لم يفاجئ التقرير السنوي لعام 2005 الذي أصدرته"اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان"في الدوحة الذين اطلعوا على مضمونه خارج قطر فحسب، بل فاجأ أيضا بعض المراقبين في الدوحة، وربما عددا من المواطنين القطريين الذين لم يتوقعوا أن يتناول التقرير"انتهاكات"لحقوق الإنسان في ميادين عدة بهذا الوضوح والجرأة. اذ لم يكن التقرير هلاميا أو مختبئا خلف عبارات فضفاضة، ولم يتوار خجلا وراء صيغ تتسم بالمراوغة، أو الميوعة، بل سمى الأشياء بأسمائها، واقترح على الحكومة إعادة النظر في عدد من القوانين التي يرى واضعوه أنها تؤدي الى انتهاك حقوق الإنسان. وقد شكلت اللجنة القطرية بقرار من أمير البلاد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني عام 2002، وهو أصدر في الخامس من آيار مايو 2003"قانون انشاء اللجنة"التي تتكون من خمسة أعضاء من منظمات المجتمع المدني، وممثلين لوزارات الخارجية والداخلية وشؤون الخدمة المدنية والاسكان، والعدل، والصحة قبل حلها وتشكيل هيئة الصحة، والأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس الأعلى لشؤون الأسرة. ونصت المادة الأولى على أن تكون للجنة شخصية اعتبارية وموازنة مستقلة. ووفقا للمادة الثانية لقانون انشاء اللجنة القطرية فانها تهدف الى "العمل على حماية حقوق الإنسان وحرياته"، حدد لها العمل على تحقيق الأهداف الواردة في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان والتي أصبحت الدولة طرفا فيها"، وتقديم المشورة للجهات المعنية في الدولة في المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته، والنظر في التجاوزات على حقوق الإنسان وحرياته إن وجدت، واقتراح السبل الكفيلة بمعالجتها وتفادي وقوعها، وتعزيز الوعي والتثقيف بحقوق الإنسان وحرياته. وهذا يعني أن عضوية اللجنة يغلب عليه الطابع الحكومي، إن لم تكن حكومية الهوى، لكنها بدأت خطواتها الأولى بثبات وخطوات واثقة، ومن هنا أيضا استمد التقرير أهميته، واكتسى صدقية الغوص في لب الأشياء بدلا من ايثار الجلوس على رصيف الأحداث، بخاصة أن الحكومات العربية تنشيء لجانا"كرتونية"لحقوق الإنسان، في محاولة فاشلة لتغطية الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان بغربال في وضح النهار، لا كشفها والقاء الضوء عليها بوضوح وجرأة، وها هي اللجنة القطرية تخرج بهذا التقرير من"عنق الزجاجة"سليمة معافاة، ولم تسقط في أول امتحان كبير تواجهه، فأرسلت بذلك رسائل عدة الى أكثر من جهة، بل وضعت نفسها والحكومة القطرية أمام تحديات كبيرة، إذ لا يعقل أن يقل سقف التناول لقضايا حقوق الإنسان عن سقف تقرير 2005، الذي جاء أكثر تميزا ووضوحا من تقرير 2004. ويتكون التقرير من 57 صفحة، وجاء تحت عنوان"حال حقوق الانسان ونشاط اللجنة عام 2005"، وضم أبوابا عن التطورات على الصعيد القانوني في قطر، وأوضاع حقوق الإنسان والحريات، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الحق في العيش الكريم والتعليم والسكن والصحة، وحقوق الفئات الأولى بالرعاية المرأة والطفل