تحظى رواية"عمارة يعقوبيان"في ترجمتها الفرنسية الصادرة حديثاً عن دار"أكت سود"برواج لافت. ولقيت في الصحافة الثقافية الفرنسية ترحاباً نقدياً وأدرجتها صحيفة"لوموند"في رأس قائمة الروايات التي تنصح القارئ بها. هنا قراءة نقدية للرواية. ما إن بدأت قراءة رواية"عمارة يعقوبيان"للروائي المصري علاء الأسواني، حتى انتابني احساس حريف ظل يصاحبني، بأنني أقرأ رواية كلاسيكية تنتمي الى القرن التاسع عشر، ربما بسبب حضور صوت الراوي، الكلي والعليم بكل شيء، وهيمنته وتدخله الواضح في رسم دروب أبطال الرواية ومصائرهم، أو بسبب لغتها المستهلكة، وأخيراً ربما بسبب تقنية سرد مشاهد الرواية وأحداثها. وما خلصت اليه حين انتهيت من قراءة الرواية كان تأكيداً لما أحسست به عند البداية. رواية"عمارة يعقوبيان"منذ لحظة ولادتها في طبعتها الاولى، كُتب لها ألا تكون رواية عابرة في الساحة الثقافية المصرية، بل إنها رواية أثارت الكثير من الجدل واللغط الثقافي والاجتماعي حولها، لغط جنت ثماره، وانعكس ايجاباً عليها بحيث أعيدت طباعتها أكثر من مرة، ووجدت طريقها الى الترجمة. "عمارة يعقوبيان"رواية يسيطر هاجس الجنس، في مختلف تلاوينه، على مسارات حوادثها، منذ بدايتها وانتهاء بآخر مشهد من مشاهدها. وقد غلف الكاتب هذا الهاجس بقصص ذات بعد اجتماعي، مستحضراً فترة خصبة من فترات تاريخ المجتمع المصري الحديث بدءاً من انطلاق ثورة تموز/ يوليو 1952، وما أعقبها من حكم الرئيس جمال عبدالناصر، ومن ثم فترة الرئيس انور السادات، وأخيراً الفترة الراهنة، وحتى عام طباعة الرواية في نسختها الاولى 2002. الرواية، وعبر استعراضها حياة سكان عمارة يعقوبيان،"وهو اسم حقيقي لعمارة موجودة فعلاً في شارع طلعت حرب بناها المليونير جاكوب يعقوبيان عميد الجالية الأرمنية عام 1934"، تسلط الضوء على تركيبة المجتمع المصري، كاشفة طرق التكون والصعود والإثراء لأكثر من طبقة، وفاضحة مختلف أوجه الفساد والانحلال الخلقي في المجتمع، ومتطرقة الى تجربة الجماعات الاسلامية الارهابية. إن ما جُبل عليه الإنسان بطبيعته من حب الفضول والتعرف على أسرار الآخرين، ربما شكّل ويشكل أحد أهم الأسباب التي قد تروج لأي عمل أدبي أو فني، في أي مجتمع من المجتمعات، خصوصاً اذا شعر المتلقي بأن ظلال العمل الفني لها ما يقابلها على أرض الحياة الواقعية، وبما يمكّن من عقد مقارنات بين أبطال الرواية وشخصيات حقيقية معروفة وفاعلة في مسار الحياة العامة، وهذا ما حصل لرواية يعقوبيان. إن فهماً جديداً للقراءة، يتطلب بالضرورة التفريق بين الواقع الحياتي المعيش، والواقع الفني للرواية، ما يعني عدم صحة النظرية القائلة بتطابقهما، فبينما يحكم الواقع الانساني المعيش القوانين الحياتية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصارمة والقاسية والمتجبرة، تحكم العمل الأدبي قوانينه الفنية الخاصة، التي تنعقد مفاتيحها بيد الكاتب، وعادة ما تكون أكثر رحمة وعدالة وأملاً من قوانين الحياة. وهذا ما يعطي الفن نكهته الخاصة، ويجعل الناس يتعلقون به، بصفته حياة أخرى موازية لحياتهم. ولذا ما عاد مقبولاً بلغة الأدب اليوم، قياس نجاح العمل الفني وجودته، بمدى مطابقة مسلك شخوصه مع رموز وشخوص واقعية. ومن هنا، فإن اللعب على مقابلة الفني بالواقعي ما عاد يصب في خانة إعلاء أي عمل فني. رواية"عمارة يعقوبيان"تقدم حكاياها، عن أكثر من شريحة اجتماعية ماثلة في المجتمع المصري الراهن. فهي تتناول شخصية"زكي بيك الدسوقي"بصفته أحد رموز مخلفات حقبة ما قبل ثورة يوليو، وكيف أن الثورة التهمت أملاك أبيه مثلما قضت على مستقبله ومسار حياته، وتركته شبحاً يقتات من مجد آفل، منغمساً في ذكرياته وعلاقاته النسائية، في مكتبه الكائن في العمارة. على ان استنطاق زكي بيك بواسطة الراوي، يعني تسليط الضوء على حياة شريحة من شرائح المجتمع المصري، التي بقدر ما تنتمي الى اخلاصها في حب وطنها مصر، فإنها تنتمي الى أمانيها التي تحطمت. وربما تبدو الدلالة واضحة في زواج زكي بيك في نهاية الرواية من"بثينة"، فتاة قاع المجتمع المصري، التي نشأت فوق