تُعاني دول الخليج من الاعتماد الكبير على اليد العاملة المستوردة. ولا يقتصر اثر هذا الاعتماد على السوق واقتصاداتها، بل يتخطاها ليؤثر في التكوين السكاني داخل هذه الدول. ففي دولة الامارات العربية المتحدة مثلاً التي يقترب عدد سكانها بسرعة من 4 ملايين نسمة، يشكل المقيمون ثمانين في المئة منهم. وينطبق ذلك الى حد ما على كل من الكويتوقطر بنسب أقل. اما المملكة العربية السعودية فيبلغ عدد المقيمين فيها نحو 35 في المئة من السكان، وكذلك البحرين تليها عُمان وبنسبة أقل. وكان تقسيم العمالة الوافدة خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي يكاد يتكل على العمالة الماهرة من فنيين وجامعيين ومهنيين من الدول العربية، حيث كانت اللغة العربية ووفرة العمالة تؤدي الى ذلك، بينما كانت العمالة المحدودة الكفاءة والمهارة وعمّال الياقة الزرقاء يأتون من دول آسيا، وخصوصاً من جنوبها. ولربما كانت هنالك استثناءات في حال العمالة من مصر، او الاعتماد على أصحاب الكفاءات المصرفية والحاسوبية من الهند. ولكن هذه الصورة بدأت تتغير تدريجاً، وصرنا نرى العمالة الآسيوية مستثمرة، ومصرفية، وحاسوبية، ومهندسة، وتسويقية، إضافة الى الكثير من الكفاءات الاخرى. وأمام هذا الواقع الذي بات يؤرق المسؤولين في دول الخليج خصوصاً، تظهر تساؤلات عدة حول السياسات التي يمكن اتباعها. فقد بدأت تظهر في كل دول الخليج بطالة واضحة، خصوصاً في صفوف خريجي وخريجات الجامعات والاكاديميات والمعاهد المتوسطة وتتفاقم المشكلة في الدول المحدودة الموارد نسبياً والأكثف سكاناً. ويزيد تفاقم أزمة البطالة إصرار الخريجين أحياناً على مناصب معينة، أو مؤسسات القطاع العام. ففي الكويت مثلاً، نرى ان نحو 90 في المئة من العمالة الكويتية تعمل في مؤسسات حكومية وشبه حكومية، أو شركات ذات رأسمال حكومي كبير. وكذلك لكن بنسب أقل في كل من قطر والإمارات والبحرين، حيث تصل هذه النسب الى 65-70 في المئة. وفي ظل التخصيص الذي يتقدم بوتيرة سريعة، فإن القطاع الخاص لا يهتم كثيراً بتعيين المواطنين، بقدر ما يحرص على الربحية. وتعمل حكومات دول الخليج، ودول اخرى مثل الأردن، على اقناع القطاع الخاص بإعطاء المواطنين فرصة. وقد لجأت بعض الدول في سعيها الى توطين الوظائف والى فرض نسب معينة على الشركات والمؤسسات تخصص للمواطنين. وقد نجحت هذه القضية في بعض الاحيان، الا ان تقويم ذلك النجاح ونوعيته أمر مطلوب. وبسبب اضطرار بعض المؤسسات الى تعيين مواطنين لا تجدهم، فإنها تلجأ الى اعطاء بعضهم عقوداً صورية من أجل تغطية النسبة المطلوبة. وتلجأ أخرى الى أسلوب الاعلان وعرض رواتب تمنح عادة للمقيمين، ولا يقبل بها المواطن. لذلك، على الحكومات ان تضع حداً أدنى للأجور في المؤسسات تلغي معه الحجج التي يقدمها القطاع الخاص بتفضيل الاجانب والمقيمين على المواطنين. وقد أثيرت هذه القضية اخيراً في الولاياتالمتحدة بعد بروز قضية نحو 11 ميلون عامل من دون ترخيص أو إقامة شرعية هنالك. ويقبل هؤلاء العمال بأي أجر طالما انهم يجدون عملاً، وطالما ان صاحب العمل مستعد ان يتحمل مخاطرة ابقائهم لديه مخالفاً بذلك القانون ومعرضاً نفسه للعقوبات. وبذلك تحول العمال القادمون من دول أميركا اللاتينية الى عمال"سخرة". واذا طبق حد عام ادنى للأجور من دون تفاصيل، فإن هذا سينطبق فقط على العمالة غير الندربة، والتي لا يوجد لها بديل بين المواطنين. ولكن تطبيق هذا الحد قد يفيد العمالة العربية القادمة من الدول الكثيفة السكان. وبهذا، فهو يؤدي الى احلال العمالة العربية مكان العمالة الآسيوية. وقد تكون لهذا الامر فوائده. وقد تكون فائدته أكبر، اذ انه يفتح المجال أوسع أمام المقاولين والمزودين المواطنين والعرب بدلاً من المقاولين الأجانب، والذين يفضلون عمالة بلادهم، أو العمالة التي تتكلم لغة يفهمونها. ولكن القضية لن تحل تماماً، لأن اللغة الانكليزية في بعض دول الخليج صارت متداولة في الحياة اليومية مثل اللغة العربية او أكثر، وذلك بسبب العمالة المنزلية الآسيوية. وهنالك تقليد بين عائلات الخليج القديمة وهو التحدث بلغات آسيوية مثل"الأردو"أو"البنغالي""لغة أهل ولاية كيرالا"جنوبالهند. واذا قبلنا بمبدأ وضع حد أدنى للأجور لكل المهن، أو لتلك التي يقبل عليها المواطنون، فإن ذلك سيفيد بعض الشيء، خصوصاً اذا طبقت دول الخليج مبدأ الاشتراك في التأمينات الاجتماعية على هذه المهن. وهكذا يكون الحد الأدنى المعترف بمخالفات على من لا يطبقون ذلك وسيلة مفيدة. لكنها وحدها لا تكفي، وأن وزارة العمل وحدها لا تستطيع جعل الحد الأدنى للأجور فعالاً في تفضيل العمالة المواطنة الا اذا تعاونت معها جهات اخرى مثل الأمن والقضاء ومؤسسات القطاع الخاص نفسها. لا داعي للتأكيد ثانية على خطورة البعد السكاني والديموغرافي في بعض دول الخليج، ولكن تخفيف بعض قيود الجنسية وتيسيرها للمقيمين العرب قد يساعد كثيراً في حصر المشكلة. * خبير اقتصادي - "البصيرة للاستشارات" .