لا أقف أو أتوقف طويلاً امام نوع من رجال الدين السنّة أو الشيعة في العراق، أو في غيره، ممن يتعلمون ويعلمون من حولهم مواقف ساكنة أو مغلقة حول أمور ومفاهيم مفتوحة ومتحركة. فيرون الواقع والآخر وذاتهم وجماعتهم، كما يحبون أو كما يكرهون، وينقلون الواقع الملموس والمركب والمتغير الى مستوى المتخيل والبسيط والنهائي. فهم على حق دائماً والآخر على باطل دائماً! من دون أن يكون لديهم دليل شرعي أو عقلي على مدعاهم. وهناك في العراق، مثلاً، عدد محدود من رجال الدين السنّة لا تستطيع ان تقنعهم بأن هناك تعدداً أو اختلافاً في الوسط الشيعي على المستوى الفكري والسياسي، ولا تسلم المرجعيات العليا من هذا التعميم النمطي. وإذا حصل نوع من التنازل الظاهري مقدمة لحوار ما، فإن الحوار يتحول الى مجاملات والى استزادة الأدلة على القناعات المسبقة. ومع كل جولة حوار تصبح المسافة أبعد، والمواقف أشد تبايناً أو تناقضاً... وفي الوسط الشيعي، غير المرجعي، رجال مدنيون ورجال دين مبتلون بالداء نفسه، والذي من أهم عوارضه اقفال الأبواب والنوافذ، حتى ان الواحد منهم لا يرى الا ذاته، ولا يسمح لأي آخر بأن يراه... وكأن أمثال هؤلاء هم البناة الحصريون للأوطان والدول، أو القنوات الحصرية للمعرفة المتبادلة التي لا تنمو الا على اساس التداول والتبادل، والشراكة. وعليه فعندما نتوجه بالكلام الى العراق والعراقيين، إنما يكون مقصدنا الأول هم أولئك المعتدلون الذين يفحصون يقينهم، ويفرقون بين الظن واليقين والشك، ويعتبرون أن ظنهم الحسن بذاتهم والسيئ بالآخرين فيه فسحة للتعديل وتصحيح الصورة. أما شكوكهم فلا يجاهرون بها إلا لأهل المعرفة والخبرة والدين، طمعاً في تحويلها الى ظنون معضودة بأدلتها، أو الغائها، من دون ان ننسى أو نلغي أهل العصبيات والتعميمات وعاشقي الاطلاقات، الذين يتناسون أو ينسون القواعد الذهبية في السلوك العلمي الاسلامي كقاعدة ما من عام إلا وقد خص، الى قاعدة ذهبية أخرى وهي جعل الكليات الاسلامية والوطنية حاكمة على الجزئيات بدل العكس المدمر... هؤلاء لا نلغيهم من حسابنا وخطابنا ونصر على التفهم والتفاهم معهم، ونكف عن اوهام الغلبة، لأن الغالب مغلوب في القضايا المشتركة والمغلوب اذا لم يحسن التصرف بوضعه بحيث يعيده الى نصاب العدل بالصبر والحوار، فإنه يفاقم من مغلوبيته، فاذا ما أتيح له أن يغلب غالبه، فإنه سيدمر الآخر ويدمر ذاته فيه، كما هو تاريخ المغالبة التي تمليها وتغري بها العصبيات، فتدمر أهلها الذين يخسرون او يضاعفون خسائرهم بالصراع، وقد كان بامكانهم دائماً ان يصروا على التسوية لتقليل الخسائر وتوسيع نطاق المصالح المشتركة، ومن التعميم الى التخصيص. وفي ما يعود الى حال العراق أقول: ان في امكاني ومعي كثيرون من أهل الخبرة والمعرفة بالشأن المرجعي وشروطه العلمية والسلوكية وأدائها التاريخي، نعلم علماً يقترب من أعلى اليقين، بأن الله تعالى لا يمكن مرجعاً دينياً من الوصول الى المرجعية إلا اذا حقق الشرط العلمي الاجتهاد والتقوى في كل شيء، وإن كان هناك من علامات مشوشة لهذه الحقيقة فإنها لا تأتي من المرجع وإنما من فريق عمله، وهو يكون لها بالمرصاد دائماً. من هنا لا نجد للسيد علي السيستاني، مثلاً، ممثلين دائمين يمثلون في كل شيء، بل هو، كما السيد محمد سعيد الحكيم، يعمل مع أفراد فريق عمله"على القطعة"، من دون تثبيت، ومع أي خلل في الأداء ينتهي دور المكلف بالنشاط من قبل المرجع. واذا تبرع المريد للمرجع بعمل أو نشاط بدافع من رؤيته للمصلحة العامة، فإن الحصيلة تكون مقبولة اذا ما كانت سليمة، اما اذا حصل خطأ فإن المبادر هو الذي يتحمل المسؤولية. واذا كان الخطأ كبيراً كانت مسؤوليته حصرية، أما اذا كان الخطأ تكتيكياً فإنه يحتضن ويسدد وينصح وقد يمنع من الاندفاع الذاتي مرة اخرى. ومجمل هذه الشبكة من العمل المرجعي خبرته شخصياً عن كثب لم يكن كافياً لأن يجعلني أذهب بعيداً في تمثيل المرجعية في المفاصل الدقيقة بعيداً من الجزئيات والتفاصيل. وعليه يمكنني القول مع كثيرين من اهل الخبرة والمعرفة، من الشيعة العراقيين، من رجال الدين والمدنيين، ومن السياسيين والإسلاميين