يقول احد اعضاء مجلس الحكم الأنتقالي انه عندما زار آية الله علي السيستاني في النجف بادره هذا الأخير بأنه لا يريد التدخل في السياسة وان دوره توجيهي وعام. ويضيف عضو المجلس ان الساعة والنصف التي قضاها في حضرة السيد مضت كلها من دون ان يتوقف هذا الأخير عن الأحاديث السياسية المتعلقة بمستقبل العراق. العراق كله يتحدث اليوم عن دور المرجعية في الحياة السياسية فيه. القوى والأطراف غير المنضوية تحت عباءة هذه المرجعية تشعر ان في اتساع نفوذ المراحع الدينية ما يؤشر على ميل الى دولة دينية في العراق. الأعتراض على الدستور الموقت من قبل القوى الشيعية والدعوة الملحة الى تعجيل موعد الأنتخابات يفسران في هذا السياق ايضاً. هنا تحقيق ميداني من حلقتين يتناول هذه القضية. الزقاق الضيق المتفرع من شارع الرسول في مدينة النجف والمؤدي الى منزل المرجع الشيعي السيد علي السيستاني بُري اسمنت جدرانه لشدة ما لمسته اجسام العابرين الكثر الى ديوان المرجع. الباب المفضي الى المكتب ايضاً جعلته الأكف التي تدفعه يومياً شديد اللمعان. عابرو الزقاق هذه الأيام ليسوا المراجعين التقليديين فقط، على رغم كثرة هؤلاء، انما ايضاً اصناف مختلفة من السياسيين الجدد في العراق واعضاء مجلس الحكم الموقت، خصوصاً الشيعة منهم، بعدما جعل هؤلاء من المرجعية في النجف فيصل مواقفهم في المجلس. النجف كلها تُعد نفسها لدور جديد. لا يمكن لزائر هذه المدينة الا ان يسجل ما لا يحصى من الاشارات في هذا السياق. فالوضع الأمني الضاغط والتهديد المتواصل باستهداف المدينة لم يحد من حركة عمرانية جديدة تهدف الى تهييء المدينة لدورها الجديد. الفنادق حول الروضة العلوية يُعاد بناؤها وترميمها وتأهيلها حتى تتمكن من استقبال آلاف الزوار يومياً، والطرق المفضية الى المقام، وهي كثيرة وواسعة، جميعها مقفلة امام السيارات، والازدحام الشديد لم تحد منه فتوى السيستاني المتعلقة بحرمة دخول زوار الأماكن الشيعية المقدسة بغير الطرق الشرعية، وهو امر يفعله نحو 15 ألف ايراني يومياً. النجف مدينة المرجعية الدينية الشيعية التي طغى حضورها في الأشهر القليلة الفائتة على اي حضور آخر في العراق. مقتدى الصدر وتياره الواسع خمدا امام صعود دور السيستاني. الأحزاب الدينية الشيعية القادمة الى العراق بعد سقوط النظام فيه، انخرطت في دعاوى المرجعية، وحوّلت فتاوى السيستاني الى سقف لا يمكن تجاوزه. "العلمانيون" الشيعة في مجلس الحكم، امثال احمد الجلبي واياد علاوي، وجدوا انفسهم امام دارة الرجل في النجف فيستقبلهم نجله السيد محمد رضا، وبعد ساعات من التداول والتشاور يدخلهم الى غرفة والده فيسمعون كلاماً مقتضباً وعاماً ويتوجهون بعده الى بغداد ليشاركوا في مناقشات مجلس الحكم الموقت. الأميركيون حاولوا جاهدين الاجتماع بالرجل، اما الوفود الأخرى كوفد الجامعة العربية مثلاً، فالنجف ومكتب السيستاني هما على رأس قائمة اهدافها من زيارة العراق. هذا ناهيك عن الأممالمتحدة التي لبّت طلب السيستاني بارسال وفد الى العراق لدرس امكان اجراء انتخابات فيه، لكنها، وبحسب مقربين كثر من سيد النجف، خذلت المرجعية بأن أعلنت صعوبة اجراء انتخابات. لكن لهذا الدور المتعاظم للمرجعية الدينية وجهاً بدأ يتضح، وبدأت تنشأ حوله تحفظات كثيرة. فالعراق يشهد هذه الأيام نقاشات كثيرة ممهدة لتقرير مستقبل الدولة ونوع النظام