كان تقاطع العالم الإسلامي مع العلوم الحديثة خلال القرن التاسع عشر بالذات، قد أخذ شكل التحدي المزدوج الطابع، أي المادي والفكري في الوقت نفسه، وذلك لحظة أن استفاقت الإمبراطورية العثمانية على هول وقع الهجمة العسكرية عليها من طرف الأمم الغربية، حين دقت ساعة قطع أوصالها والاستيلاء على ولاياتها وأصبحت عاجزة عن رد العدوان العسكري والاستعماري، الأمر الذي استدعى الأمة الإسلامية حينها ضرورة اكتساب التقنية الغربية والعلم اللذين لهما علاقات أساسية متداخلة. ومهما يكن، فإن ضغط العلوم الحديثة على الإسلام ما زال قوياً، بحيث يمثل الغرب نموذج التقدم الذي ينبغي الاحتذاء به واللحاق به، سواء عبر تكوين تقنيين ومهندسين، أو العمل قدماً على ضمان تحويل كثيف للتقنيات الضرورية للتقدم. غير أن هذا الاحتكاك بذاته قاد إلى طرح سؤال أرّق الفكر الإسلامي من زاوية فلسفية وعقائدية على حد سواء، حين عمد إرنست رينان 1823- 1892 إلى النيل من المسلمين والعقل العربي في محاضرته الشهيرة:"الإسلاموية والعلموية"في السوربون سنة 1893، معتبراً أنهم عاجزون تمام العجز عن إنتاج المعرفة والأخذ بأسباب الحضارة والتقدم، بل انهم في رأيه غير قادرين على الإطلاق أن تمثل الحياة عقلانياً. الأمر الذي تلقاه الكثير من العلماء المسلمين المحتكين بالغرب كاستفزاز بالغ، إذ بادر جمال الدين الأفغاني 1838- 1892 أحد رواد الإصلاح الإسلامي، إلى تفنيد هذا الادعاء والرد على هذه المزاعم، مذكراً بأنه في الوقت الذي لم يعرف الإسلام أي قطيعة بين الدين والعلم، نجد المسيحية عامة، والكاثوليكية في شكل خاص قد عاشت صداماً طويلاً وشائكاً مع العلم. وأن العلم الحديث ليس في حقيقة الأمر إلا نسخة مطورة من"علم إسلامي"نشأ من ذي قبل في العصور الوسطى، وفي أحضان عصر خلفاء بني أمية وبني العباس، والذي تم نقله في النهاية إلى الغرب عبر الأندلس في القرن الثالث عشر بواسطة الترجمات التي أتاحت في ما بعد إشعاع النهضة وعصر الأنوار. ويدافع رواد التيار الإصلاحي في الإسلام، عن حقيقة أن العلم ليس شراً في حد ذاته، وأن ما يرفضونه في هذا السياق هو تلك الانحرافات التي لحقت بالعلم بسبب الانزلاق في مأزق الرؤية المادية والعلموية المضادة للدين، التي صاغها بعض من الفلاسفة والمثقفين في الغرب. ويعترف هؤلاء بأن العلم الحديث لم يولد بعد في العالم الإسلامي على رغم أن هذا الفضاء ذاته قد شهد تقدماً علمياً كبيراً أثناء العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، الأمر الذي يعود بالنسبة إليهم إلى"الاستيهامات"السحرية التي علقت بأصول الدين والتي حثت على الاستسلام للقدرية والجمود عوض ثقافة العمل والفعل. ووعياً في حال الجمود التي استشرت في العالم الإسلامي، نهض علماء النهضة ومصلحوها للدعوة إلى ضرورة فك أغلال التخلف والانتكاس والجمود، وذلك عبر إصلاح الفكر الإسلامي ذاته. وهو الخطاب الذي حظي بكثير من الانتشار والذيوع في العالم الإسلامي، إلا أنه أسفر في الوقت ذاته عن إشكالية كبرى قضّت المضاجع وأرّقت النفوس وما زالت، يمكن اختصارها في السؤال: هل سيؤدي الإصلاح إلى"تحديث الإسلام"أو إلى"أسلمة الحداثة"؟ ولا غرو في التأكيد أن المثقفين من المسلمين الذين يشتغلون حول قضايا العلم والدين يستلهمون رؤيتهم من المعرفة الإسلامية، لأن التقليد الإسلامي عادة ما يحث على العلم، بحيث يمكن أن نرصد ورود كلمة"علم"800 مرة في ثنايا الكتاب الكريم، وأن أول كلمة نزلت على محمد، هي"اقرأ"، وفيها الأمر القوي المحكم والتأكيد الملزم، لكل مسلم ومسلمة في كل زمان ومكان إلى العلم والتعلم. كما أن الأحاديث النبوية تعج بالدعوة إلى العلم والمعرفة مما لا غبار