أنت في عيادة الطبيب تنتظر دورك. على الطاولة مجلات من كل الأنواع ولكن الطابع الطبي يغلب عليها. تتصفح احداها فتكتشف انها تتضمن لائحة بأسماء عدد من الأدوية التي تصدرها إحدى الشركات، طبعاً، الشركة التي أصدرت المجلة او النشرة. وهي تتضمن مقالات علمية تتحدث عن المرض وتطرح امامك الدواء الشافي من دون أدنى شك. وعلى جدران العيادة صور من كل الأنواع مذيلة بتوقيع شركات الأدوية وحيث ترسم الوجوه ابتسامة الشفاء. وأحياناً قد تتصل بطبيب العائلة وتجيب السكرتيرة بأنه مسافر لحضور مؤتمر. كل ذلك قد يصادفه المريض في معظم العيادات ولا يعيره اهتماماً ولا يعلم انه جزء من عالم كبير، هو سوق الدواء! فالدعاية هي عموماً سلاح المنافسة، والمستهلك هو من يقرر إذا كان الإعلان كاذباً أم لا، ولكن على المستوى الطبي الموضوع يختلف وقد ندفع الثمن غالياً! أين تبدأ الأمور صلب القضية مرتبط مباشرة بحال سوق الأدوية حيث الدواء سلعة كغيرها يجب تسويقه وضمان انتشار كثيف له. وبما أن هذا المنتوج لا يمكن أن يصل الى المستهلك مباشرة ويجب أن يمر عبر طبيب متخصص لوصفه، فإن المفتاح الأساس لعملية التسويق هو الطبيب نفسه. ومن هذا المنطلق تجند الشركات عدداً كبيراً من الاختصاصيين الذي يتولون تسويق الدواء وإقناع الأطباء بفاعليته مقارنة بدواء آخر موجود في السوق. وتشمل خطط التسويق توزيع الهدايا على الأطباء التي تبدأ من الأقلام والتجهيزات المكتبية الخفيفة وصولاً الى الحسومات على الأدوية والهدايا الثقيلة، والدعوة الى حضور مؤتمرات في الخارج مدفوعة التكاليف. وقد بلغت الأمور ببعض الأطباء ، الى اشتراط اصطحاب زوجاتهم الى هذه المؤتمرات بحسب أحد مديري التسويق في إحدى الشركات الكبرى. ويشير بعض الإحصاءات الى أن مخصصات الدعاية في شركات الأدوية تتخطى خمسة بلايين دولار. تختلف الآراء حول تأثير هذه الهدايا على الأطباء. فمنها ما يعتبر أن الطبيب يحتاج الى معرفة كل جديد في السوق وهذا جزء من عملية تطوره وبقائه في أجواء كل جديد. وفي المقابل هناك من يرى أن لهذه الهدايا، حتى الصغيرة منها، تأثير نفسي ما على الطبيب، الذي هو في النهاية إنسان ويحمل في داخله على الأقل مواصفات المستهلك الذي يتأثر بالأسماء التي يراها دائماً على الرفوف وفي الإعلانات، من حيث يدري أو لا يدري. هذا إذا لم يكن تأثير الهدايا والتسهيلات التي تمنح للطبيب مباشراً وعن سابق معرفة. ويقول بعض الأطباء انه يجب التمييز بين المؤتمرات الطبية العلمية التي تناقش فيها آخر المكتشفات والخبرات في المجال الطبي وتلك التي تقتصر على الدعاية. وفي خلال هذه المؤتمرات قد تتم مناقشة الدواء الجديد من كل النواحي، وقد يقتنع الطبيب بالعرض وقد لا يقتنع، بغض النظر عن الإطار الذي حمله الى المؤتمر، سواء بواسطة دعوة وجهتها الشركة إليه مباشرة أو عبر المشاركة على نفقته. كما أنه يجب التمييز بين طبيب وآخر ولا يجوز تعميم بعض الحالات الاستثنائية على الجميع. ولكن القصة تختلف عندما تطرح الشركات أدوية متشابهة في التركيبة الكيماوية ولكن بأسماء تجارية مختلفة. فعلى هذا المستوى تستعر المنافسة في محاولة لإقناع الطبيب بوصف إي منهما لأن الدواءين متشابهان. وعلى هذا المستوى قد يختلف سعر الدواءين وعلى الطبيب الحسم في اتجاه ما. وهنا تلعب الدعاية والعلاقات الشخصية بين الشركات والأطباء دورها لترشيح دواء على حساب آخر على رغم نفي معظم الأطباء أي تأثير عليهم على هذا المستوى. لكن إذا كان الدواء الذي يصفه الطبيب بوحي من المصلحة الشخصية التي حصلها من الشركة المصنعة مفيداً، فلا مشكلة كبيرة سوى بعض المثل الأخلاقية التي تفرض أن يصف هذا الدواء بغض النظر عن أي هدية أو تحفيز تجاري. لكن إذا كان الدواء غير