لا تمكن المجازفة باستخلاص مقولة محددة من مسرحية"الأيام المخمورة"للراحل سعدالله ونوس التي أخرجها العراقي باسم قهار، وشاء أن يبدأ العرض الأول مع احتفالية يوم المسرح العالمي التي تعيد إلى الأذهان، في كل مرة صرخة ونوس المدوية، الجارحة:"إننا محكومون بالأمل...". هذه الحكمة جاءت بينما كان ونوس يصارع المرض ويتحدى الموت الوشيك بالكتابة. بعد رحلة بدأت مطلع الأربعينات من البلدة الساحلية"حصين البحر"في طرطوس، ولن تنتهي برحيله العام 1997. سعى ونوس عبر تجربته المسرحية إلى تأسيس مسرح عربي جديد وطرح مفاهيم ومقولات أثارت، وما زالت تثير الكثير من الجدل والنقاش. وعلى رغم كل ما قدمه صاحب"حفلة سمر من أجل 5 حزيران"للمسرح العربي إلا أن روحه كانت تائقة دوماً الى الحوار، والى عالم أكثر جمالاً وبهاء. وهو إذ أدرك أن الأحلام الكبيرة المتمثلة في الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية أجهضت، على رغم مشروعيتها، أراد، في أحد إهداءاته، أن يقدم ما يشبه اعتذاراً لابنته ديمة ولأبناء جيلها، إذ يقول بلسان الخيبة، والألم:"كثيراً ما حلمنا أننا سنترك لكم زمناً جميلاً، ووطناً مزدهراً. ولكن علينا أن نعترف ومن دون حياء، أننا هُزمنا وأننا لم نترك، إلا زمناً خراباً وبلاداً متداعية". هذا الزمن الخراب هو ما نجد صدى له في نصه المسرحي الأخير"الأيام المخمورة"الذي يستعيد حكاية عائلة موزعة بين بيروت ودمشق، وذلك على لسان الحفيد عامر يوسف العلي الذي يثير حضور الجدة المقعدة، في نفسه شكوكاً تدفعه الى أن ينقب في أرشيف العائلة الحافل بالخيبات والخيانات والفجائع والآثام... ولن يكون في مقدور الصور الجميلة المملوءة بالابتسامات والمعلقة هنا وهناك، والتي ينجح المخرج في إظهارها على الخشبة، أن تمحو تاريخاً عائلياً شابه الكثير من العيوب، والأخلاقيات السياسية والاجتماعية الرديئة التي تربك الحفيد، وتبعث في نفسه الحيرة، فيسرد شيئاً ويمتنع عن سرد أشياء. هذه القناعة تشرع أمام الحفيد أبواب الفضائح، فيمضي في الكشف، والمكاشفة التي تقوده إلى معرفة حقائق العائلة التي تعج بالتناقضات والأوهام والفجوات، وهو يحاول ردمها عبر تقنية التناظر أو التعاكس التي يقترحها ونوس في هذا العمل، ليقدم عبرها مستويات متعددة للسرد تهدف إلى الإحاطة بعالم متشابك لن تجدي معه نفعاً التقنية التقليدية في السرد المتصاعد زمنياً في شكل منطقي ومتسلسل إلى النهاية. هنا تتداخل الأزمنة بحيث يتم تقويض بنية التتابع والتسلسل المعروفة، فتتشابك خيوط الحكاية التي يجهد الحفيد في انتقاء المحطات المفصلية منها. ولعل الحدث الأهم الذي يحدد مسار الأحداث هو هرب الأم سناء حنان شقير مع عشيقها نجاح سفكوني تاركة أولادها الأربعة وزوجها في مستنقع الحيرة، مع ما يترتب على هذا الفعل من إهانة تهز أركان العائلة المستقرة، وتلقي بأفرادها في متاهات معقدة، ومسارات مختلفة. الأب محمد خير الجراح المطعون في شرفه، يصاب بالدهشة، ويستبدل زيه المتمدن بزيه التقليدي، عائداً إلى تجارته من دون أن يملك القدرة على انتزاع طعم المرارة من نفسه الجريحة. الأخوان سرحان كفاح الخوص، وعدنان محمد مصطفى يمضيان نحو مصيرين مختلفين، فالأول، الطالب في الجامعة الأميركية، سرعان ما يغوص في حياة ماجنة ومخمورة، ويمارس تجارة