"نساء سعد الله ونوس" عرض جريء قدم على مسرح "بيريت" في بيروت، كسر "التابو"، وأظهر حقائق مخفية تحت غطاء "أسرار" البيوت، ضمن بنية بصرية وأخرى حوارية أوجدتهما المخرجة نادين جمعة مستندة الى توليفة أعدتها من ثلاثة نصوص لونوس، وتحديداً "الأيام المخمورة" و"يوم من زماننا" و"أحلام شقية". ولعل العنوان يشي بماهية المسرحية، فليس هناك مفاجأة تنتظر. سِتارٌ إروتيكي فج غلف لغة الصورة في العرض، ولعبت عليه المخرجة في رؤيتها الدرامية كثيراً. وهذا ما كون رابطاً بين النصوص الثلاثة، لنقل مناخات أو تفاصيل تدور في غرف النوم إلى ذهن المتلقي. مصممة الكوريغرافيا سارة أبو شعبان تبنت فكرة العرض، وحللته منطقياً لتجسد مع الراقص مصطفى حرب تناقضات الرجل العربي الذي يعشق جسد امرأته ويضربها في الوقت نفسه. وإن كان ونوس ركن إلى ممثلين ينطقون بحقائق صادرتها ذهنية السلطة الرمزية فإن شكلاً من أشكال هذه السلطة تجسد في العرض: مجتمع يتكون من أب وأم وأخ وزوج يصادر حقوق المرأة. قصة سناء وشيطانتها في "الأيام المخمورة" - آخر أعمال ونوس، قبيل رحيله، هي افتتاحية المسرحية. فتلك المرأة العربية التي عانت كثيراً من زوجها المتشدد، والذي طالما اعتقد أن زوجته تمثل رمز الشبق الذي لا يكون إلا بطلب منه. تظل سناء في صراع نفسي بين قرار الهروب مع رجل يحبها بجنون والبقاء مع زوج متعجرف لا يؤمن أن للمرأة حقاً في إبداء رغبتها في ممارسة الحب شرعاً مع زوجها. يتجلى الصراع أكثر على صعيد الإيماءات الجسدية ويبرز طريقة عمل المخرجة، التي اعتمدت الملابس كعنصر مهم في السياقات المشهدية، فارتدت الممثلات أزياء بيضاً وشفافة، في حين كان الممثل عاري الصدر ويرتدي سروالاً أسود. ولعلها مضت إلى خطاب نسوي متعصب بجمعها شخصيات الرجال الثلاثة في ممثل واحد - عبدالرحيم العوجي، في إشارة إلى أن الرجال هم رجل واحد. وظفت جمعة سبعاً من شخصيات ونوس بحسٍ إخراجي عال، قام بأدائها إلى جانب العوجي: هبة مجاهدي وآنجو ريحان، في دوري سناء وشيطانتها في مسرحية "الأيام المخمورة". جيزيل وميريلا خوري في دور المرأة التي اكتشف زوجها فقدانها عذريتها - "يوم من زماننا"، بينما أدت دارين شمس الدين دور ماري، المرأة القروية التي نقل إليها زوجها مرض السيلان في مسرحية "أحلام شقية". للمرة الأولى يغيب "تسييس" ونوس عن نصوصه، لكن لعبته الشهيرة "التمثيل داخل التمثيل" التي ابتدعها المسرحي الرائد بيراندللو، ظهرت في مفاصل العرض. ولعل قراءة المخرجة لنصوص ونوس الثلاثة دفعتها من دون أن تشعر إلى اللعب المسرحي داخل المسرحية نفسها. فأسلوب ونوس في كتابة المسرحية اعتمد الفرجة العربية، خصوصاً شخصية الراوي، كعنصر رئيس. ووصلت تجربته تلك إلى قمتها في مسرحية "الأيام المخمورة". ذلك أنه انتقل بالراوي الذي كان يسرد تفاصيل الحكاية التاريخية ووقائعها في شكل قصصي، إلى مرحلة جديدة في سياق الكتابة، اعتمدت وسائل الفرجة: التشخيص، السرد، الغناء، الرقص وأخيراً التمثيل داخل التمثيل. اختفى "أراجوز" ونوس عن العرض، لكنه تشكل في الراوي بطريقة غير مباشرة. فنادين بدلت بديهياً شخصية الراوي بشخصيات ونوس ذاتها، وتوالت كل شخصية في سرد حكايتها بصرياً ولفظياً. لكن نادين لم تشر إلى ذلك في العرض على صعيد النص، واكتفت بمحاولة خلق طقس مترابط، كلمة الوصل فيه مجازياً غرفة النوم ومعاناة الزوجة أمام الزوج المتشدد جنسياً، ما ألغى اللعبة الإخراجية التقليدية. لا تعد الفكرة الإخراجية جديدة لكنها تظل محاولة مميزة لمخرجة شابة في أولى تجاربها. وهي أضفت قراءتها الخاصة على النص، وأعطت رؤيتها الفنية على الصعيد البصري. وطعمت المشاهد بإيماءات جسدية، مشكلة من أجساد الممثلات لوحات تعبيرية تقترب كثيراً من المسرح المعاصر، ما يدفع المتلقي إلى الشعور بوجود لمسة فنية على صعيد الإخراج. لكن رؤيتها على صعيد البنية النصية بقيت بعيدة من معادلة المسرح العصري. وكان حرياً بها وزميلاتها من الجيل الجديد تجاوز سطوة نصوص ونوس، التي تظل قابلة للصياغة بمفردات وإسقاطات معاصرة على رغم معالجتها فترة أصبحت من الماضي. فنصوص ونوس تحوي بساطة خادعة لكتابات عميقة، وهي من عيون المسرح العربي الحديث. وهي تحتاج لدى كل جيل إلى معالجة جديدة، إذ كتب هو نفسه في مقدمة مسرحيته "الاغتصاب": "أن إلهام المسرح الحقيقي لم يكن في يوم من الأيام الحكاية بحد ذاتها، وإنما المعالجة الجديدة التي تتيح للمتفرج تأمل شرطه التاريخي والوجودي".