كتاب جواد الأسدي «جماليات البروفة» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تقليد جديد في الكتابة عن حرفية المسرح، لأنه لايتحدث عن التقنية المسرحية من حيث هي أساليب وممكنات للعمل في ورشة البروفات وحسب، بل بما لها من قدرة على التحول الى ثقافة في التواصل الفني والإنساني بين الممثل والمخرج وبينهما وبين النص المقروء. جواد الاسدي يقص علينا حكايته مع مجموعة من النصوص التي أخرجها، وعدد من الممثلات والممثلين الذين مضى معهم في رحلة البحث عن حياة تلك النصوص خارج الكتابة وداخل الجسد واللغة والأفكار والعواطف. بين لحظات الاكتمال او النقصان يتتبع الكاتب تجاذبات وتقاطعات تلك العلاقات التي يوترّها الإبداع بمس من العنفوان. هذا الكتاب يقارب الحياة المزدوجة للفعل الدرامي، فالمؤلف يتورط في رؤى أدبية حين يقرأ تجربته، مثلما يبحث عن التقنيات الدقيقة للعبة المسرح، وعندما يضع لها اكثر من مرآة للقراءة، يجد نفسه في تشابك مع مشكلة استعادة الزمن الحقيقي والوهمي للحدث مجسدا على الخشبة. انه في انغماره المسرحي، يرقب الأجساد ونبرات الصوت وانبثاق الحركة والايماءة وكل ما يطاله من لحظة البروفة الفالتة من عمر الزمن والمكان. يبدأ الكتاب بمسرحية سعد الله ونوس «الاغتصاب» وهو نص أثار الكثير من الاعتراض عند نشره نهاية الثمانينات، لأنه يتحدث عن العلاقة بين الفلسطيني والاسرائيلي، كضحية وجلاد، وكحالة انسانية تتخطى تلك الحدود، فالجلاد الاسرائيلي يقع هو الآخر ضحية آلة العدوان التي يمثلها، فيفقد زوجته ويتعرض الى رجة عقلية. نهاية المسرحية، يدور حوار فكري بين حيزين انسانيين، بين المؤلف ومثقف اسرائيلي رافض للصهيونية، انه حوار حول المكان وفضائه، حول العيش الذي لابد منه بدل الحرب. وتلك كانت أسباب السخط التي دعت الأسدي الى قراءة العمل على نحو يختلف عن رؤى سعدالله ونوس، فحدث التصادم. كان التحدي في المسرحية، ليس فقط البعد السياسي، بل تفصيلات المشاعر التي تجعل من الشخصيات تعيش فصام الوعي وغيابه، ولم يكن دور الفلسطيني سوى المختبر التي تمر عبره تلك الاطياف من المشاعر الجياشة.يعترف المؤلف بان الخلاف ((ينبع من عقلانية سعدالله ونوس ومرجعياته الثقافية ذات الرداء المعرفي من جهة وبين نزعتي الشرقية الشرسة غير العقلانية من جهة ثانية.)). يمضي الأسدي في كتابه الى تأثيم اليهودي الذي تتركز فيه شرور العالم كما يرى، وتلك قضية تناوش العنصرية في إطلاقاتها، ولكن الذي يعرف أعمال جواد يدرك أنه لايمسرح دعاواه كي تصبح خطابا سياسيا على الخشبة. انه في واقع الأمر، يدفع القضايا المتصارعة الى أقصاها، الى حربها الضروس، كي تتفجر الى حوار داخل العملية الفنية، وهذا أفضل ميزاته كفنان، فقد خلّف شيوعيته وراءه عندما ارتحل من العراق، كما دخل مع الفلسطينيين في شراكة المسرح وفي الخطاب اليومي. ومع انه لم يتخل عن خصلته الراديكالية، غير انه يبتعد عنها عندما يقارب نرجسية الفنان وعشقه لعمله من حيث هو خطاب غير مكتمل، خطاب حواري يقوم على النقض والاثبات. ذاته المتصارعة هي هويته وهدايته نحو حدوس الفن وتلاوينه غير المستقرة. دراما جواد الاسدي التي يتابعها عبر أعماله في هذا الكتاب، تتمثل بفكرة الجسد الذي لايعصم من الشرور والخطيئة، وهي تقوم على الشعور الانساني بالإثم والتطهّر، وتلك الخصلة الدينية التي اصطحبها من مدينته كربلاء، تشعل أوار الضراوة لديه، فالطقس الديني من حيث هو وسيلة لغفران الذنوب، يصبح عند جواد الاسدي شبقاً فنيا يبرز في أفعال قصوى على المسرح. البروفة حياة أعلى من الحياة العادية، لأنها حياة متخيلة.منصة شعرية لبشر ينشدون الحرية. هذا ما يكتبه الاسدي : ((هناك في الشارع او في المقهى او بين جدران العائلة أعيش حالات ضخمة من البؤس والنسيان.