والعمال وكبار السن ودور المجتمع المدني. وتضمن القسم الثالث نشاط اللجنة ونتائج أعمالها عام 2005، وضم ذلك"الشكاوى". أما القسم الرابع فتضمن توصيات واقتراحات، وكل ذلك رفع للحكومة وللقيادة التي تقف وراء كل هذه التطورات الايجابية. وعلى رغم أن التقرير أشار الى ما وصفه ب"المد الواضح نحو الارتقاء باوضاع حقوق الإنسان"و"التقدم الملموس في مجال حماية حقوق الإنسان في دولة قطر"لم يخف"عددا من الانتهاكات لبعض الحقوق"، فتناول قضية سحب الجنسية من نحو خمسة آلاف شخص، ودعا الى تشكيل لجنة تتسم بالشفافية والحيادية لبحث تلك الحالات، و"اتخاذ قرارات عادلة وسريعة"، وكان واضحا في تناوله لهذه القضية التي وصفها بأنها موضوع خطير بما له من تداعيات أمنية واقتصادية وسياسية، لافتا الى رصد تعليمات صدرت"من الحكومة تقضي باعادة الجنسية وفقا للقانون"وأنه"تم البدء فعلا بتنفيذ هذه التعليمات من الجهات المختصة وقت صدور التقرير". وكان لافتاً تناول التقرير معاناة العمال الأجانب والتي تشمل دول المنطقة كافة، فأشار الى ظلم الكفيل بخاصة بعض شركات المقاولات وأرباب أسر يسيئون الى خدم وخادمات المنازل وينتهكون حقوقهم الانسانية والقانونية، ولم ينس قضية"الكفالة"ومشكلاتها ومسألة"الخروجية"التي تشكل وفقا لمراقبين وعاملين في دول الخليج مظهرا من مظاهر التحكم والسيطرة، ويستخدمها بعض المديرين وأصحاب العمل في القطاعين العام والخاص بأساليب استبدادية ظالمة. وعلى رغم التطورات الايجابية في شأن المرأة التي أصبحت مشاركة في مجالات عدة حاليا، واتاح لها الدستور حق الترشيح والاقتراع، بل صار صوتها مسموعا بفضل أدوار ومبادرات الشيخة موزة بنت ناصر المسند رئيسة مجلس إدارة المجلس الأعلى لشؤون الأسرة، وهي زوجة أمير قطر، فكان للمرأة حضور في التقرير الذي رصد انتهاكا لحقها تمثل في التمييز بين الرجال والنساء في تقلد الوظائف والراتب والعلاوات والمميزات المرتبطة بالوظيفة، وفي قروض كبار الموظفين وتخصيص الأراضي والمساكن الشعبية. وتحدث التقرير بلغة الأرقام، إذ أشار الى أن لجنة حقوق الانسان تلقت 585 شكوى شملت مجالات عدة بينها خلافات بين الكفيل والمكفول صاحب العمل والعمل الأجنبي، والوقف في حجز الإبعاد سجن يوضع فيه أجانب يراد ابعادهم الى بلدانهم، وشكاوى في شأن الحق في السكن، وأربع شكاوى حول الاحتجاز في جهاز أمن الدولة، و13 شكوى تتعلق بحقوق المرأة، و15 شكوى جماعية تتعلق بالتأخير في صرف رواتب العمال وسوء أحوالهم المعيشية، وندد بالمعاملة اللاانسانية التي يلقاها عمال المنازل. ودعا التقرير الى صدور قانون جديد يستحدث آلية فعالة وسريعة لانصاف العمال وحماية حقوقهم. وتناول التقرير مجالات ايجابية عدة تتسم بها مرحلة التحولات المتسارعة في قطر حاليا، وبينها توافر حقوق التعليم والصحة، وتطورات جادة نحو مزيد من حرية الرأي والتعبير، وتحسن وضع المرأة، وانخفاض معدلات وفيات الرضع والأطفال دون الخامسة، وحصول كبار السن على رعاية جيدة، وطالب بزيادة المبلغ الشهري لكبار السن لمواجهة ارتفاع مستوى المعيشة وتضمن التقرير