السياسي فيه، ورجال الدين، وعلى رأسهم السيستاني، يشكلون الطرف الرئيس في النقاش والتداول، والاشارات التي تلتقطها اطراف التجاذب المختلفة توحي بأن المرجعية الدينية هي الطرف المحاور باسم الشيعة، وهي محكومة بموقعها ودورها، وهو ما يثير المخاوف من اتجاه الأمور نحو دولة غير تلك التي تسعى قوى عراقية اخرى اليها، ناهيك عما يسعى الأميركيون انفسهم اليه. فالنموذج الايراني المجاور ليس بطبيعة الحال هو ما جاءت الولاياتالمتحدة لتُحله محل النظام العراقي البائد. هذا مع استمرار المرجعية الشيعية في تأكيداتها ان دورها التوجيه وليس التقرير، وانها لا تؤمن بولاية الفقيه التي تشكل عصب النظام في ايران. لكن لتأكيدات المرجعية ما يضعف من امكان الاطمئنان اليها بحسب قوى عراقية اخرى. فالدور التوجيهي الذي تقول المرجعية انها تلعبه لا تؤكده مواقف كثيرة اطلقتها متعلقة بتفاصيل العملية السياسية، ومنها الاصرار على اجراء الانتخابات في الوقت الراهن، والتحفظات عن فقرات من الدستور. هذا في العام والمعلن، اما في التفاصيل فيؤكد اعضاء كثر في مجلس الحكم ان اجتماعات هذا الأخير محكومة دائماً بفتاوى المرجعية والحدود التي ترسمها للأعضاء الشيعة في مجلس الحكم. ويبدو انه صار من الصعب اقامة الحدود بين رغبات المرجعية وبين دعاوى القوى الشيعية المشاركة في المجلس، اذ ثمة ما يدفع اعضاء آخرين في المجلس الى الاعتقاد بأن تبادلاً للأدوار وتنسيقاً شبه يومي يصعب معه الفصل بين ما تريده المرجعية وبين طروحات الأعضاء الشيعة في مجلس الحكم، وربما جاءت تفاصيل التوقيع على القانون الموقت وما تبع هذا التوقيع من تحفظات اكثر من نصف الموقعين علامة على ذلك، خصوصاً ان فعل التوقيع حصل بعد اجتماعات مطولة عقدها اعضاء خمسة من الشيعة في النجف مع نجل آية الله السيستاني بما اوحى بأنهم جاؤوا الى بغداد حاملين موافقة المرجع على التوقيع. الأمر الثاني المتعلق بعدم تبني المرجعية الشيعية في النجف لولاية الفقيه والتي تطلق في سياق استبعاد تبني هذه المرجعية للدولة الاسلامية في العراق، يبدو انه ليس ضماناً كافياً للأطراف الأخرى في مجلس الحكم كما للقوى الطائفية الأخرى. فولاية الفقيه بحسب عدد من رجال الدين الشيعة في العراق "هي احدى نماذج الحكم الاسلامي وليست كلها"، وقول كهذا لا يعني استبعاد الدعوة الى دولة اسلامية انما استبعاد احد نماذج الحكم الاسلامي، فيما تتفاوت النماذج الأخرى على نحو لم تبلوره القوى الدينية الشيعية في العراق بعد. والمشكلة ان طغيان مرجعية السيستاني على برامج القوى الشيعية في العراق جعل من الصعب الفصل بين ما تريده هذه المرجعية وما تدعو اليه هذه القوى. انعقاد المطالبات على امور محددة واشتراك القوى الشيعية المختلفة في رفض ما يطرح اليوم أو قبوله، يضعف التفاوتات ويدفع الى الاعتقاد بأن انسجاماً قائماً بين هذه القوى، وان ثمة من يدير الخلافات التي لا تبدو كبيرة امام الاتفاق الكبير مثلاً على الاصرار على اجراء الانتخابات او رفض المادة المتعلقة بحق ثلثي ناخبي ثلاث محافظات في نقض قانون ما. فيبدو والحال هذه ان الفارق طفيف بين ما اكده ل"الحياة" السيد محمد رضا الغريفي وهو من المقربين من السيستاني واستاذ في الحوزة النجفية لجهة ان المرجعية تريد دستوراً من خلال جمعية وطنية منتخبة تراعي حقيقة ان 95 في المئة من العراقيين