من زعماء إسرائيل مثله. وفي إمكانه أيضا الرد على فشله في الاستفتاء الحزبي وتآمر عدد من الوزراء عليه، بالاعتزاز والافتخار بأن"صديقه"بوش نصره في وقت خذله جمهوره ورفاقه. وشارون دقيق حين يعتبر التعهدات الأميركية المكتوبة التي قطعها بوش على نفسه أقسى ضربة سياسية وجهت الى الفلسطينيين منذ إعلان قيام دولة إسرائيل، وأن الضمانات الخطية والشفوية التي قدمت الى الاردنيين والمصريين والسعوديين والفلسطينيين لا تلغي هذه الحقيقة. فموقف الرئيس الأميركي الحريص على نشر الديموقراطية في العراق وإصلاح النظام العربي ودمقرطته... كان صريحا في عدوانيته ضد الفلسطينيين وفي استهتاره بالعرب، حكومات وشعوباً. وكان حاسما في انحيازه الى مواقف اليمين الاسرائيلي المتطرف. ولم يكتف بوش بمكافأة الاحتلال وإضفاء الشرعية على تغيير حدود العام 1967 واستيطان الضفة الغربية... الخ وقدم أجزاء من الأرض ومن حقوق اللاجئين التي أكدتها قرارات الشرعية الدولية هدية مجانية لإسرائيل. ولشدة إعجاب بوش بشخصية شارون وأفكاره الخلاقة... وحاجته الماسة لدعم اللوبي الإسرائيلي في أميركا في الانتخابات وكسب أصوات اليهود، أباح زعيم أقوى دولة ديموقراطية في العالم ل"صديقه"فعل ما يريد ضد الفلسطينيين سلطة وشعباً وأرضاً وممتلكات. وبرر له الذهاب إلى استفتاء حزب ليكود على الخطة. ومنحه شهادة رجل ديموقراطي يريد السلام، وأدرج سياسة قتل النساء والشيوخ والأطفال وتدمير المنازل وقطع الأشجار وبناء الجدار وحصر الشعب الفلسطيني في معازل وكانتونات عنصرية تحت بند دفاع إسرائيل عن نفسها في مواجهة الإرهاب..! ويبدو أن الرئيس الأميركي يخطط لتعويض المستوطنين في قطاع غزة بسخاء، عندما يحين وقت رحيلهم، وإلزام البنك الدولي والمواطن الأميركي دافع الضرائب وبعض الدول الصناعية شراء ممتلكات المستوطنين بالسعر الذي يطلبه شارون ويحدده زعماء المستوطنين. ويفكر بوش في تسجيل قيمتها دينا يستقطع لاحقا من حساب تعويض اللاجئين، هذا إذا حصل اللاجئون الفلسطينيون على حقهم في التعويض بعد أن حرمهم بوش من حق العودة. ولم يفكر بوش وأعوانه خبراء الاقتصاد للحظة في احتساب قيمة استغلال المستوطنين في القطاع للأراضي الفلسطينية والمياه الشحيحة سنوات طويلة. وخطورة موقف الرئيس الأميركي لا تكمن فقط في سخائه من جيب الفلسطينيين وحقوقهم وإلغاء أسس عملية السلام ونسف قرارات الشرعية الدولية فقط، بل وأيضا في إخراج قيادتهم من معادلة حل نزاع وتغييب دورها واستبداله بثنائيات ظهر منها حتى الثنائية الأميركية - الإسرائيلية. ويعتقد بعض المحللين الاستراتيجيين ان"وعد"بوش لإسرائيل ودعمه خطة شارون وضع القيادة الفلسطينية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما اعلان الانسحاب من عملية السلام او قبول"المستطاع"المعروض اسرائيليا وأميركيا والعمل على تحسينه. ويرون أن تجربة إدارة بوش المؤلمة والمريرة في رعاية عملية السلام وانحيازها الدائم لقوى التطرف، تؤكد ان رسالة الضمانات الأميركية للملك عبدالله الثاني لا يلغي هذا الاستخلاص، والشيء ذاته ينطبق على التعهدات او التوضيحات التي ستسلمها رايس لرئيس الوزراء الفلسطيني. إلى ذلك، لا أحد في السلطة أو المعارضة الفلسطينيتين ومن المثقفين المستقلين يصدق قول بوش في رسائل التطمينات للعرب:"إن الولاياتالمتحدة الأميركية لن تحكم مسبقا على المفاوضات النهائية، وان كل قضايا الحل النهائي يجب ان تتمخض عن المفاوضات بين الجانبين وطبقا لقرارات الاممالمتحدة وقراري مجلس الامن 242 و338"، خصوصاً انه جدد التزامه الضمانات التي سلمها لشارون، وأكد تمسكه بدعم خطته المدمرة ل"خريطة الطريق"وعملية السلام، وقال:"أدعم الخطة التي أعلنها رئيس الوزراء شارون لسحب المستوطنات من قطاع غزة وبعض أجزاء الضفة الغربية، وهذه الخطة شجاعة ويمكن أن تقدم مساهمة حقيقية نحو السلام". إلى ذلك، تتباين مواقف قوى النظام السياسي الفلسطيني في سبل مواجهة مشروع شارون وكيفية التعامل مع الموقف الأميركي الجديد، ومع نتائجه المباشرة والبعيدة على الصراع، فقوى المعارضة