يعود تاريخ كتابة مسرحية "جثة على الرصيف" إلى البدايات الأولى للمسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس 1941 - 1997، وقد قدمته فرق مسرحية عربية عدة منذ الستينات والى الآن. غير أن ما ميز العرض الأخير الذي قدمته، أخيراً، فرقة "كون" السورية الفتية، هو أن الفرقة لجأت إلى ما يسمى بپ"المسرح الموقعي" بعدما شاركت في ورشات عمل أقامها المجلس الثقافي البريطاني في دمشق ضمن مشروع، يتبناه المجلس، يهدف إلى"التواصل مع الشباب من خلال الفنون، واستخدام المسرحي الموقعي كوسيلة فاعلة للتعبير عن الشباب: ذواتهم وإبداعهم"كما جاء في كراس العرض. قدمت الفرقة عرضها الذي أخرجه أسامة حلال، بعيداً من الخشبة والكواليس، واختارت نفق فارس الخوري، للمشاة، الواقع تحت أحد شوارع دمشق الرئيسة كي تكون مسرحاً بديلاً للمسرح التقليدي، في محاولة للاقتراب من روح النص، لتكون هذه هي التجربة المسرحية الأولى التي يرى فيها الجمهور السوري مسرحاً يندرج تحت إطار"المسرح الموقعي"، وكان عليه أن يستلم"بطانية"اتقاء للبرد، وان ينتقل من مكان إلى آخر ضمن النفق، ليتابع المشاهد المسرحية الأربعة وسط طقس مسرحي لم يعرفه جمهور المسرح الذي اعتاد أن يجلس في مقعده الوثير، ويراقب، بكسل، ما يحدث على الخشبة، وكان عليه، كذلك، أن يصغي إلى تعليمات شخصية رئيسة يتطلبها هذا النوع المسرحي وهي"الجوكر"حسام الشاه الذي يوجه الحضور القليل، ويراقب أدق التفاصيل حرصاً على أن يكون هذا الأداء المسرحي، غير المألوف، مقبولاً، وناجحاً. هذا النص"المبكر"في تجربة ونوس المسرحية، ينطوي على إشارات لما سيكون عليه مسرحه في نصوصه اللاحقة بدءاً من"حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، و"مغامرة رأس المملوك جابر"مروراً بپ"الاغتصاب"، وانتهاء بپ"طقوس الإشارات والتحولات"، وپ"الأيام المخمورة"، فمع اختلاف المضامين والحكايات والأساليب الكتابية، فإن ثمة خيطاً رفيعاً يربط بين كل ما كتبه ونوس، يتمثل في نزعة إنسانية تنحاز، بلا تحفظ، للبسطاء والمهمشين، وتقف، بالمقدار نفسه، في وجه رموز الظلم، والقمع، والاستبداد، ولم يكن يحمل أي وهم بقدرة المسرح على تغيير العالم، لكن الأمل كان حافزه نحو الانتصار"للقضايا الخاسرة"، ولكنها العادلة أيضاً! هذه الهواجس تظهر، في شكل أو آخر، في مسرحية"جثة على الرصيف"، فمفردة الرصيف تحيل، مباشرة، إلى الحرمان، والعطب، والانكسار، وهذه الإحالة ليست افتراضية بل هي حقيقة تتجسد في المسرحية التي تتحدث عن محنة موت مفاجئ حدث في التوقيت الخطأ، وفي المكان الخطأ! جثة متسول ملقاة على قارعة الطريق يحرسها الصديق المتسول كذلك أسامة تيناوي المغلوب على أمره، إذ يحاور في مناجاة عميقة الميت، ويسبر أغوار الروح بحثاً عن شيء غامض بعيد يبدد الوحشة، ويلين، قليلاً، قسوة الحياة، فهو يسمع، بلا انقطاع، صوتاً قاتلاً ينبعث من عتمة الليل والبرد، يقوض جميع أحلامه، باستثناء حلم وحيد: غرفة صغيرة دافئة تشتعل فيها مدفأة ملتهبة تحتضن خيباته الكثيرة. يظهر الشرطي وسيم الرحبي ليطلب منهما مغادرة المكان لكنه يكتشف أن أحدهما جثة هامدة، ولا قوة في العالم بمقدورها أيقاظ الموتى! فيبحثان، معاً، عن طريقة لدفنه كي لا يتعرض الشرطي لعقاب من سيد هذا المكان، بما فيه الرصيف، المكلف بحراسته. في مشهد آخر نسمع شكوى هذا الشرطي أمام زوجته ريم خطاب الصامتة وسط حزن مكتوم يبرز معاناة هذا الشرطي - الضحية. في المشهد الأخير يحضر السيد الوليد العبود الذي يقوم بنزهة مع كلبه، والذي يجسد صورة المستبد التي تظهر في الفنون بأشكال مختلفة. كان السيد قد سمع الحوار الذي دار بين خادمه المطيع الشرطي، وبين المتسول، فيحول تراجيديا الموت إلى نوع من الملهاة، أو الكوميديا السوداء إذ يعرض على الصديق شراء الجثة، وهو ما يشير إلى تلك الميول المَرَضية التي تسم سلوك المستبدين في كل زمان ومكان، فيعاين، بعد اعتراض خائب من الصديق، بضاعته"الجثة"، ويتأكد، عبر شقها وتشريحها، من صلاحيتها: أي أن تكون غير متفسخة!، وبعد أن يغرز الجسد البارد بالسكاكين، في مشهد مؤلم ومؤثر، ينسحب بهدوء وكأن به مس من الجنون. ينجح العرض، الخالي من أي ديكور اصطناعي، والذي يستعين بموسيقى جنائزية حزينة، في رسم أجواء كابوسية تناسب فحوى الحكاية، وثمة اسقاطات آنية معاصرة لم ترد في النص الأصلي. ربما اثقل هذا الإقحام حكاية المسرحية البسيطة والعميقة في آن، غير أن القائمين على عرض"جثة على الرصيف"، لم يكن في مقدورهم، على ما يبدو، أن يتجاهلوا تلك الجثث المرمية، بلا حساب، على أرصفة المدن العراقية، فكان لا بد من استثمار العرض لإثارة سؤال راح يتلاشى وسط صخب الأحداث التي تعصف بالعراق: لماذا؟ والى متى سيدوم هذا الموت المجاني؟ والمسرحية، بدورها، على بساطتها وقصرها نحو 40 دقيقة لا تبتعد كثيراً عن هذا المنحى، فهي أشبه بمرثية عتاب مضمرة لتلك الأوطان التي تلفظ أبناءها، وترميهم جثثاً على أرصفة هجرها الدفء، والألفة، فعلى وقع أصوات وزمامير السيارات، وعلى مرأى من الناس الذين كانوا يعبرون النفق باستغراب، وحيرة، جرى هذا العرض وكأنه قادم من أرض لا نعرفها، محرضاً على أسئلة مقلقة ومريرة، لعل أهمها: هل تحدث هذه المآسي في أوطاننا؟ وكيف للموت أن يغدو أليفاً إلى هذه الدرجة من الابتذال والوفرة، حتى أصبح الموت على سرير دافئ يغمره دعاء الأهل، وحنانهم، حلماً بعيد المنال!!