السطوح، متحدرة من أسرة فقيرة، حالمة بالسفر الى الخارج. وكأن شريحة ملاك ما قبل الثورة، من أبناء مصر، محكوم عليها بالعودة الى أحضان مصر، وأن سفر الطبقات المسحوقة من الشعب المصري الحقيقي إنما يكون باتصالها ووصلها مع طبقة أخرى أغنى منها، وليس بهروبها خارج مصر. النموذج الآخر الذي تقدمه الرواية هو"الحاج محمد عزام"الذي بدأ حياته معدماً على أرصفة القاهرة، وما لبث عبر سنوات من الجهد والتعب أن غدا أحد كبار التجار، وكوّن مملكة مترامية، وكيف ارتقى هذا الحاج سلّم الوصول الى مجلس الشعب من خلال اتصاله ب"كمال الفولي"، أحد مفاتيح السلطة:"وأحد السياسيين المصريين القلائل الذين استطاعوا الاحتفاظ بمقعد في البرلمان لأكثر من ثلاثين سنة متصلة... والمتحكم الأول في الانتخابات في مصر كلها، فهو يرشح ويستبعد من يشاء من مرشحي الحزب ويشرف بنفسه على تزوير الانتخابات من الاسكندرية الى أسوان"ص 115، وقدم الحاج عزام رشوة كبيرة للفولي مليون جنيه كي يضمن وصوله الى كرسي المجلس الذي كان سبيله لأخذ مزيد من الوكالات الأجنبية، كوكالة السيارات اليابانية، لكن الفولي يطالبه بدفع ربع أرباحه من الوكالة الجديدة ل"الرجل الكبير"، وبعد مماطلة يطلب الحاج عزام مقابلة الرجل الكبير، لكنه يفاجأ يوم اللقاء بقاعة خالية يسمع فيها صوتاً مدوياً يطالبه بالتوقيع على العقد. اذا كان ممكناً تبرير سيطرة هاجس الجنس على مسلك زكي بيك الدسوقي، بسبب من انتمائه الطبقي ونمط حياته، فإن إقحام الجنس على حياة الحاج محمد عزام، وترتيب زواجه من امرأة مطلقة"سعاد جابر"يبدوان تدخلاً واضحاً من المؤلف، وكأنه أراد لجميع أبطاله أن يكونوا مشدودين الى نزعة الجنس، سواء السوية أو الشاذة، ويتجلى ذلك كأوضح ما يكون من خلال حكاية"حاتم رشيد"المخنث، منذ طفولته وحتى قتله على يد معشوقه"عبد ربه". حاتم رشيد، صاحب الجريدة، الذي التقط أحد العساكر عبر ربه من وسط البلد، وحرص على أن يغريه بالمال ويوفر له كل طلباته، مقابل أن يمارس الجنس معه ويشبع رغبته، وقد جهد المؤلف في جمع أو سرد أدق تفاصيل حياة الشواذ جنسياً وأماكن وجودهم وحواراتهم ومصطلحاتهم الخاصة، وكل ما يحيط بممارساتهم. لعل خوض الرواية في قضايا الفساد الاجتماعي ما كان ليكتمل بعيداً من بعض رجال الدين، فهناك أكثر من شخصية دينية ابتداء بالشيخ"السمان"رئيس الجمعية الخيرية الاسلامية، وعلاقاته المشبوهة برجالات السلطة والتجار مثل الحاج عزام؟ لكن النموذج الإسلامي الأهم في الرواية هو طه الشاذلي، ابن بواب عمارة يعقوبيان، الذي حصل على شهادة الدراسة الثانوية، حالماً في الانتساب الى كلية الشرطة، وفي أن يكون ضابطاً. لكنه يسقط في اجتياز"الحاجز الأخير"مقابلة اللجنة، ويرفض طلبه لكون أبيه بواباً، مما ينتهي به طالباً في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، الكلية التي تحتضن أبناء الذوات. وهناك وبدافع من أصوله الفقيرة، يجد نفسه منجذباً نحو أمثاله من الفقراء مما يقوده الى الدخول الى درب التنظيمات الاسلامية المتطرفة. رواية"عمارة يعقوبيان"تقدم خلطة تقوم على الجنس والدين والسياسة، مرتكزة الى الايحاء الذي يقدمه عنوانها، بصدق حوادثها، متخذة من ذلك مدخلاً لتسليط الضوء على أسرار الفساد والانحلال اللذين يعششان في ثنايا الحياة الاجتماعية التي تعيشها طبقات المجتمع المصري الراهن. وتناولت الرواية ذلك بلغة عادية بعيدة من أي ابتكار أو فنية. يبقى القول ان السجالات والنقاشات الكثيرة التي دارت حول الرواية، بما في ذلك مقال صبري العسكري، حول سرقة شخصيات الرواية من أعمال المسرحي نعمان عاشور، وما تبع ذلك من مداخلات كثيرة، خدمت الرواية كثيراً، وأطلقت لها صيتاً عالياً، وهذا أمر يختلف عن أسباب إقبال المترجمين عليها، في النظر اليها بصفتها رواية عربية معاصرة تعري الفساد والتخلف اللذين يعششان في جوانب أكبر مجتمع عربي. وتأكد لدى الآخر صدق فكرته بوجود مجموعات اسلامية ارهابية، وكلا العنصرين يدغدغ الآخر في تأكيد نظرته الدونية الى المجتمعات العربية كونها مجتمعات متأخرة وإرهابية. روائي وناقد كويتي