عليه، مثل:"العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"أو"اطلبوا العلم ولو في الصين". ومن ثم إن نظرية المعرفة الإسلامية يمكن حصرها في ثلاث مراحل: الأولى منها نصت على أن الوحي وراء المعرفة الدينية، بينما تؤكد الثانية أن معرفة الكون تقوم على البحث وإعمال الفكر والعقل والتدبر. أما المرحلة الأخيرة فتقوم على المعرفة اللدونية الروحية التي يمنحها الله لمن يشاء من عباده. وعن هذه المراحل الثلاث التي تتمحور حولها العلاقة بين العلم والدين، تبرز إضاءات متباينة، غير أن الأساس الذي تقوم عليه هذه المراحل الثلاث في ربطها بين الدين العلم، ينطلق من التفاعل القائم بينها من منطلق كلمة"آيات"التي تشير في الوقت نفسه إلى رموز وإشارات الخالق في الكون وآيات النص القرآني معاً. وهناك الكثير من السور القرآنية، المعروفة بپ"الآيات الكونية"التي وقف عندها المفسرون للفت نظر القراء حول ظواهر الطبيعة من باب فك شفرة فك صنع الخالق. غاية هذا التصور الإسلامي التشديد على التوحيد الذي يؤكد بدوره وحدانية المعرفة من منطلق وحدانية الخالق للدلالة عليه والوصول إليه. وبالتالي ليس هناك من خوف في هذا الباب من أن تتصادم الحقيقة العلمية مع الحقيقة الدينية، أو تلك التي أقرت بوجود حقيقة مزدوجة كما تمت إدانتها في العالم المسيحي في القرون الوسطى ونسبتها خطأ الى الفلاسفة المسلمين. إذ ان الفكرة الأساسية حول وحدة المعرفة ظهرت في موقفين من مواقف كبار علماء المسلمين، ما زالت تحظى كتبهما بقراءات واهتمامات متزايدة. فأبو أحمد الغزالي 1058- 1111 يدافع في كتابه"المنقذ من الضلال"مؤكداً أن اليقين العقلي حكمة ربانية، أما إذا وقع تعارض بين نتائج البحث الفلسفي الفلسفة والعلم ذو الأصول اللاتينية وتعاليم الوحي الديني، فذلك راجع من دون شك الى تطبيق الفلاسفة لمباحثهم خارج مجال صلاحيتها المعتاد، وهو ما أوصلهم إلى القول بقضايا خاطئة. أما أبو الوليد محمد ابن رشد 1126-1198 فيؤكد من جهته في فتواه التي ضمَّنها كتابه"فصل المقال"، أن الاشتغال بالفلسفة والعلم فرض ديني وواجب شرعي، وإذا حصل أن وقع تعارض ما بين الفلسفة والوحي، وجب التأويل، مخافة أن يتم تقويل الله أشياء خاطئة لم يقل بها. ومن ثم إن مختلف مواقف المسلمين المعاصرين تتوزع عبر ثلاثة تيارات رئيسة، فهي تتبع بطريقة أو بأخرى هذا التوجه القاضي بوحدة المعرفة. فالتيار الغالب والقريب من توجه الإصلاحيين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، لا يرى ثمة سوء بالضرورة في العلم، وأن الغرب صاحب الابتكارات العلمية اليوم، يجب الاكتفاء بمحاسبته عن رؤيته التي سقطت في مستنقع المادية ولا مبالاته الأخلاقية لا غير. بيد أن هذا التيار سقط في فخ الاعتراض على العلوم الإنسانية واعتبر أن العلم ينحصر بالأساس في العلوم الطبيعية، لكونه اعتقد أن العلوم الإنسانية في الغرب تتضمن بالضرورة قيماً مضادة للدين. والعلم في نظرهم بهذا المعنى، يهتم بپ"الوقائع"التي تعد في حد ذاتها حيادية تماماً. وما ينقص الغرب يكمن في غياب المعنى الأخلاقي، الذي قد نجده عند بعض علماء الغرب بصفة شخصية، لكنه لا يظهر بما فيه الكفاية أو منعدم بالكامل في السياق الفكري العام. هكذا عمد علماء كبار مثل الفيزيائي المسلم محمد عبدالسلام 1926-1996 الحائز جائزة نوبل للفيزياء عام 1979 لتقمص دور المحامين عن تطوير العلم الحديث في العالم الإسلامي. وهؤلاء المدافعون عن العلم يُذكِّرون بالفترة الذهبية التي كانت فيها قائمة العلماء المسلمين جد طويلة قبل أن يأخذهم التاريخ بالنسيان، وهم بهذا يبحثون عن بناء مستقبل بتشجيع الاهتمام بالتربية التي لها وظيفة تحريرية. وهذا التيار يعرف اليوم انبعاثاً متزايداً، ولو تم الالتفاف عليه بغايات تمجيدية. ففي سنة 1976 قام الجراح الفرنسي موريس بيكاي 1920- ...