جمهور المسرح العربي يعرف جواد الأسدي جيّداً، ويتابع أعماله بشغف وحماسة منذ أوائل الثمانينات، حين قدّم، في دمشق عملاً لافتاً بعنوان"العائلة توت"عن نصّ للمجري إسطفان أوركيني. ثم جاء عرضه"خيوط من فضّة"ليسلّط الضوء على لغة مميّزة، تقارب"مسرح القسوة"كما بشّر به أنطونان آرتو، وتقوم على نزعة طقوسيّة كربلائيّة خاصة. عملاً بعد آخر، رأينا هذا المخرج العراقي الذي صقل أدواته وبلور تجربته في المنفى، يحتلّ مكانته المميّزة على الخريطة العربيّة، منتقلاً من دمشق إلى عمّان، من تونس إلى القاهرة، ومن أبو ظبي إلى بيروت التي اكتشفته بعد مسرحيّة"الاغتصاب"سعد الله ونّوس، وتبنّته نهائيّاً كواحد من"نجومها"بعد تألّقه في"الخادمتان"جان جينيه مع الثلاثي جوليا قصّار، رندة أسمر ورينيه ديك. عمل هذا"العراقي التائه"، وكُرّم، في دول أوروبيّة عدّة مثل فرنسا والسويد وهولندا، ومنح أخيراً إحدى جوائز"مؤسسة برنس كلاوس". يشتغل الأسدي على ادارة الممثّل، ويتميّز أسلوبه بتقصّي الحالات والمناخات التأثيريّة. ويبرع في تطويع لعبة العنف، والاحتفاليّة الجنائزيّة، وتقوم مناخاته المسرحية على مواجهات حادة، تحوّل الخشبة حلبةَ صراع دامٍ... ومن جهة أخرى عمل الأسدي على"محاورة"المسرح العالمي من شكسبير إلى تشيكوف مروراً بستريندبرغ، معيداً انتاج النصوص الكلاسيكيّة على طريقته، وتبعاً لرؤياه، وفي خدمة خطابه... وأعاب عليه بعض النقّاد، بين حين وآخر، هذا التورّط الزائد في"كتابة"فوق الكتابة الأصليّة، في حين أن عمله كمخرج كان كافياً لإعادة قراءة تلك النصوص. لكن جواد الأسدي لا يحبّ هذا النوع من النقد، بل إنّه يعتبر نفسه مؤلّفاً وكاتباً، بقدر ما هو مخرج. وهنا تكمن على الأرجح نقطة ضعفه الأساسيّة. بعد انهيار"جدار بغداد"، كان جواد الأسدي من أوائل الفنّانين والمثقفين العراقيين الذين سكنهم هاجس العودة إلى أرض بعيدة حملوها جراحاً بين المنافي، حتّى كادت تبتعد عنهم في تجلياتها الواقعيّة، وتغيّراتها الكثيرة... وهذا، بأيّة حال، شأن كلّ مقتلع من بيئته تحت وطأة التنكيل : فهو حين يعود بعد طول غياب - كما أوليس إلى إيثاكا - يجد بلداً آخر، ويصطدم بواقع جديد لا يشبه في شيء مراجعه البائدة، ونقاط ارتكازه السابقة، وصوره الواهية، وأوهامه الضائعة... ماذا يبقى من العراق والحالة هذه؟ مجموعة أوهام وأوجاع، كليشيهات وأفكار مسبقة، كوابيس وحكايات اقتلاع وخيانة وخيانة مضادة، لعبة سادو - مازوشيّة مستعادة بين ضحايا في موقعهم الأصلي وضحايا في ثياب الجلاد. وهذه، باختصار، الأسس التي تقوم عليها حبكة مسرحيّته الجديدة"حمّام بغدادي". خاض الأسدي هذه التجربة في دمشق، حيث قدّمت قبل أسابيع، ثم حلّت أخيراً في ضيافة"الموسم"البيروتي الذي ينظّمه الثنائي مصطفى يمّوت ورولا قبيسي في صالة"مارينيان"حيث يفوح في الزوايا شيء من ألق شارع الحمراء البعيد... لهاث وتضخيم المسرحيّة كناية عن مواجهة بين أخوين: حمّود ومجيد. مواجهة وتصفية حسابات الماضي، واستعادة المسكوت عنه، ومحاولة قياس المسافة الخرافيّة التي تفصل"دوامة"الراهن الهادرة، عن"مستنقع"الأمس البارد والمريع... يربط بين الزمنين، البؤس نفسه، إذ يحاصر الأفراد العاجزين عن الافلات من الكابوس. حمّود نضال سيجري ابن النظام السابق، بخوفه وبؤسه وانسحاقه وتواطئه"مرغماً"في احدى المجازر بحق سجناء سياسيين العام 1998، ومجيد فايز قزق رمز"الانفتاح"الأخرق على"حلفائه الأميركان"، الجيش"المخلّص"، حامل"الحريّة"إلى الشعب العراقي... وهو بهذا المعنى منخرط في الصفقات المشبوهة والنشاطات الغامضة التي يبرع فيها"العملاء"على اختلاف عصورهم ومشاربهم. الاثنان سائقان، وارثا الفقر والبؤس والتخلّف... كل يحاول الخروج على طريقته من المأزق، ولكن سدىً. للوهلة الأولى يتوقّع المرء كثيراً من تلك المواجهة التي يملك جواد الأسدي سرّها جيداً. مواجهة بين شطري الضمير العراقي الشقي، الموزّع بين ماض مثقل بالذكريات السود، وواقع ملؤه الأشلاء والجثث المحروقة أو المشلّعة أو المقطوعة الرؤوس، ومستقبل غامض يأخد