والليبراليين، بأن المرجعية النجفية، خصوصاً السيد السيستاني والسيد الحكيم، لا تحمل مشروعاً طائفياً للعراق لأن ذلك يمس بصدقيتها الدينية والوطنية، لكن هذا لا يعني ان يتنصل المرجع من شؤون طائفته، لأن ذلك قد يعني إفساح المجال امام من يلعب بها وبالوطن. ولذا يحافظ المرجع، بحكم علمه ودينه وإحساسه بالمسؤولية الوطنية، على جماعته الطائفية ويجنبها الزلل، ويدعو الى وحدتها عندما يجد في تشرذمها مفسدة وطنية، وهو يعرف ويقر، كما أقر السيد السيستاني أكثر من مرة وعلناً، بأن التعدد السياسي الشيعي أمر مفروغ منه وطبيعي وإيجابي، وإن كان في لحظة استخدم موقعه الأبوي والرعوي في جمع أكبر عدد ممكن من الحساسيات الشيعية في لائحة الائتلاف، فقد كان ذلك منه فعلاً إسلامياً ووطنياً، لم يمنع ظهور التعدد واضحاً في الصف الشيعي، مع بقائه على إصراره على ان يكون الحوار سائداً في الوسط الشيعي كشرط للحوار الذي يجب ان يسود على المستوى الوطني. وبناء على الوقائع الميدانية والسياسية التي عرفناها جميعاً بعد حادثة سامراء، وأثناء أزمة ترشيح الائتلاف للدكتور ابراهيم الجعفري الى رئاسة الحكومة، أبدينا خوفنا من ان تستمر عملية الانقسام الشيعي والسياسي التي جعلت كثيرين يفترضون ان هناك فئات في الصف الشيعي غير ملتزمة تماماً بالموقف المرجعي الحريص على الوحدة وضبط ردود الأفعال على العمليات الإرهابية الهادفة الى الفتنة الأهلية. اما ان يعود الناس الناس كما عادوا ويعود السياسيون الشيعة الى ظل المرجعية، فإنهم بذلك يعيدون إدخال العراق في ذمة المرجعية، هذه الذمة الكفيلة بالاتزان والتوازن والإصرار على دولة عراقية للجميع وبالجميع... وقد مرت المرجعية من بداية الاحتلال حتى الآن، باختبارات تثبت حكمتها وعمومية مسؤوليتها. فأمام أطروحة اجتثاث البعث أصرت المرجعية على رفضها الشرعي لأخذ القانون باليد، وأصرت على القضاء العادل والقانون العام سقفاً للحساب والعقوبة العادلة التي لا تطال إلا المرتكبين الذين لا يصبحون مرتكبين بالمعنى القانوني والشرعي إلا بعد المحاكمة وتوافر ادلة الإثبات القطعية ضدهم، وقد كانت لافتة مبادرة السيد السيستاني الى إرسال رسالة هادئة وتوضيحية الى الرئيس المصري حسني مبارك بعد تصريحه بأن ولاء الشيعة ليس لأوطانهم بل لإيران، وقد عودنا السيد السيستاني على ان يعالج الإشكاليات لا ان يقود حركة الانفعال ضدها، ولا ان يلعنها. الى ذلك فإن هناك اكثر من تصرف ونص يثبت حرصه على التفاهم العراقي - العربي حفظاً للعرب بالعراق وحفظاً للعراق بالعرب، من دون ان يتصور عراقاً سليماً من دون الأكراد، أو من دون التركمان والشبك واليزيدية والصابئة والأشوريين الذين دعا اخيراً الى إشراكهم في بناء السلطة التنفيذية، من دون ان يكون مضطراً للقطع مع ايران أو إدانتها من دون داع او دليل، محتفظاً دائماً بحقه ودوره النقدي الهادئ والحكيم لكل الأطراف العراقية والإقليمية، من دون عداء أو من دون نية في تحويل الاختلاف الى عداوة او التوافق الى تبعية. ونختم بالقول ان من التعسف ان نحرم رجل الدين او المرجع الديني من ممارسة حقه السياسي الفردي كمواطن، فيقترع سراً لهذا او ذاك، أما في موقعه المرجعي فهو مسؤول عن مجموع افراد المواطنين بصرف النظر عن معتقدهم او جنسيتهم، وهذا هو الحد المنهجي الفاصل بين الدين والسياسة. مع التأكيد بأن المرجعية الدينية ليست شأناً سياسياً حصرياً، وعليه فإن من العبث ان يطمع بعضهم في تعيين المرجعيات على اساس التوافق السياسي مع فلان وفلان، أي ان يعين مرجعيات الآخرين، السنّة او الشيعة، من دون اعتبار لشروط أي جماعة على مرجعيتها أو شروط هذه المرجعية المنحصرة في منظومتها الفكرية والفقهية... تماماً كما ان هناك مرجعية فكرية سياسية لتعيين المرجعية السياسية للجماعة او للدولة الوطنية، والتي هي اقل صرامة من المرجعية الدينية التي يتوخى فيها قدرتها على تجنب الخطأ الذي قد يكون أشد خطراً من الخطأ السياسي لأنه بنيوي، يفضي عادة الى خطأ او خطر سياسي، فيما تمكن معالجة الخطأ السياسي ومنعه من ان يفضي الى خطأ عميق في بنية الاجتماع ونظام حياته وعلائقه وقيمه. * رجل دين لبناني