مفيد أو مضر أحياناً وهناك دواء آخر أفضل منه أقل انتشاراً أو أقل ثمنا ، فهنا تكمن المشكلة. فالموضوع أثير كثيراً في السابق بعدما انتشرت الوسائل الدعائية على مستوى القطاع الطبي. واحتل حيزاً كبيراً في نقاشات الإعلام العربي في السنوات الأخيرة مع تفاقم ظاهرة الهدايا والتسهيلات للأطباء في الأسواق الخليجية والمصرية واللبنانية. وأبدى الشرع الإسلامي رأياً واضحاً في الموضوع إذ وصف المؤتمرات والوسائل الدعائية التي تلجأ إليها الشركات رشوة مباشرة للأطباء. ومن ناحية الطبيب يصبح عمله مخالفاً للشرع إذا تأثر بهذه الهدايا في شكل دفعه إلى تفضيل دواء على آخر تحت وطأة الهدايا والتقديمات الدعائية. الحلول حاولت الشركات الكبرى المصنعة للأدوية إيجاد حلول بعد الفوضى التي سادت سياسات الترويج والانتقادات التي تعرضت لها. فقد لجأ المصنعون الكبار الى صوغ مواثيق لتنظيم عملية التسويق. ويشير جوزف برباري المدير في إحدى الشركات العالمية، الى أن كل الشركات الكبرى في العالم تتقيد بالميثاق الجديد الذي ينظم عملية الترويج وتحترمه. فالهدايا يجب أن تكون طبية والدعوات الى المؤتمرات مقتصرة على الطبيب من دون زوجته أو أي من أفراد عائلته، كما أصبح على الشركة أن تضع تقارير حول النفقات الدعائية تتضمن المواضيع التي بُحثت مع الطبيب في خلال الدعوة على أن ترفع الى مدقق الحسابات. ويضيف برباري:"هناك شركات صغيرة لا تحترم الميثاق في العالم العربي وهي تفيد من غياب الرقابة من جانب الدولة. مشيراً الى"أن بعض الأطباء ما زالوا يمتعضون من الإجراءات التي تتخذها الشركات الكبرى ويحاولون الضغط للحصول على بعض المكاسب لكن عدداً كبيراً منهم اعتاد الأساليب الجديدة الأقل كرماً من السابق". وفي ما يتعلق بالدعوات إلى المؤتمرات، قال برباري إن الشركات تدعو عدداً محدداً من الأطباء الى حضور بعض المؤتمرات، لكن هذا يصب في إطار تطوير معرفة الطبيب وإطلاعه على كل جديد بالتوازي مع السياسة الترويجية."وإذا توقفنا عن القيام بذلك فان مستوى الطبابة سيتراجع لأن الطبيب لا يستطيع حضور كل المؤتمرات وهو يحتاج الى من يشرح له التطورات الأخيرة في عالم الأدوية والطب. وعندما ندعو الطبيب لا نقدم له سوى تذكرة السفر والتسجيل الى المؤتمر. حتى الإقامة لا نقدمها له، فالرسالة علمية بحت". ويلفت برباري في عرضه الى أن فريق الترويج يتشكل عموماً من صيادلة. والطبيب لا يتعلم الصيدلة وبالتالي فهو يحتاج الى الاستماع إليهم والى الفارق بين دواء وآخر، من الزاوية العلمية. فكيف يعلم الطبيب أن هناك تضارباً بين دواء وآخر وأن هذا الدواء يجب ألا يوصف في هذه الحالة أو تلك؟ ومهمة الشركة أن تشرح له ذلك. من هنا لا يجب النظر الى الموضوع من زاوية دعائية فقط بل من زاوية علمية قبل كل شيء". في الولاياتالمتحدة يطرح هذا الموضوع بقوة على رغم صدور مواثيق الشرف التنظيمية، وقد وصل الى المشترعين على مستوى الولايات والكونغرس. ويدور الآن نقاش في تسع ولايات على الأقل لإصدار قانون يفرض على الشركات المصنعة للأدوية التصريح بما تمنحه الى الأطباء والمستشفيات والصيدليات كل عام في إطار حملاتها الدعائية. ويأتي ذلك بعد صدور قانون منذ العام 2002 في ولاية فيرمونت يجبر الشركات المصنعة للأدوية على التصريح بكل هدية تتخطى 25 دولاراً. وتبعتها في إصدار تشريع مماثل ولايات مينيسوتا وفرجينيا الغربية وماين. ويتوقع الخبراء أن يبلغ عدد الولايات التي تعتمد هذا التشريع نحو 25 في خلال عامين. لكن على رغم كل هذه الإجراءات، فإن هوامش التحرك لا تزال كبيرة أمام الشركات، ويبقى الشرف المهني هو الضابط الوحيد لكل هذه العملية سواء على مستوى الشركات، أو الأطباء أصحاب الكلمة الأخيرة في هذا النقاش.