الفلسطينية ممثلة بحركتي"حماس"و"الجهاد الإسلامي"والجبهتين"الشعبية"و"الديموقراطية"، والفتحاويون كوادر"كتائب شهداء الأقصى"المنخرطون في الانتفاضة المسلحة، وصف واسع من أعضاء المجلسين الوطني والتشريعي، وكوادر الإتحادات الشعبية والفصائل الأخرى المقيمة في دمشق، وقطاع واسع من المثقفين المستقلين يعتبرون تبني بوش خطة شارون بمثابة إعلان رسمي لوفاة عملية السلام. ويقلل أصحاب هذا الرأي من قيمة الضمانات الخطية والشفوية التي قدمها بوش للعرب، ومن قيمة التحركات الدولية وتصريحات زعماء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي. ويطالب أتباع هذا النهج المتشدد القيادة الرسمية عدم الانخداع برسائل الضمانات، واتخاذ موقف فلسطيني حازم يرفض مشروع شارون و"وعد"بوش المشؤوم جملة وتفصيلاً. وعدم انتظار الترياق من قمة الملوك والرؤساء المقرر عقدها في تونس أواخر الجاري. ويسخّفون موقف أنصار السلام في الساحة الفلسطينية، خصوصاً جماعة عبدربه ونسيبة، ويتهمونهم بالتخاذل والاستسلام وتشجيع الثنائي بوش شارون على المس بحقوق اللاجئين وقضم مساحات من أراضي الضفة الغربية ثم استيطانها. ويطالبون الرئيس عرفات بقلب الطاولة في وجه الجميع، وإعلان سقوط اتفاق اوسلو وسحب اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل وإلغاء الالتزامات الفلسطينية التي تضمنتها الاتفاقات السابقة. ويدعون قيادة المنظمة الى اتخاذ موقف حازم وإعلان الانسحاب من عملية السلام والعودة للكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية وإعلان التعبئة العامة لمقاومة الاحتلال، واعتماد العمل العسكري كخيار إستراتيجي لانتزاع الحقوق. كما يدعو بعضهم الى حل السلطتين التنفيذية والتشريعية اللتين إنبثقتا عن اوسلو وإعادة الأمانة إلى منظمة التحرير وحل الأجهزة المدنية والعسكرية وتحميل الاحتلال وزر تنظيم حياة قرابة أربع ملايين فلسطيني. وتطالب فئة محدودة من جماعة الرفض عرفات بالاستقالة. وهناك من يعتقد بأن الرد الاستراتيجي على"وعد"بوش وأطماع شارون التوسعية يتم بإعلان قيادة المنظمة، فوراً ومن جانب واحد، قيام الدولة الفلسطينية فوق الأراضي التي احتلت العام 1967، والطلب إلى القمة العربية المساعدة في انتزاع اعتراف دولي بهذه الدولة وبتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. على النقيض، تقف في الطرف الآخر من الميدان السياسي الفلسطيني أقلية ترفض موقف المعارضة وتحملها قسطاً رئيسياً من المسؤولية عن تدهور الموقف الفلسطيني في الساحة الدولية، والتسبب في دمغ الحركة الوطنية بالتطرف والإرهاب وتسهيل الطريق أمام مخططات شارون، آخرها خطة الفصل الأحادي الجانب وبناء الجدار العنصري. وتحذر هذه الأقلية القيادة من الوقوع في الفخ الإسرائيلي ومن تكرار نكبة 1948، وتدعو المعارضة إلى التعامل بواقعية مع التطورات وعدم الانجرار وراء استفزازات شارون وأركان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وتقول إن دخول الفلسطينيين في معركة كسر عظم مع الإدارة الأميركية أقرب إلى انتحار سياسي يضاعف خسائرهم البشرية والمادية. وتعتبر ان رسالة الضمانات التي قدمها بوش للملك عبدالله الثاني والتي سيتسلمها"ابو علاء"تتضمن تراجعاً غير مباشر وغير معلن عن التعهدات التي قدمها بوش لشارون. ويدعون القيادة إلى تحمل مسؤولياتها وانهاء ازدواجية السلطة، والترحيب بالتعهدات او التطمينات الأميركية والتعامل معها باعتبارها خطوة مهمة يمكن البناء عليها، وتؤشر إلى امكان التأثير في الموقف الأميركي. كما تستشهد بأقوال وزير الخارجية الأميركي في اجتماع اللجنة الرباعية الدولية الأخير في نيويورك أن الضمانات التي قدمها بوش لشارون"لم تشطب خريطة الطريق ولم تنه دور الرباعية ولا تلغي حق الفلسطينيين في اتخاذ الموقف الذي يرونه في مفاوضات تسوية قضايا الحل النهائي من اللاجئين والمستوطنات والحدود"... الخ. هل تتوحد الرؤية الفلسطينية وتتفق على خيار غير الرفض أو الخضوع؟ هذا ما سيتم الاجابة عليه في الحلقة الثانية. * كاتب فلسطيني/ رام الله.