خلافاً لمعظم المسرحيين الذين جذبهم نص «في انتظار غودو» لصموئيل بيكيت (1906 1989)، فإن المسرحي السوري أسامة غنم يتوجه الى نص آخر له، غير رائج كسابقه، عنوانه «شريط كراب الأخير»، ليختزل في العرض المسرحي الذي قدم على خشبة دار الأوبرا في دمشق الى «الشريط الأخير». يقال إن هذا النص كان عبارة عن مسرحية كتبها الإيرلندي بيكيت عام 1958 للإذاعة، ولا يبتعد العرض الذي أخرجه أسامة غنم عن هذا المنحى الإذاعي، إذ يشكل الصوت عماد المسرحية، حتى كاد أن يكون البطل الوحيد في العرض، من دون أن ننسى الشخصية الوحيدة في العرض التي جسدها محمد آل رشي، إذ قدم أداء لافتاً، أظهر الكثير مما يريد العرض قوله عن الشيخوخة والعجز والخيبات وخسارات نهايات العمر، وحماقات الحياة وعبثيتها. يخرج بطل العرض من العتمة التي تلف فضاء الخشبة، ليهتدي وهو الشيخ الطاعن في السن الى مكانه الأبدي: طاولة عتيقة بإضاءة خافتة تتوسط الخشبة، على أحد أطرافها آلة تسجيل قديمة، وعلى الطرف الآخر مجموعة علب كرتون نكتشف لاحقاً انها تشكل ارشيف هذا الرجل. فهي تحوي شرائط سجلت بصوته في تواريخ سابقة مختلفة، في محاولة لتوثيق سيرة حياته عبر التسجيل لا عبر التدوين في دفاتر مذكرات مثلاً، وكأنه كان يتكئ على ما ذكرته، في ما بعد، الشاعرة الإيرانية الراحلة فروغ فرخزاد في قصيدة لها تقول: «وحده الصوت يبقى». حين يصل الرجل الى العقد السابع من عمره كما يظهر في العرض، الذي صمم ملصقه يوسف عبدلكي، تتراكم لديه علب الشرائط التي تراكمت معها سنوات العمر ليجد نفسه معزولاً، وحيداً، خائر القوى يمضي الوقت في استعادة التسجيلات، بحثاً عن ذكريات قد تستطيع بث بعض الفرح في روحه الشائخة، العاجزة عن الإتيان بأي شيء جديد سوى اجترار الماضي، والنظر بعينين زائغتين؛ مضطربتين الى سيرة حياته الطويلة التي سلكت دروباً وعرة، وانتهت بكل صخبها واتساعها في غرفة باردة تستجدي بعض الدفء من تلك التسجيلات، فلا تفلح. الشريط الرقم خمسة في العلبة الرقم 3 هو الذي يشكل محور العرض. يعود تاريخه الى ثلاثين سنة مضت، وهو يفصح، كما نسمع، عن قصة حب عاشها البطل كراب في شبابه. الشريط الذي يعلن صوتاً فتياً آتياً من البعيد يروي تفاصيل لحظات عاشها كراب مع حبيبته حين قاما بنزهة في قارب وسط البحيرة، وكيف استلقيا على عشب الضفاف، وسطرا معاً ذكرى خالدة في الشريط حتى وإن بهتت في حنايا الفؤاد. هذه الذكرى توقظ في روحه مشاعر منطفئة الآن. فغليان العاطفة، آنذاك، يقابله الإحباط والانكسار وتأنيب الضمير على حكاية حب لم تنته نهاية مرجوة. وها هو، إمعاناً في جلد الذات، يصغي الى الشريط مرات عدة، ينتابه ملل عارم، وفرح مكبوت، وتبدو على وجهه ملامح متضاربة تتأرجح بين الأسى والحبور. وإذ يحاول أن يسجل شريطاً جديداً في يومه الجديد هذا، كما هو دأبه، فإنه يعجز عن القيام بهذا الطقس اليومي الذي يوثق نوافل حياته