مشبوهة بعد إقناع شقيقته سلمى رباب مرهج بالعمل معه في هذا الاتجاه، فتنتهي في تبديل قناعاتها. وبعدما كانت تسعى إلى"فَرْنسة لبنان"أصبحت تسعى، الآن، الى أن"تلبنن العالم"، فيما الأخ الثاني عدنان، الشريف والنزيه، ينتهي إلى الانتحار بعدما تيقن من عجزه عن غسل العار الذي أصاب قيمه في الصميم. التراجيديا تبلغ ذروتها مع الأبنة ليلى صبا مبارك التي تصاب بالبكم إثر الحدث، وتعشق بصمت دركياً وطنياً مروان أبو شاهين استشهد، في ما بعد، على يد الفرنسيين، مع أفراد حامية البرلمان السوري في 29 أيار مايو 1945م ليترك ابناً هو نفسه الحفيد الذي يروي الحكاية الآن. هذا الثراء القصصي، وهذه الأزمنة المستقطعة من أيام الانتداب الفرنسي حيث كان المفوض السامي شارل دي مارتل يشرف على عطب الحياة الصاخبة لأيام مخمورة، ماجنة، هو ما يحاول باسم قهار تجسيده عبر العرض الذي يعد باكورة العروض المسرحية لفرقة"مسرح الأمس"التي تديرها زوجة الراحل ونوس، فايزة شاويش المشرفة على هذا العرض، في محاولة لاستعادة"المشهد الثقافي المضيء الذي كان بالأمس". وهي محاولة لا تخفي الحنين إلى ماض مسرحي غائب يكشف عنه الاسم بوضوح. يلجأ قهار، في هذا العرض، إلى لعبة الخفاء والتجلي، عبر استخدام الستائر الكتومة والشفافة التي تملأ عمق الخشبة لتعطي انطباعاً بالاتساع والرحابة. وهذا الحل البصري وفر للمخرج الوصول إلى العمق الذي يجيده ونوس، شكلاً ومضموناً. فمن ناحية الشكل الفني للنص، نلاحظ اختفاء البنية التقليدية التي تقسم النص إلى مشاهد وفصول متسلسلة، لتحل محلها بنية متماسكة تنطوي على مواقف ومشاهد متداخلة، ومتباينة تتوسل"أشكالاً متنوعة من السرد"، لتبيان عالم أسري مفكك لن يكون سهلاً إبرازه إلا بالشكل الذي أخرجه قهار. أما من جهة المضمون فان ثمة خصوصية فرضتها طبيعة الحكاية، في معنى أن تشابك السرد يوازيه، من ناحية الموضوع، الحرج في تسليط الضوء على أسرار عائلية لا تصل، في الحالة الواقعية، إلى المتلقي الفضولي. وفضيلة النص، هنا، هو إشباع هذا الفضول عبر"مسرحة"تلك الأسرار والخفايا التي يمكن تعريتها من خلال المسرح بصفته فناً راقياً، وهادفاً. ولعل قهار واع هذه المسألة فهو قدم الكثير من مشاهده من خلف ستارة شفافة مقتنعاً بخصوصية ما يقال، ومانحاً الحكاية، في الآن ذاته جمالية يساهم الديكور نعمان جود والإضاءة نصر الله سفر، بسام حميدي في إبراز أبعادها ودلالاتها. كما أن موسيقى حسان طه، وصوت نجاة سليمان ساهما في إضفاء إيقاع عذب على العرض استطاع أن يقربه من المتلقي، ويعري النوازع المختلفة المتصارعة في نفوس الشخصيات المستسلمة لأقدارها العمياء. فبعضها يهيم عشقاً، ويدافع عن المبادئ والشرف، وبعضها الآخر يغرق في أوحال الجشع، والخزي، وبعضها الثالث يتأرجح بين النموذجين. انها التوليفة المعقدة التي تهدف إلى قول الحقيقة من وجوهها المتعددة. ولعل إخضاع الواقع المضطرب لمنطق التسلسل هو نوع من القسر والتعسف، ومن هنا لا بد من اللجوء إلى"الخيال وإلى حفر متعدد المستويات". ولئن وفق النص في هذا المنحى، فان الإخراج بدوره سلك منحى مماثلاً عبر البحث عن حلول بصرية للتقليل من سلطة النص، وإيجاد معادل بصري وجمالي يتطلبه العرض المسرحي الذي يُشاهد، خلافاً للنص المقروء الذي ينهض، أساساً، على السرد والحوار.