البلاد إلى تمزقاتها وحروبها الأهليّة، تحت رحمة إستعمار من نوع جديد. ولكن مع تقدّم المسرحيّة، ودوران الحوار في الحلقة المفرغة، منزلقاً إلى نبرة تلفزيونيّة تارة، وإلى وظيفة سردية مفتعلة تارة أخرى، لا دور لها درامياً سوى ايصال عناصر"الحدوتة"... تبتعد الأسئلة الحاسمة التي يتوقّعها المشاهد، وتتحلّل اللعبة أمامنا إلى مجموعة مواقف مرصوفة من دون وحدة عضويّة، من دون قوّة داخليّة تصهرها وتعطي لحدث المسرحي حركته وتطوّره التصاعدي، أي ديناميّته وصيرورته. نسمع صدى أحاديث من وحي الأحداث الراهنة في العراق، وتعليقات عن الانتخابات المقبلة، وموعد دخول المدارس والحاجة الى النقود... لكنّ الكلمات تأتي غير مقنعة، والاداء القائم على اللهاث والتضخيم الكاريكاتوري والمبالغة والتصنّع والتوتّر الدائم الذي لا يعرف خموداً أو تصعيداً، هو الآخر يبعدنا عن لعبة القسوة والمواجهة - الأخلاقية، الوجوديّة، الانسانيّة - التي يرنو إليها جواد الأسدي، فما إن يقترب منها حتّى تفلت من جديد! تلك المواجهة في"الحمّام البغدادي"، أمام"ثلاثيّة"للفنّان العراقي جبر علوان، كأنّها نقوش على رخام الحمّام، تضاء من الخلف لحظة التوتّر القصوى. هذه المواجهة كان يمكن أن تكون في صحن الدار، في محطّة قطار، أو أي مكان آخر، من دون أن يتغيّر شيء على المستوى الدرامي. والأخوان ينتقلان من حالة ذعر مفاجئة في الحمّام، بعد دويّ المدافع الرشاشة والانفجارات، واكتشاف أربع جثث مقطوعة الرأس، بحسب مجيد، إلى حالة همود يستأنفان بعدها حوارهما وكأن شيئاً لم يكن. ثم يعودان إلى اللقاء في الحمّام بعد مشهد المواجهة الغامضة على الحدود، فيبدو لقاؤهما هنا أيضاً، أكثر عبثيّة وأقلّ إقناعاً من سابقه. ناهيك بأن الممثّلين يتحرّكان أحياناً في الفضاء كيفما اتفق، بلا مبرّر اخراجي... ويأتي الصراخ المتواصل، والاداء المتشنّج ليزيد من الاحساس بالفراغ، والاعتباطيّة، وغياب الخيارات الجماليّة والأسلوبيّة التي نتوقّعها من مخرج مثل جواد الأسدي. ذلك أن الرؤيا الاخراجيّة تتأرجح بين واقعيّة غير مكتملة العناصر، وتجريديّة ذهنيّة لا تتسع لها الحبكة... كان يمكن جواد الأسدي أن يلجأ إلى كاتب شاب، يعمل تحت إشرافه، ويستند إلى كميّة كبيرة من شهادات العراقيين في الداخل، بتفاصيلها، ليقمّش النصّ، ويعطيه بعداً انسانياً وواقعياً مقنعاً. استعمال الاكسسوارات نفسه غير مقنع. واللجوء فجأة إلى الهاتف الجوّال في قلب الليل، عند الحدود، للردّ على مكالمة الحبيبة، يجهض الموقف المأزوم، محولاً إيّاه اسكتشاً كوميدياً عابراً... وحينما يشرع حمّود ومجيد في فكّ الحبل الذي اخرجه الثاني من جيب معطفه على الحدود، فيربط كل منهما طرفاً حول عنقه، نستعيد بطلي صموئيل بيكيت فلاديمير وإستراغون، ونتوقّع أن شيئاً ما سيحدث، ولكن سرعان ما يضعان الأكسسوار جانباً، ينسيانه وينتقلان إلى قفشة جديدة. هكذا يبدو النصّ : قفشات وأفكار جمعت في قالب واحد، في لحظة غياب الوحي. ولعلّ هذا الفراغ، اشارة مهمّة نقدياً، تعبّر عن حالة ضياع يتخبّط بها على الأرجح هذا الفنّان العراقي الباحث عن لغة مختلفة ونقاط ارتكاز جديدة... جواد الباحث عن"مكانه"والمكان أساسي بالنسبة إلى الفنّ المسرحي أكثر من سائر الفنون، الحائر بين منفى مستنفد ووطن مستحيل... تبقى طبعاً لمسات جواد السحريّة، هنا أو هناك، لتذكّرنا أننا أمام مخرج استثنائي، وإن افتقر هذه المرّة إلى أدواته كاملة، ولم يحكم السيطرة تماماً على"احتفاله". نشير مثلاً إلى استعمال الموسيقى التأثيريّة، في شكل مقلق، بين الظلمة والضوء. وعند الحدود الأردنيّة - العراقيّة، في ليل البرد والرعب والانفجارات، المسكون بأشباح متسكّعة والجنود الأميركيين، نعيد اكتشاف فايز قزق ممثلاً باللهجة العراقيّة، في ضوء شحيح، أمام تابوت"المرشّح الثري"قصّته غير مفهومة وغير مقنعة. يتخلّى الممثل السوري القدير عن الصراخ الهستيري الرتيب، وغير المبرر، والمتعب عصبيّاً، ليمضغ كلماته بعنف هادئ مضبوط وجميل، فيعيد سماع تلك النبرة الشعريّة التراجيدية التي افتقدناها.