قليلة هي التجارب اللافتة التي استطاع أصحابها تحقيق نتاجات مهمة في"القصة القصيرة جداً"، هذا الجنس الأدبي الذي شاع خلال العقد الفائت، والذي لا يزال يثير جدالات واختلافات، دفعت كثيرين إلى حدود رفضه انطلاقاً من رفضهم لأكثر ما ينشر منه في المجلات والصحف والكتب. ومع ذلك، يمكن القول إن المسألة ليست في جدارة"القصة القصيرة جداً"، أو كما يقول البعض عدم قدرتها كوعاء للسرد أن تكون معبّرة عن قضايا وموضوعات حياتية وإنسانية، ذلك أن تجارب أخرى استطاعت امتلاك وهجها المميز وقدراتها العالية على تكثيف وقائع ومواقف دالة وشديدة التعبير. تجارب انطلق كتابها من لحظة إبداع تسلّحت برؤى فكرية وجمالية زاوجت بين الفكرة القصصية وبين روافعها الفنية والجمالية. فوصلت إلى القارئ بجاذبية وتشويقية. "على حافة الجنون"، مجموعة الكاتب إسماعيل دبج منشورات دار كنعان - دمشق، 2005 إحدى هذه التجارب اللافتة ، والتي استطاعت أن تقدم للقارئ مشاهد مشحونة بالتوتر، وذات بنائية قصصية متماسكة، وفي سياق لغة إيحائية وذات علاقة حيوية بالمضامين الحدثية التي تتناولها. أهم ما في"على حافة الجنون"، هو قدرة كاتبها إسماعيل دبج على رصد عوالمه القصصية، في سياق المكان، كإطار واقعي، وأيضاً في إطار الزمان أو إذا شئنا الدقة الزمانين، الواقعي والفني على السواء، فهو في قصص المجموعة - عموماً - ينطلق من حدث مركزي، يختاره أن يكون واقعة أساس تتشكل من حوله دوائر ضوء لا تبدده كحدث أساس، بل تزيد في مركزيته وتؤكد وهجه:"كان يحبها وكانت تحبه. قال لها: الزواج مقبرة الحب. قالت له: لا أؤمن بحب لا ينتهي إلى زواج. فافترقا... والتقيا... قالت له: علمتني الأيام أن الزواج مقبرة الحب، قال لها: علمتني الأيام أن الحب من دون زواج هدر للروح. فافترقا ثانية". في القصة السابقة حدث يجسّد حالة، تتناقض مع حالة أخرى، والأهم في الحالتين لعبة تبادل الأدوار، أو بالأصح تبادل القناعات التي تتشكل في اتجاهين متعاكسين على ضوء الحياة ذاتها. في هذه القصة نعثر على مثال نموذجي، لجنس"القصة القصيرة جداً"، حيث الراوية والحدث، التكثيف الشديد إلى حدود الاختزال، والأهم المواقف الحادّة والنهائية، والتي تشبه حكمة تقصد أن تكون خلاصة بليغة لحرية الفرد في رؤية الشيء الواحد في حالتين متضادتين، فلا شيء نهائياً لا يقبل التناقض. في القصص الأخرى في المجموعة ونعني تلك التي لا تنتمي الى جنس"القصة القصيرة جداً"، ثمة ما يستوقف القارئ، فالكاتب يقدم قصصاً تنتمي إلى حكايات المقاومة والانتفاضة، وينجح من خلال هذه الموضوعات"الشائعة"في تحقيق تميّز لافت، يعيد لأدب"الالتزام"جماليات فنية تؤكد حقيقة أن المسألة في الأدب هي مسألة إبداع وليست مسألة موضوع. في المجموعة نقرأ"في انتظار الاعتراف"، والتي تروي حكاية صبي يعتقله الإسرائيليون ويقومون بإخصائه والاعتداء عليه جنسياً، ليقوم بعد ذلك بسنوات بعملية فدائية ناجحة يقتل من خلالها عدداً من الجنود من بينهم عدوه المباشر. قصة فيها الكثير من"رمزية"، تتناول قيمة من أهم القيم وهي الشرف، الذي يأتي من خلال القصة على حقيقته الجوهرية، أي الشرف كفعل إرادة يمارسه بطل القصة ضد أعدائه المحليين، في مقابل ذلك المفهوم الشائع والتقليدي للشرف والذي يكاد يحصره في حدود الجسد. أهم ما في قصة"في انتظار الاعتراف"، جمالية تقديم الكاتب لوقائعه في سردية حادّة تتناول الجزئيات والتفاصيل الدالة ومن دون بلاغة أو تحريض أيديولوجي، فالحدث القصصي هو الجوهر وهو الأساس، ويلفت هنا أن إسماعيل دبج إذ يحافظ على أجوائه ومناخاته القصصية الواقعية، يحتفظ لقصته بقيمتها ودلالاتها الرمزية ولكن من دون الغرق في الرمز، بل على العكس تماماً، من خلال لا معقولية الظلم الإنساني والتي تبدو في عالم اليوم أشبه بالفانتازيا، التي يعرف القارئ تماماً أنها ليست كذلك، بل هي أحداث شديدة الواقعية. أما في"مدارج العدالة"، فثمة حكاية رمزية أخرى وإن تكن هي أيضاً بالغة الواقعية وذات صلة وثيقة بالحياة. في"مدارج العدالة"يعاقب المحتلون الإسرائيليون معتقلاً فلسطينياً بالسجن الانفرادي لسبب غير مألوف ولم تعرفه عدالات العالم على أنواعها، إذ إن أحد السّجانين يحلم ذات ليلة أن المعتقل الفلسطيني قد شتمه. هكذا يقول الضابط المسؤول، ويضيف، أن المعتقل بهذا المعنى قد غزا السّجان حتى في أحلامه. قصة جارحة وفيها الكثير من البنائية الفنية الموفقة التي وازنت بين المبنيين الواقعي والرمزي فاحتفظت لنفسها بدلالات شديدة التأثير، وفي لغة سردية، بسيطة ومشحونة، وذات انتباهات ذكية لما في القصة القصيرة من مفردات أساسية أهمها الجزئيات والتفاصيل الصغيرة والتي تجعل الحدث القصصي الواحد والرئيس حالات من فسيفساء الفعل الإنساني، المجزّأ والمتصل معاً. قصص إسماعيل دبج، الجميلة وبالغة التميز، لم تكن في تقديري في حاجة إلى ذلك"الجزء المضاف"والذي يبدو ملصقاً بجسد المجموعة، نافراً عن أجوائها ومناخاتها الفنية، ففي ذلك الجزء الأخير من المجموعة والذي يحمل عنوان"برقيات فلسطينية"من 4-15/4/2002، نقع على كتابات سياسية شديدة المباشرة، تقدم آراء سياسية لا تستند إلى رؤى وبنائيات فنية، فتبدو الكتابة ثقيلة، أو إذا شئنا الدقة، إرادوية تعكس رغبة مسبقة لدى الكاتب في قول سياسي وإيديولوجي ليس له أي صلة قربى بقصص هذه المجموعة، والتي اتكأت أساساً على فنياتها وجماليتها، ما يدفعنا مرّة أخرى إلى اعتبارها خارجة عن السياق. إسماعيل دبج في قصص مجموعته"على حافة الجنون"، يذهب إلى الفضاءات الضيقة لعوالم وأبطال يعيشون محنة الاحتلال، يقرأ واقعهم مثلما يقرأ صورهم الداخلية بفنية لعلها الأميز والأهم في كتابته وأدبه.