حمامات رومانية بخزاناتها تختبئ منذ آلاف السنين في حي صغير شرق قلعة بعلبك في لبنان بانتظار من يفصح عن سرها، والمصادفة وحدها قادت العاملين على مد طريق جديدة في المدينة إلى تلك الحمامات مساء السبت الماضي. نبشوها وصورت لتنضم إلى لائحة الاكتشافات شبه اليومية في المدينة. سرقات وهزات وإهمال مدقع لم تفرغ بعلبك من غناها. نهشها كثيرون وبنوا ثرواتهم من آثارها وتاريخها، لكنها ما زالت تخفي في رحمها الكثير من الكنوز التاريخية التي لا تحتاج غالباً إلى منقبين وبعثات أثرية تخرج من تحت القشرة الأولى للإسفلت. فقر فوق الأرض وذهب وكنوز وشواهد على عصور وأزمنة من التاريخ وولادات وانتكاسات حضارات وامبراطوريات، لذلك اختيرت بعلبك قبل سنتين رئيساً لمجموعة المدن التراثية، وذلك خلال المؤتمر الدولي للمدن التراثية الذي عقد في باريس. العارفون ببعلبك يدركون أن مدينة أخرى ترقد تحتها، وأن قلعتها الشهيرة كانت مركز حاضنة كبيرة بناها الرومان في قلب الشرق لتشهد على عظمة امبراطوريتهم. وتقول الباحثة اللبنانية منى حجار ان بعلبك كانت تسمى"اهراءات روما"إذ كانت غنية بإنتاجها الزراعي. حكايات كثيرة ومتنوعة حول ولادة بعلبك الأولى تعيدها إلى بداية التاريخ، لكن المراحل التالية شبه ثابتة. فهي كانت محطة للقوافل التجارية بين مصر وبلاد الرافدين في عهد الآراميين الذين بنوا معبداً فيها، ثم أتى الفينيقيون ليبنوا هم أيضاً معبداً في المدينة. لكن الرومان كانوا أكثر من طبع المدينة، فهم أتوا إلى الشرق عام 64 قبل الميلاد، وقرر الامبراطور تراجان بناء معبد جوبيتر فيها ليكون أول صرح في القلعة الشهيرة، وانتهى بناؤه سنة 80 ميلادية ثم بني معبد باخوس ففينوس عام 217، البيزنطيون أيضاً لهم آثار في بعلبك، وأشهرها كنيسة، ومع الفتح العربي حولت القلعة إلى حصن وبنوا جامعاً وأبراجاً. الاكتشافات الأخيرة كما قال ل"الحياة"نائب رئيس بلدية المدينة خالد الرفاعي وجدت في حي الشيقان الذي يبعد كيلومتراً عن القلعة، وهي خزانات أو حمامات صنعها الرومان يتألف كل منها من ثلاث غرف. وكانت الخزانات تستخدم لتجميع مياه المطار لاستعمالها في موسم الجفاف أو الصيف لري المزروعات وهي متصلة بحمامات يمكن أن يطلق عليها حمامات التدفئة، ففي الحمام مستديرات كانت تُدخل إليها المياه الساخنة ليخرج منها هواء ساخن. في الغرفة الأولى مياه ساخنة، أقل سخونة في الغرف الأخرى. ولفت الرفاعي إلى أن أنظمة تدفئة حديثة تعتمد هذا الأسلوب الروماني. لدى السؤال عن مزيد من الدقة في تحديد الاكتشافات، يروي أهالي بعلبك أنهم اعتادوها ولم تعد تشكل مفاجأة بالنسبة إليهم، كل يوم يجدون مدافن فيها قطع برونز و"بكايات"وهي زجاجات كانت تدفن مع الميت بعد أن تملأ بدموع محبيه. لكن الاكتشافات الكبيرة ما زالت تشكل مفاجآت للغرباء عن المدينة وقد زادت أخيراً من خلال مشروعين ينفذان، هما مشروع"الإرث الثقافي"الذي تنفذه البلدية بالتعاون مع شركة"الجنوب للإعمار"لترميم داخل القلعة الأثرية الشهيرة وإعادة معالجة بعض المعابد وتجميل طرقات المدينة وترميم السوق القديمة البيوت ذات الطابع التراثي البعلبكي، وهي منازل من الطين بنيت في بداية القرن العشرين. والمشروع الثاني هو مشروع الصرف الصحي الذي يهدف إلى إزالة التلوث من المياه المنزلية في المدينة. وخلال أعمال الحفر وشق الطرقات تظهر كنوز بعلبك الأثرية فيضطر المهندسون إلى تغيير خططهم وشق الطرقات في شكل مختلف عما خططوا له لتبقى الاكتشافات بارزة. ومن أبرزها أخيراً المقبرة التي وجدت في الرابع من الشهر الجاري قرب القلعة، وفيها أوراق ذهبية وحلي و"بكايات"وهياكل عظمية من دون جماجم. ولفت الرفاعي إلى أن الرئيس اللبناني السابق كميل شمعون طرح في نهايات الخمسينات من القرن العشرين مشروعاً يقضي بنقل سكان المدينة إلى ضواحيها والتنقيب لإظهار المدينة القديمة، لكن هذا المشروع ذهب أدراج الرياح ولم يأت على ذكره أي مسؤول لبناني. وعلى رغم أن أيدي السارقين وشبكات التهريب عبثت بآثار المدينة التي تعرضت للسرقة جانب الألمان والأتراك خلال الحرب العالمية الأولى، ومن ثم لنهب فرنسي في مرحلة الانتداب كما قال الرفاعي، الا أن أكبر عمليات السرقة كانت خلال الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990 والآثار معروضة حالياً في متاحف أوروبية وأميركية، فيما الأهالي يسألون عن السارقين ومَن حماهم ومَن استفاد منهم. المدينة التي تبدو متعبة اختنق صوتها لكثرة المطالبة بحقها في الاهتمام والتنمية، وهي مع كل ضربة معول أو حفرة بسيطة تخرج من رحمها بعض كنوزها، ربما لإثبات كونها ليست مجرد مدينة... إنها مدينة التاريخ.