على رغم مرور ثلاث سنوات عجاف على العراق كانت أميركا سبباً مباشراً لها، إلا ان تلك السنوات الثلاث نفسها لم تكن كذلك على جارته ايران، وان لم تكن سنوات سماناً بالضبط، إلا أنها سنوات ترنحت فيها الفضاءات بين خوف ورجاء، وكانت ايضاً اميركا سبباً مباشراً فيها. حصدت ايران كما هو معلوم من الحرب على افغانستان جائزة اطاحة بطالبان، فيما كانت جائزتها الكبرى في الحرب على العراق اطاحة خصمها اللدود والصادّ لثورتها من التمدد غرباً أو جنوباً اي نظام صدام حسين. الإفصاح العلني هذه الايام بقبول ايران دعوة عبدالعزيز الحكيم للتفاوض المباشر مع"الشيطان الأكبر"من أجل مصلحة العراق، يشكل منعطفاً جديداً في المشهد النووي الايراني - الاميركي المؤجل عن الحسم منذ نحو سنتين. ليس وحده عبدالعزيز الحكيم من يطلب بإلحاح منذ مدة من الايرانيين الدخول في مفاوضات مباشرة مع الاميركيين للتوصل الى مخرج يحفظ ماء الوجه للدول المتحالفة التي غزت العراق واحتلته، وكذلك لحفظ ماء الوجه للعراقيين الذين تعاونوا مع واشنطن في هذا المشروع، فقبله فعلها طالباني وعدد آخر من زعماء الطيف السياسي العراقي الذي ساهم في معادلة خلع الرئيس العراقي السابق ونظامه. ما يعلن عنه اليوم هو بمثابة المشهد الأخير من مرحلة سابقة والمشهد الأول من مرحلة مرتقبة يفترض ان تتغير فيها استراتيجية واشنطن تجاه العراق. فالمشروع الاميركي الذي بدأ أحادياً اضطر في مراحل لاحقة للاستعانة بعدد من دول الغرب الحليفة اولاً، ومن ثم بمن يجلسون في مقاعد ما بات يعرف ب"المجتمع الدولي"بمثابة"كومبارس"أو"كمالة عدد"كما يقول أهل الشام، يبدو اليوم كأنه بصدد الانكفاء واختيار سياسة الخروج المضمون أو المكفول من مستنقع العراق بمساعدة اقليمية هذه المرة. استراتيجية الخروج الأميركية هذه لن تعني بالتأكيد تسليم العراق لدول الجوار ولا تقسيم العراق حصصاً على حلفاء العرب السنة وحلفاء العرب الشيعة والحاضنين لمشروع الدولة الكردية المؤجلة. لكن استراتيجية"العرقنة"التي تفكر فيها واشنطن على غرار"الفتنمة"التي اتبعتها كمقدمة للخروج النهائي من فيتنام تقضي في ما تقضي بالنسبة للأميركيين وفي ظل ظروف متغيرة ومختلفة تماماً عن ظروف الحرب الفيتنامية بأن يتم تحميل اي نتائج مريعة أو غير قابلة للسيطرة لمثل هذه السياسة المطلوب تكرارها اليوم للدول المجاورة للعراق بدل ان تتحملها واشنطن لوحدها كما حصل معها في سينارينو استراتيجية الخروج الاميركي من فيتنام. المعروف ان ايران محمد خاتمي كانت اقترحت على كوفي انان قبل غزو العراق ان يلجأ المجتمع الدولي وقتها الى صيغة عرفت يومها بصيغة 6+5 أي دول الجوار الخمس للعراق + مصر + الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وذلك في محاولة أخيرة وقتذاك لتفادي الحرب، والبحث عن صيغة توافقية للتغيير في العراق. اليوم وبعد ثلاث سنوات عجاف على العراق كما قلنا وليست تماماً سماناً على ايران وان كانت مفيدة بعض الشيء لها، إلا أنها عجاف على الأميركيين ايضاً أو هكذا بدأت تظهر على رغم الاستنكاف الاميركي من الاعلان عن ذلك، فإن واشنطن وصلت الى قناعة تتعزز يوماً بعد يوم بأن ما صنعته يداها في العراق لا يمكن السيطرة على نتائجه وتداعياته ان هي قررت الخروج من العراق - وقد قررت على ما يبدو - ان كان الزعيم جورج بوش يكابر في الاعلان عن ذلك - إلا بضمانة متوازية ومتزامنة ومتكاملة من قبل دول 6+5. الدعوة العراقية الشيعية - الكردية للايرانيين للقبول بالمفاوضات مع خصمهم الاميركي اللدود هي بمثابة"المحلل الشرعي"لما يبحث عنه الطرفان ويتمنيان منذ مدة، وربما يعدان له ايضاً في الاروقة الخلفية بعيداً عن أنظار الرأي العام. بالتأكيد تدخل هنا تعقيدات وتفاعلات المسار الذي أخذه الملف النووي الإيراني عاملاً مساعداً قوياً في ضرورة الاسراع الى انجاز مثل هذه الخطوة بعدما شعر الأميركيون بعجزهم عن دفع إيران الى الانصياع أو الانقياد، فيما شعر الإيرانيون بالمقابل بعجز الأوروبيين عن لعب دور الوساطة النزيه والعادل والمنصف وفقدان موسكو لزمام المبادرة، وان مشكلتهم الرئيسية لن تجد طريقاً الى الحلول الناجعة إلا من بوابات واشنطن - هذا إن وجدت نافذة أمل للمصالحة. لا يعني هذا أبداً نجاحاً مؤكداً لزلماي خليل زاد ولا حتى جزئياً كما حصل له في أفغانستان وبالذات من خلال الدعم الإيراني المؤكد، وإن تنكرت له واشنطن كما يكرر الإيرانيون القول، ولا يعني أيضاً بأن الفرج قد جاء بالنسبة للمشروع النووي الإيراني، وان ما كان من فصام وحرب باردة مفتوحة على مصاريعها بين العاصمتين اللدودتين سرعان ما سيتحول الى"سمن وعسل"بفضل العراقيين أو بفضل خلفية خليل زاد الأفغانية أو الإيرانية بالأحرى. لكن القدر المتيقن من تأثيراتها هو أنها قد تشكل استراحة محارب لمتخاصمين لا يستطيعان حسم ملف هو الأصعب والأخطر في تاريخ صراعهما ولا حسم معركة نفوذ على ساحة باتت أشبه بالمفتاح الرئيسي لكليهما في الورود الى حلول، أو حسم صراعات أخرى عدة في ساحات متباينة في الأهمية ليس أقلها خطراً الساحة اللبنانية. وإلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في هذه المعركة الديبلوماسية الجديدة، أو أن يتبين في ما إذا كانت هذه الخطوة علامة مبكرة عن وجود"صفقة ما"حول العراق مقابل"حل ما"للملف النووي الإيراني، أو أنها فعلاً مجرد محطة محارب لا أكثر، تظل إيران في قلب الاستراتيجية الأميركية المتعثرة في أكثر من ساحة اقليمية وفي مقدمها العراق. كاتب متخصص في الشؤون الإيرانية.