وضروراتها. تسيطر عليه ذكرى الشريط الخامس وكأنه الشريط الأخير في حياة مديدة لا شيء يشهد عليها سوى صوت مرتبك محفوظ في علب باردة سرعان ما يرميها أرضاً في لحظة غضب مفاجئة، وكأنه يعبر بذلك عن عبثية الحياة ولا جدواها وفقاً لعبارة محكمة لإليوت تقول: «ليس لك شباب ولا شيخوخة، بل كما لو كنت في قيلولة وحلمت بكليهما». المشاهدون - المستمعون الجمل والعبارات التي يصغي إليها البطل، ويصغي المشاهدون (المستمعون) معه إليها، تحيلنا الى أجواء أعمال بيكيت «العبثية» التي تنطوي على جمل ومقاطع وحوارات تبدو وكأنها ثرثرة لا يضبطها شيء. لكن التمعن فيها يكشف أسئلة وجودية مقلقة، ورؤى فلسفية عميقة تستثمر الأساطير والرموز وعلم النفس لتبني نصوصاً شكلت مدرسة أدبية خاصة في عالم السرد المسرحي، وأوصلت صاحبها الى نيل أرفع جائزة أدبية ألا وهي جائزة نوبل. وكان هارولد بنتر المسرحي البريطاني، الذي نال بدوره جائزة نوبل، قد جسد هذا العرض قبل سنوات في لندن تقديراً لذكرى معلمه الراحل بيكيت. ولئن تخفف النص هنا من هذا البعد الفلسفي الغامض، فانه يكشف عن ذلك المزاج السوداوي الذي طغى على مسرحيات بيكيت ورواياته. ولعل السوداوية هنا نابعة من الإصغاء بألم وهدوء وحسرة الى سنوات الحياة الضائعة. وكان الممثل آل رشي بحركات جسده المنهك، وتعابير وجهه المتعب، المتغضن، وردود أفعاله الموحية إزاء ما يسمع، وتلوينات نبرة الصوت... استطاع أن يضيق المسافة بين الجمهور والخشبة، وأن يخلق وعلى مدى ساعة (مدة العرض) ألفة مع عرض بطيء الإيقاع؛ متقشف أقصى التقشف من مفردات أو عناصر العرض التقليدية. وبدا المخرج، في تجربته الإخراجية الأولى، متجاهلاً حقيقة أن المسرح فن بصري أولاً وأخيراً. ويمكن تأويل العبارة، هنا، على نحو يخفف من بعدها السلبي عبر القول إن المخرج بدا أميناً لعالم بيكيت المسرحي الذي يخرق قواعد المسرح الكلاسيكية، كما هي الحال مع «الشريط الأخير» الذي يفتقر الى المشهدية البصرية، ويفتقر كذلك الى تحولات في الأحداث والوقائع. فالزمان والمكان يتوقفان في لحظة معينة يصغي خلالها الرجل العجوز الى نتف من ذكرياته، من دون أن يطرأ أي عنصر مفاجئ أو مهم على هذا الديكور الثابت طوال العرض وهو خالٍ من أي موسيقى، أو إضاءة ذات جماليات مسرحية. فما عدا المصباح الوحيد الخافت الذي ينير الطاولة، فإن فضاء الخشبة الواسع يغرق في ظلام مخيف يعكس ما يعانيه البطل من مكابدة تذكرنا بالمأثور العربي «ألا ليت الشباب يعود يوماً، فأخبره بما صنع المشيب». لكنّ كل ذلك لا يلغي متانة النص الذي قدم باللغة الفصحى، ولا ينفي كذلك تلك المغامرة المسرحية التجريبية التي أقدم عليها المخرج عبر اقتحام نص لبيكيت ليس سهلاً العثور على مفاتيحه، والدخول الى عوالمه المغلقة، والمراهنة عليه أمام جمهور لم يعتد كثيراً مثل هذه التجارب المثيرة للحوار والنقاش، وقد تكمن فضيلة العرض هنا!