حياة مهددة وخالية من المؤانسة والحب. البروفات تقترح شكل الحياة التي تشتهي، وشكل المشهد الذي تحب أن ترسمه.في داخل البروفة تستطيع أن توقظ أرواح الممثلين نحو حياة مشهدية يكتنفها السحر وحرقة القصيدة وجماليات البحث عن ملاذ.)) يكتب هذا النص وهو يتذكر مجموعة من الأعمال التي وضعته في مصاف المخرجين العرب المهمين «العائلة توت» لأوركيني الهنغاري، و«رأس المملوك جابر» لسعدالله ونوس و«خيوط من فضة» من تأليفه، و«الخادمات» لجان جنيه، والكثير من الاعمال التي حملها معه بين دمشق وبيروت وباريس والسويد وأسبانيا والامارات وعدد من البلدان العربية. بغداد مكانه الأول الذي غادره مضطرا نهاية السبعينات، ترك بصماته على الكثير من المسرحيات التي أخرجها، فقد كان منتسبا الى فرقة المسرح الفني الحديث أبرز الفرق العراقية أيام عزّها في سبعينات القرن المنصرم، وظل وفيا لأساتذة الاخراج العراقيين الذين انتهوا مع تبعثر الحياة الفنية بين نزيف الحروب والدكتاتورية. هو بين قلة من المسرحيين العراقيين الذين استطاعوا ان يجدوا في المنفى، محفزا للاستمرار، فالمسرح شديد الارتباط بالإستقرار والصحبة والبيئة، ولكن الأسدي في تنقله بين المسارح والبيئات والفرق، أصبح نموذجا للمرتحل أو الغجري الذي يضرب خيامه في كل المطارح، وهذه الحالة تصاعد قلقه الذي ينعكس في بنية نصوصه التي يكتبها، ولكنها تضاعف ديناميكية خياله. يكتب حول اللحظة التي صاغ فيها مشهدا من مشاهد «الخادمات» ((أكثر فأكثر، قرّبت السرير من أسرة أخوتي، هناك في البيت البغدادي البعيد. بعد الخادمات أحسست جديا بأنني أحد خدم التيه والعبث والبحث في المدن عن معنى، وتكرّس الاحساس لديّ بأن منصة المسرح سريري الأبدي، أو وطني الذي ارحّله معي.كان ذلك الاحساس قويا وما زال بأن المسرح هو البيت.)). تحولت القصيدة التي كان يكتبها ببغداد الى مشاهد مرئية، الى حياة وحركة تنقلها الأجساد وتجسدها فراغات الخشبة ومساقط الضوء والعتمة ومفردات المكان، فحساسيته ازاء الكلمة ساعدته على اكتشاف مسرى العاطفة المتواري خلف النص. ليست العاطفة بمعناها المكبل بالحب او الكراهية، بل بحيوية وجودها الذي يمزج المشاعر المبهمة بإيماءة الجسد، في حركة الكائنات وسكونها عندما تتحول عن مسارها الى عالم السحر المسرحي. المخرج في خيارات النصوص، يخلط أوراقه مع أوراق لوركا وتشيخوف وجان جنيه وبريخت وسعدالله ونوس وأوركيني. ان فكرة خلخلة النص، كما يقول هي التي تسمح بابتكاره مجددا، فالاخراج عندما يزيح عن الأسماء الكبيرة قدسيتها، يستطيع ان يعيد اليها الحياة في رؤية بصرية مبتكرة. وتلك تشترط جمهورا له ألفة مع تقاليد التجديد في المسرح، كما يقول. فهاملت البطل الشكسبيري، قرأ شخصيته المخرجون والمؤلفون والممثلون على امتداد المعمورة وبمختلف اللغات، ولكن هاملت لم ينته عند لغة واحدة ولا مقترحات محددة، فهو نص مفتوح على كل الاحتمالات، ومع تبدّل الذائقة واختلاف الازمنة. كذلك شخصيات تشيخوف وإبسن وسترندنبرغ، وكل كتاب النصوص الكلاسيكية منها والحديثة. تلك القضية تشغل مساحة من كتاب الاسدي، مثلما يشغلها حضور الممثل، فهو يعشق ممثليه وممثلاته، وعندما يتحدث في هذا الكتاب عن النساء اللواتي يديرهن على الخشبة، تلتبس عليه صورة الحياة وتتنافذ مع الفن، ولعل هذا الفيض من الشعر الذي يخص به ممثلاته، يقرّبنا من صورة الإنسان والمخرج معا. الكتاب لايخلو من التكرار، وهو يحفل بإنشاء يجدر أن يُختصر، أما جموح العاطفة التي تقفز بين الجمل والكلمات فهي الوجه الاخر لمسرح جواد الاسدي، الذي لايستريح بعد أن غادر الوطن، فهو يكتب وصورة أمه أمامه: ((آخ من ذالك الشارع المفتقد، المفقود الذي لم يعد في متناول اليد. الشارع المستحيل. البيت المستحيل. الجنة المستحيلة.)).