، بنشر كتاب"الإنجيل والقرآن والعلم"حيث قام بدراسة الكتب المقدسة على"ضوء المعارف الحديثة"، ليستخلص أصالة القرآن بسبب"وجود عدد من المقولات العلمية التي إن تم فحصها على ضوء معارف عصرنا بدت كتحدٍ للتفسير الإنساني". وإذا اتضح أن القصد من ذلك لم يكن في البداية التعرض لعلاقة العلم والدين في الإسلام، ولكن المشاركة في النقاشات الجارية بين المستشرقين والمختصين المعاصرين في الإسلام حول القرآن بتقديم عناصر تدعم أصالته، فإن فكرة"الدلائل العلمية"المؤكدة لحقيقة القرآن العلمية تمت إشاعتها في العالم الإسلامي بواسطة الكثير من الترجمات لكتاب موريس بيكاي، وتم تضخيمها لدرجة أنها أصبحت هي المهيمنة، بحيث أصبحت ثقيلة الحضور في النزعة التمجيدية المسيطرة حالياً. ووقع أصحاب هذا التيار بعد ذلك، في إعادة تأويل الموضوع التقليدي للإعجاز البياني في القرآن وإسقاطه باتجاه الإعجاز العلمي في القرآن، حتى أنهم كادوا أن يحولوا كتابه تعالى إلى مدونة للاختراعات العلمية. بل ان ما تم الوصول إليه من معارف وعلوم من"علماء الغرب"في هذا المشهد، إنما يأتي في سياق تأكيد حقيقة الإسلام، بحيث يشدد أصحاب هذا التيار على وجود اكتشافات العلم الأخيرة بأسرها علم الفلك، علم الأجنة، علم الجيوفيزياء، علم الأرصاد الجوية وعلم الأحياء في القرآن, للتشديد على هذا التصور. وهؤلاء الذين يدافعون عن هذا الموقف ينظرون الى العلم من دون الاهتمام برؤيته الخاصة للحياة ولا بفحص افتراضاته المعرفية والمنهجية. بل ان هناك من ذهب في هذا المنحى بعيداً، عندما عمد إلى القول إن القرآن يحتوي على مقولات علمية كمية، كالقول إنه يتضمن على وجه الدقة قياساً لسرعة الضوء، بل ادعى بعضهم تأسيس"علم إسلامي"قائم على مناهج جديدة تماماً. والنتيجة كانت أن الفيزيائي بيرفيز هودبهوي في كتابه"الإسلام والقرآن"اعترض أشد الاعتراض على هذا التحوير، لا سيما أن"خصوصية إقامة العلم على قواعد أخلاقية ودينية، لا تسمح بتأسيس علم جديد". فليس هناك من طريق لبناء علم جديد أو"علم إسلامي"، غير طريقة العلم الكوني التي مارسها علماء ينتمون الى الحضارة العربية الإسلامية في مرحلته الذهبية. أما التيار الثاني فيرفض فكرة علم كوني ويركز من جانبه على ضرورة فحص الافتراضات المعرفية والمنهجية للعلم الحديث ذي الأصل الغربي، مؤكداً أنها لن تقبل كما هي عليه في العالم الإسلامي. وهذا التيار يستند إلى النقد الصادر عن الفلسفة وتاريخ العلوم، بخاصة أن كارل بوبر 1902- 1994، وتوماس كوهن 1922- 1996 وبوب فايرباند 1924- 1994 كل من وجهة نظره، حاول مساءلة مفهوم الحقيقة العلمية وطبيعة المنهج التجريبي واستقلالية الإنتاج العلمي في علاقته بالمحيط الثقافي والاجتماعي حيث ظهرت. وفي هذا المناخ الذي يتميز بالنسبية والنزعة المضادة للواقعية في سياق التفكيكية ما بعد الحداثية، يرفض النقد الإسلامي للعلم الغربي، الفكرة التي مفادها وجود طريقة واحدة للاشتغال بالعلم. إذ يبحثون في تأسيس مبادئ"علم إسلامي"بتأصيل المعرفة العلمية والنشاط التقني على قيم الشريعة الإسلامية والتقاليد الإسلامية الناجمة عن تأويلات مختلفة. وهكذا نجد إسماعيل راجي الفاروقي 1921- 1986 بلور برنامجاً لأسلمة المعرفة، قام على تأسيس مؤسسة المعهد الدولي للفكر الإسلامي، عقب تجارب وتأملات قام بها مسلمون يشتغلون في الجامعات ومراكز البحث في أميركا الشمالية. ويقوم هذا البرنامج على معاينة حال قلق قد انتابت الأمة الإسلامية، يمكن أن نعزو مصدرها إلى استيراد رؤية للعالم خارج المنظور الإسلامي. * مدير المرصد الفلكي في فرنسا ومدير أبحاث في شؤون الكواكب والمجرات في المركز القومي للبحوث العلمية.