توصيات عدة لحماية الحق العام والأمان الشخصي، فدعت الى إلغاء أو تعديل قانون حماية المجتمع، مع اطلاق دعوة لتعديل قانون جهاز أمن الدولة، وقانون الإرهاب، ودعت الى الغاء العقوبات السالبة في قضايا النشر، وحضت على وضع خطة وطنية لدفع المشاركة السياسية للمرأة، اضافة الى توصيات شملت مجالات العمال والطفل وحقوق كبار السن وذوي الاعاقة، وحق المشاركة في الشؤون العامة، و وتوصيات بشان الحق في التقاضي و الحق في محاكمة عادلة، وقضايا أخرى. لكن يبقى سؤال مهم: هل كان في الامكان أن يصدر تقرير اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في غياب موافقة سياسية على أعلى المستويات؟ والإجابة هي أن صدور التقرير يعني أن القيادة القطرية لم تشكل هذه اللجنة لتجامل الحكومة أو تغطي على الممارسات السلبية والمسيئة لحقوق الإنسان، وهذا معناه أن الرسالة الأولى التي أطلقها تقرير اللجنة هي أن لا مداراة بعد اليوم للانتهاكات أيا كان نوعها ومصدرها، وهذا يعني أيضا أن الدولة عازمة على بناء مجتمع الشفافية والعدل، وهذا لن يحدث بالطبع الا اذا احترمت حقوق الانسان وحرياته الأساسية، ولعل صدور التقرير يمثل خطوة شجاعة وجريئة، وهي تؤشر الى نجاح قطر في أول امتحان كبير بعدما بدأ العمل بالدستور الدائم، أي نشر التقرير شكل"ضربة معلم جديدة"، تحتاج الى قراءة متمهلة في دلالاتها وأبعادها الكبيرة. وثاني الرسائل التي عكسها نشر التقرير على نطاق واسع محليا، وفي الصحف القطرية، كما نشر تقرير العام الماضي أيضا، هي أن على الحكومة القطرية أن تضع حدا للانتهاكات المشار اليها في التقرير، وتعمل لسد"مداخل"الانتهاكات والحؤول دون تكرارها، وبذلك ستكتسب معادلة اقتران الأقوال بالأفعال معانيها الأصيلة، ونتائجها الملموسة، بل سيعني ذلك أن قطر تنوي ممارسة ديموقراطية نابعة من إرادة وطنية وليس"ديموقراطية فائض العولمة"بحسب التعبير الذي أطلقه الكاتب الكويتي الدكتور محمد الرميحي على ديموقراطية العرب التي راى أنها تمثل"ديموقراطية التعبير لا ديموقراطية التغيير"، وهنا يكمن المحك. وثالث الرسائل تعني ضرورة إعادة أي حق مسلوب لصاحبه، وإعادة الاعتبار الى من انتهكت حقوقه، وفي هذا الإطار يمكن القول أن المؤشرات ترمز الى أن قطر مقبلة على مرحلة تعزيز دور القضاء المستقل وفقا للدستور الدائم في محاسبة ومساءلة من ينتهك الحقوق أيا كان شكلها ونوعها. والرسالة الأهم في هذا الإطار هي أن الدوحة تصيغ المجتمع الجديد بارداة داخلية، كما فعلت قبل أحداث أيلول سبتمبر عندما وضعت خطوط الإصلاح السياسي والإقتصادي والإجتماعي، فخاضت البلاد أول انتخابات بلدية عام 1999 بمشاركة المرأة القطرية التي ستخوض أول انتخابات برلمانية مطلع عام 2007 وفقا للتأكيدات الرسمية. ومن الدوحة تلقت لجان حقوق الإنسان في بعض الدول العربية رسالة سلام ساخنة، فهل تجرؤ لجان حكومية عربية لحقوق الإنسان على خوض غمار تجربة اللجنة القطرية لحقوق الإنسان فتندد بالانتهاكات وتقترح معالجات وحلولا حتى تنهض الحكومة بمعالجتها، لبناء مجتمع جديد يسوده العدل والحرية؟