لا شك في أن الفلاسفة العرب والمسلمين لم يقوموا فقط بنقل الفلسفة اليونانية القديمة إلى مجالهم التداولي، وإيصالها إلى العالم الأوروبي، بل أضافوا عليها، وأبدعوا فلسفتهم الخاصة، التي كان لها أثر كبير في تطور الفلسفة بمختلف اتجاهاتها. وهناك من الباحثين والدارسين للحضارة العربية الإسلامية، من يميل إلى اعتبار أن العقلانية الفلسفية الإسلامية، في العصر الوسيط، تصالحت إلى حدّ كبير مع الدين الإسلامي، أي أنها سبقت العقلانية الفلسفية في الغرب بمراحل وقرون عدة. وذهب محمد أركون في دراسته للنزعة الإنسانية والعقلانية العربية في العصر الكلاسيكي، وبالتحديد في القرن الرابع الهجري، إلى القول بأن بعض الفلاسفة العرب والمسلمين، أمثال مسكويه والتوحيدي وأبي الحسن العامري وغيرهم، كانوا سبّاقين في عقلنة الدين وعقد مصالحة بين الدين والعقل. لكن الفلاسفة الأوروبيين، والحق يقال، حققوا الاستقلالية الكاملة للعقل بالقياس إلى النقل، أو بالأحرى للفلسفة بالقياس إلى اللاهوت الديني، الأمر الذي أفضى إلى قيام ثورة فكرية عظيمة، كان لها الأثر الكبير في التطور الأوروبي. غير أن الظهور المبكر للفكر النقدي في الإسلام، لم يكتب له الاستمرار، بل إنه حنق بعد فترة وجيرة، وخصوصاً بعد إغلاق باب الاجتهاد، والدخول في فترة الجمود والفوات، بينما حصل العكس في العالم الأوروبي، حيث تنامى الفكر النقدي في مواجهة أفكار التشدد والانغلاق حتى انتصر في النهاية مع النهضة والحداثة. والواقع هو أن المرحلة الكلاسيكية في الفلسفة العربية الإسلامية بدأت منذ أوائل القرن التاسع الميلادي وامتدت حتى القرن الثالث عشر، وذلك وفق إجماع الكثير من الباحثين في هذا الخصوص. وتوزعت الفلسفة العربية الإسلامية على مدارات عدة، مثل: علم الكلام، والمشائية الشرقية، والتصوف النظري، وسواها، الأمر الذي يقتضي النظر في المسائل والمباحث المميزة لكل منها بموضوعية، تبتعد عن الحكم الشخصي والاختزال أو المبالغة، وتقديم صورة متكاملة عنها، وعن أبرز أعلامها في عصرها الذهبي. ولم يكن ممكناً الوصول إلى العصر الذهبي للفلسفة العربية الإسلامية، من دون ذكر الدور الكبير الذي نهضت به حركة الترجمة، التي بدأت في العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، إلى جانب تبيان فضل بعض كبار المترجمين، من امثال حنين بن اسحاق، في تحويل اللغة العربية إلى لغة فلسفية، بعد أن كانت لغة شعر وفقه وحديث. وجاءت ولادة علم الكلام على يد المناقشات والمحاججات بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين ممثلي الديانات الأخرى، وبخاصة اليهودية والمسيحية، التي كان معتنقوها يعيشون بأمان في دار الإسلام في ذلك الوقت. وقد ساهم التعايش بين الفرق والمدارس الإسلامية في شحذ العقول وحضّها على العلم والدرس، وفي تحرير الأذهان من أسر التقاليد الدينية الضيقة. وأدى الحوار والجدل بينهم إلى بروز دور العقل حكماً أعلى في المناقشات اللاهوتية، وفي فهم العقائد الدينية نفسها. وفي سياق هذه المشادات ظهرت النزعة العقلانية وتطورت في علم الكلام، بوصفه أول التيارات الفلسفية في الفكر الإسلامي، الذي طوره مفكرو المعتزلة، ومن ثم الأشاعرة. وقد ظهر فلاسفة وأدباء وشعراء تجرأوا في العصر العباسي على نقد العقائد الدينية، بواسطة العقل والمنطق والفكر الفلسفي، من أمثال ابن المقفع وبشار بن برد وأبي العلاء المعري وابن الراوندي وابن رشد وسواهم، ودفع أغلبهم ثمناً باهظاً لأفكاره وأطروحاته، نظراً لأنهم مجّدوا العقل ووقفوا في وجه الفقهاء المتشددين المعادين للفلسفة. وتعتبر مسألة العلاقة بين الإيمان والعقل، أو الدين والفلسفة، إحدى أهم القضايا المحورية في السجالات الفكرية التي اكتسبت في الأوساط الكلامية صيغة العلاقة بين النقل والعقل (أو السمع). وقد انحاز المتكلمون، في حلهم لهذه المسألة، إلى طرف العقلانية، فقالوا بتقديم العقل على النقل، وأنكروا