هم من المسلمين، وبين ما قاله السيد هادي المدرسي في كربلاء ل"الحياة" ايضاً من ان الاسلام دين الناس في العراق فلماذا لا يكون دستورهم. المرجعية الشيعية في العراق دائمة الدعوة الى التمييز بين دورها وبين دور القوى الدينية الشيعية المختلفة، لكن هذا التمييز من الصعب اقامته ميدانياً وعملياً. فزائر السيد علي الواعظ في منطقة الكاظمية في بغداد وهو وكيل حسبي للسيستاني وواحد من القنوات التي تصل بين المرجعية وبين المؤمنين، هذا الزائر سيلاحظ من دون جهد انغماس السيد الوكيل بما يتعدى ما تعلن المرجعية انها تتصدى اليه. فالواعظ وبالتعاون مع رجال دين آخرين في صدد تأسيس جهاز امني يتولى امن منطقة الكاظم وهو يقول ذلك وبيده اوراق قال انها وصلته من النجف وهي عبارة عن استمارات لجمع تواقيع الرافضين للدستور الموقت. ويتحدث الواعظ عن شبابه الذين "ألقوا القبض على عدد من الارهابيين غير العراقيين". ويقيم السيد في زقاق متفرعٍ من الساحة الرئيسة المقابلة لمقام الامام الكاظم، ولا يخفي امتعاضه من الحال التي ادت الى تمكن مفجري المقام في العاشر من محرم من الوصول الى الصحن، ملمحاً الى مسؤولية جهاز الأمن الحالي الذي يتولى حماية المقام، علماً ان جهاز الأمن الذي قال الواعظ انه ليس بالمستوى المطلوب لحماية المرقد هو بادارة السيد حسين الصدر الذي يعتبر ايضاً امتداداً آخر للمرجعية السيستانية في منطقة الكاظم. وقد يكون الواعظ، وهو الوكيل الحسبي للسيستاني، مستقلاً عن المرجعية في ما يتعدى القضايا التي اوكلته فيها والمتعلقة بقضايا الحقوق والزكاة والفصل والزواج والطلاق، لكن الصلة بالمرجعية بالنسبة الى العراقيين الشيعة لا يمكن نظمها وفق هذا التقسيم، واذا كانت هذه الوظائف هي المناطة بالواعظ فكيف خلط بينها وبين استمارات رفض الدستور الموقت؟ للتوجس الذي يبديه علمانيو مجلس الحكم من توجه القوى الشيعية نحو دولة دينية ما يسنده من وقائع، فالقرار 137 المتعلق بالغاء القانون المدني للأحوال الشخصية وتحويل القضايا المتعلقة بالزواج والطلاق والارث الى المحاكم الدينية والذي وقعه السيد عبدالعزيز الحكيم خلال فترة ترؤسه مجلس الحكم، تم تمريره على نحو يثير الريبة. فبدلاً من تحويله الى الحاكم المدني الأميركي بول بريمر الذي من المفترض ان يقبل قرارات مجلس الحكم او يرفضها، فوجئ اعضاء مجلس الحكم بأن القرار احيل الى حقيبة القرارات التي ترك تنفيذها الى ما بعد 30 حزيران يونيو 2004، اي بعد تسلم حكومة عراقية لا تحتاج الى تواقيع بريمر حتى تطبق قراراتها. ويقول عضو في مجلس الحكم ان كلام زميله في المجلس موفق الربيعي حول ضرورة الاطاحة بالفقرة "ج" من الدستور ينم عن وجود روح اقتحامية تتجاوز الخلاف على هذه الفقرة. ورأى عضو المجلس ان المحور الشيعي هذا مستعد الآن لمفاوضة الأكراد على توسيع الفيديرالية مقابل اعطائهم في مكان آخر. الفروق الكثيرة بين ممثلي المرجعية وما يوازيهم في المناطق العراقية المختلفة ليست على كل حال الا وجهاً لغياب الانسجام في الآلة الواحدة. هذا الأمر غير مطروح اليوم، لأن هذا الانسجام ليس ملحاً في المرحلة الراهنة، فتأجيل الخلاف في التفاصيل تمارسه معظم القوى الشيعية المنضوية تحت عباءة المرجعية، وتمارسه ايضاً قوى دينية شيعية اخرى خارج هذه العباءة كتيار "الحوزة الناطقة" الذي يتزعمه مقتدى الصدر والذي انخرط