التقليد والمقلدين. وواجهت نزعة المتكلمين العقلانية والنقدية معارضة شديدة من أنصار «أصحاب الحديث» الذين كانوا يعولون على نص الكتاب والسنّة، ومن ثم الحنابلة والظاهرية من المذاهب الفقهية، والمالكية والحنفية من أنصار المذاهب الأخرى. وفي إطار سعيهم لإضفاء المشروعية على النظر العقلي، بحث المتكلمون في الكتاب والسنّة عما يمكن الاستناد إليه في تبرير النظر العقلي، ثم طوروه ليهتم بالطبيعيات والمنطقيات والرياضيات. وحين ساروا في درب اللقاء مع المشّائية الشرقية، راحوا يعملون لتمثل العلوم الفلسفية التقليدية. غير أن مسألة العلاقة بين الإيمان والعقل، والتي تصدى المتكلمون لحلها، يمكن ردها إلى البعد المعرفي لمسألة أعم وأشمل، هي مسألة العلاقة بين الإله والعالم. وهي مسألة شائكة، قيل وكتب فيها الكثير. ويعد الكندي، الذي لقّب بلقب «فيلسوف العرب»، أول الفلاسفة العرب الذين اشتغلوا ب «علوم الأوائل» اليونانية ونشرها، وجاءت أعماله وأطروحاته لتعكس خليطاً واسعاً من المذاهب التي تنحدر إلى أرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبرقليس والفيثاغوريين. وظهرت في القرن العاشر الميلادي مدرسة «المشائية الشرقية»، التي نسجت على منوال أرسطو. ويُقال إن التسمية جاءت من أن أرسطو كان يلقي الدروس على تلامذته وهو يتمشى وهم يسيرون حوله. أما كبار فلاسفة الإسلام الذين يمثلون هذه المدرسة، فهم: الفارابي وابن سينا وابن رشد. ويعود الفضل في تأسيس المشائية الشرقية، والعرض المنظم لأفكارها، إلى الفارابي، الذي لقب بالمعلم الثاني (بعد المعلم الأول-أرسطو)، ووضع عدداً كبيراً من الكتب والرسائل والشروح. وقد تمثل ابن سينا، الذي لُقب ب «الشيخ الرئيس» في مذهبه نظرية الفارابي في «المدينة الفاضلة»، وترك لنا مؤلفات جامعة. أما في المغرب العربي فقد صادفت المشائية الشرقية ازدهاراً على يد ابن باجة وابن طفيل وابن رشد. وقد انبرى المشائيون لحل الكثير من المسائل الفلسفية، خصوصاً مسألة ارتباط العقل النظري بالممارسة العملية، وتصنيف العلوم، والمنطق، والفيزياء، والميتافيزيقا... إلخ. ومن المهم تتبع التأثير الكبير الذي تركته الفلسفة العربية الإسلامية، ممثلة بالمشائيين، على الفكر الفلسفي الأوروبي. ويعتبر أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، أشهر طبيب عربي في العصور الوسطى، لكنه أيضاً كان فيلسوفاً، اشتهر بنقده الشديد لعقائد العامة، وبلورة ما يمكن تسميته نوعاً من التديُّن الفلسفي، وإن جاز القول قلنا التديُّن العقلاني. أما ظهور التصوف في الإسلام، فهنالك بعض الباحثين الذين يرجعون ظهوره إلى فجر الإسلام، لكن الثابت هو أن التصوف تطور من سلوك الزهد والتنسك إلى القول بالمحبة والفناء والحلول، ثم إلى التأمل الفلسفي. وتمثلت المرحلة الفلسفية للتصوف في مدرستين أساسيتين، هما: الإشراقية التي أسسها السهروردي، والوجودية التي أرسى أسسها ابن عربي. وتنطلق الإشراقية، أو حكمة الإشراق من القول بالنور مبدأ أول، هو على الصعيد الأنطولوجي الوجودي، جوهر الموجودات كافة، وهو على الصعيد المعرفي، يعدّ أساس المعرفة، فيما تقول الوجودية بأن الوجود هو الواقع الوحيد، وبأنه ينتسب إلى كل الكائنات على نحو واحد. وقد نهض التصوف في الإسلام، أو ما يعرف بالتصوف الإسلامي، على منهج استنباطي للصلة بين النفس والإله، حيث إن لكل متصوف طريقته الخاصة في السير نحو الذات العلية (الله)، لذلك تكمن حقيقة التصوف في مجموعة التجارب الذاتية للمتصوفة. لكن، على رغم من اختلاف مضامين ومواضيع ومنطلقات تجارب المتصوفة، إلا أن ذلك لا يلغي، حقيقة وجود صلات تقارب واتصال وتفاهم بينهم في مختلف الجوانب الروحية والفكرية والسلوكية ضمن إطار التجربة الصوفية ومنطقها. ذلك أن التصوف في الإسلام اتصل بالفلسفة وتداخل معها إلى درجة اعتبر فيها الفيلسوف صاحب تصوف عقلي، وهذا لا يلغي المنطق الخاص للتجربة الصوفية.