ممثلوه في حركة رفض الدستور الموقت تحت السقف نفسه الذي حدده السيستاني. ثم ان الاستماع الى ممثلي هذه القوى يشعرك بأنك حيال اصداء متفاوتة لصوت واحد. جميعهم يريدون الاسراع باجراء الانتخابات وجميعهم يحملون على الأممالمتحدة ومبعوثها الى العراق الأخضر الابراهيمي ناهيك عن اجماعهم على رفض قضية المحافظات الثلاث، والأهم من ذلك كله اشارتهم جميعاً الى دور للاسلام كنص في تحديد مستقبل الدولة ونوعها. المتجول في المناطق العراقية المختلفة لا بد له من ان يلمس ان الشيعة يهيئون انفسهم لحكم العراق. انهم الأكثرية وهم يسعون الى تخريج اقل صخباً لغلبتهم، ولكنهم يحثون الخطى في هذا الاتجاه. الاسراع باجراء الانتخابات في الوضع الراهن سيحول دون حصول فرز مختلف للقوى. فالعشائر اليوم منهكة ولا اثر لتيارات علمانية او غير دينية في الجنوب باستثناء جيوب شيوعية واهنة. وحصول الانتخابات سيعني حكماً وصول ممثلي المرجعية او ممثلي قوى منضوية تحت عباءتها، علماً انه سيتاح لهذه المرجعية التخفف من انتمائهم اليها عبر التأكيد انها على مسافة واحدة من جميع المرشحين. فهذا الأمر هو عينه ما يحصل حالياً، اذ يؤكد مكتب السيد السيستاني ان دوره توجيهي وهو لا يتدخل في تفاصيل الحياة السياسية، في حين تتحول دعاويه الى مركز المناقشات داخل مجلس الحكم. الفراغ الذي خلّفه سقوط النظام في العراق ولم تملأه القوات الأميركية لم يجد امامه في مدن الجنوب الا الأحزاب الدينية في البداية وهي التي بدورها لم تتمكن من الاحاطة بأوضاع هذه المدن فأفسحت بفعل ضغوط السكان للمرجعية الدينية. وهذا ما قد يفسر الى حد ما استعجال الكثير من القوى الشيعية في العراق الانتخابات، فحصولها الآن في ظل تحول هذه الأحزاب مع المرجعية الى الأفق الوحيد المتاح امام السكان لن يعني الا وصول ممثلين يخترقون التراكيب التقليدية الأخرى التي لا اثر لها اليوم في ظل حال الفوضى التي يعيشها العراق، والتي تتجسد في الجنوب بسيطرة كاملة للميليشيات الشيعية على الحواضر المدينية وعلى البادية في الجنوب. وربما جاءت التفجيرات الانتحارية التي استهدفت المراقد الشيعية الدينية لتعزز من حال الانهيار والتبدل هذه ولتجعل من القوى القادمة الى الجنوبالعراقي النموذج البديل الذي يرد على مُستهدفي الشيعة في العراق. ففي ظل شعور السكان بغياب حماية قوى التحالف لمدنهم، تعزز ميلهم الى اللجوء الى هذه القوى لتحميهم، وتوظيف هذا الأمر في العملية السياسية لن يتم الا اذا حصلت الانتخابات في أسرع وقت ممكن. المدن التي تحتضن المراقد الدينية والتي تعرضت اكثر من مرة لأعمال التفجير كالكاظمية والنجف وكربلاء لا تعيش فقط على وقع المآسي التي اصابتها، وانما تشعر بأن ما يجري فيها يمثل نهضة للكثير من اوجه النشاط والحركة. النجف التي شكلت عنواناً لاضطهاد الشيعة من قبل النظام السابق، والتي تراجع دورها الديني خلاله الى ادنى مستوياته منذ قرون، تشهد هذه الأيام نهوضاً للكثير من المرافق. آثار جثوم النظام السابق على صدر المدينة ما زالت واضحة في تقسيم الأحياء وفي الطرق المؤدية الى صحن مرقد الأمام علي. بائع القماش في شارع الرسول يعرف منازل معظم رجال الدين في المدينة، فهم زبائنه، والقماش الذي يعرضه في متجره مخصص للعمائم والجبب. يقول التاجر ان المعممين في المدينة بدأوا بالتزايد وهو امر ضاعف من مبيعاته. البائع الخمسيني زين لهجته بعبارات الترحيب العراقية وشرع يتحدث عن رجال الدين زبائنه وعن منازلهم. الشيخ البهادلي الذي سألنا عن منزله يقيم في حي المعلمين، والبائع يعرف ان هذا الوقت مناسب لزيارته، فهو يعطي دروسه في منزله وبعد وقت قليل يخلد الشيخ الى الراحة ولا يستيقظ قبل الخامسة مساء. الوصول الى حي المعلمين من شارع الرسول يقتضي الوقوف اكثر من ساعة في ازدحامات النجف. الغبار ينبعث من كل الاتجاهات في النجف، فاضافة الى كونها مدينة صحراوية، ثمة مصادر اضافية للغبار في المدينة، ربما كان زحف الصحراء الى الأحياء والمنازل العارية واحداً منها. فأزقة النجف واحياؤها البعيدة نسبياً عن المرقد اشبه بمناطق اخلاها اهلها فمات زرعها وتكاثفت طبقات من الغبار على جدرانها. انها منازل مستقلة ومنتظمة في قطاعات ونواحٍ ولكنها قليلة الحياة. ربما فسر ذلك ما قاله زهير، ابن المدينة، عن ان معظم العائلات النجفية تركت المدينة الى بغداد وحل محلها سكان من عشائر الجنوب، وتحديداً من البصرة والعمارة، هؤلاء الذين كان النظام السابق يمنع انتقالهم الى بغداد. ويضيف زهير انه لم يبق الكثير من النجف القديمة اليوم. فقد كانت مقبرة النجف في السابق مصدر رزق رئيسي لشبكة كبيرة من اهل المدينة، اما اليوم فمعدل الجنائز اليومية لا يتعدى الأربعين جنازة ينقلها الشيعة من مناطق العراق المختلفة الى مقبرة النجف التي يقال انها من اكبر مقابر العالم. وتبدأ رحلة الجنائز في النجف من الكوفة حيث يكون في انتظارها شبان على دراجات هوائية يستوضحون من المشيعين اسم وهوية المُشيع ويحددون معهم مكان دفنه ثم ينطلقون على دراجاتهم فيخبرون الامام المصلي والمُقرئ وحافر القبر وموزعي الشاي والماء ويتقاضون من هؤلاء اجراً يقتطع مما يدفعه اهل الفقيد الذين، بحسب زهير، غالباً ما لا يكترثون بما يدفعونه بسبب فجيعتهم. سنوات البعث في النجف اتت على الكثير من علامات العيش في المدينة وعلى وظائف لطالما اضطلعت بها. التجاذب في المؤسسة الدينية بين المراجع العرب والمراجع من اصل ايراني يبدو اليوم ضعيفاً، ومن اهم علامات ضعفه الاجماع على مرجعية السيد علي السيستاني، وهو ايراني الأصل، مع استمرار بعض وجوه هذا الاصطفاف الذي ربما مثل قطبه العربي المرجع السيد محمد سعيد الحكيم، وربما ايضاً مثّل مقتدى الصدر نوعاً آخر من هذا الانقسام. ولكن يبدو ان النفوذ الايراني في المؤسسة النجفية غالباً ما كان راجحاً. فنفوذ رجال الحوزة مستمد اساساً من حجم الحقوق التي يجمعونها، اي الخمس والزكاة، وفيما كان المراجع الايرانيون يتلقون الحقوق من المؤمنين الايرانيين الأثرياء، كان المراجع الشيعة يتلقون حقوقهم من ابناء العشائر العربية الساكنة في جنوبالعراق وهي عشائر فقيرة قياساً بالايرانيين. ويتحدث احد شيوخ العشائر في الجنوب عن دور رجال الدين النجفيين في رعاية العشائر العربية في الجنوب، فيقول: "غالباً ما ترتبط العشيرة برجل دين نجفي يزورها اكثر من مرة في السنة ويقيم في ضيافتها لأيام واحياناً لأسابيع، فيزوج الرجال من النساء ويفض خلافات الأهل ويوزع الارث، ونعطيه اجراً من غنمنا، وهو غالباً ما يترك غنمه في قطعاننا، وهي من اهم الغنم ونسميها غنم الشيوخ". وعندما تأتي العشائر الجنوبية الى النجف لزيارة المقام يقوم رجل الدين هذا باستضافتها لأيام في دارته التي غالباً ما تخصص غرف منها لاقامة الضيوف. المقاهي في اسواق النجف تشبه الى حد كبير ديوانيات المشايخ. الشاي هو الصنف الوحيد الذي يقدمه النُدل النجفيون، ورواد المقاهي هم من ابناء المدينة الأصليون. صورة عبدالكريم قاسم في المقهى الى جانب صور المراجع الشيعية. "اهالي النجف تظاهروا بالأمس بسبب الاختناقات المرورية"، قال حسين وهو شاب كان يجلس في المقهى الكائن في الشارع المؤدي الى الصحن. التظاهر هنا في النجف صار من وسائل التعبير العادية، ثم ان الناس لا يحتاجون الى الكثير ليتظاهروا، فالشارع هنا مزدحم اصلاً بهم ولا ينقصهم الا لافتة صغيرة، ومن ينادي بمطالب جديدة. يمكن ملاحظة فروق ما بين السكان الأصليين واهالي اقصى الجنوب المختلطين في الأسواق المجاورة للمرقد. وسام شهيد، مدرس، يقصد المقهى كل يوم في ساعات بعد الظهر، يقول: "ان الدستور الموقت يضعف من هيبة الدولة. فالعراق لم يألف النظام الفيديرالي ونحن تواقون لأن نرى بلداً يتمتع بمركزية قوية". ويضيف: "لكننا لا نريد دولة على النموذج الايراني". والى جوار وسام يجلس رجل من عشيرة الفتلاوية، وهي من كبريات العشائر النجفية، يدعى تركي قال انه ينتمي الى الحزب الشيوعي العراقي ويعمل كما معظم ابناء عشيرته في زراعة الرز. اعتبر الفتلاوي ان قرار مجلس الحكم بما يخص الدستور الموقت قرار صائب، والسيد السيستاني ليس ضده، فعندما زاره اعضاء مجلس الحكم قبل توقيعهم عليه قال لهم: "على بركة الله". واضاف "الحقيقة ان دور رجال الدين متعاظم هذه الأيام، وهم يرغبون بنظام على النموذج الايراني، والكثير منهم على علاقة مع الايرانيين". وتبدو قضية الوجود الايراني في النجف واحدة من القضايا المتداولة على اكثر من صعيد، اذ تعتبر السياحة الدينية في المدينة مصدراً رئيساً لاقتصادها، ويصل كل يوم الى العراق نحو 15 ألف زائر ايراني معظمهم يدخلون بطريقة غير شرعية، في حين اكد مسؤول في وزارة الداخلية ل"الحياة" ان عدد الذين يخرجون من العراق من هؤلاء الزوار اقل من هذا الرقم بكثير، مما يعني ان آلافاً من الايرانيين استقروا في العراق. وعدد الزوار تناقص بعد الفتوى التي اصدرها السيستاني اثر تفجيرات كربلاء والكاظم والكاظمية بحرمة الدخول الى الأراضي العراقية بغير الطرق الشرعية. ويبدو ايضاً ان زوار المراقد الدينية من الايرانيين يخالطهم زوار ايرانيون آخرون. ويقول صحافي عراقي يعمل في الجنوب: "ان هؤلاء الزوار ثلاثة انواع: حجاج اولاً، وعصابات تجارة المخدرات ثانياً، وعناصر من الاستخبارات الايرانية ثالثاً". ويضيف: "استحدثت الاستخبارات الايرانية مراكز لها في بعض مناطق الأهوار المقابلة لمنطقة همت الايرانية وفي منطقة الكحلاء والمدينة والمشرح، وانشأوا منظمة محلية تدعى منظمة "ثار الله" وهي تعتبر واجهة من واجهات الاستخبارات الايرانية". والوجود الايراني الكثيف في النجف وكربلاء مصدر آخر للتوجس غير الشيعي في العراق، اذ يشير عدد من المسؤولين العراقيين الجدد الى هذا الوجود بصفته اشارة الى تواطؤ قوى عراقية مع التيارات المتشددة في ايران، تلك التي ترى ان من واجبها دعم مشروع دولة مشابهة للنموذج الايراني. وربما جاءت فتوى السيستاني القاضية بحرمة دخول الايرانيين بصفة غير شرعية الى مدن العتبات المقدسة، مطمئنة لهؤلاء، لكنها لم تبدد المخاوف من الطموحات الى دولة دينية ولكن على غير النموذج الايراني.