اقتربتْ، ونظرتْ في عيني. حدقتُ أنا في عينيها، ولاحظت سحابة من حزن تطوف بوجهها، وحين رفت جفونها لم استطع مقاومة وجلي، وخفتُ أن أكون عرضة لذلك الإحساس المبهم بالحزن، والذي غالباً ما يأتيني عند دخول الليل. - لو تسمح. - أفندم. أعطتني كتابين، ورسمت على شفتيها بسمة. انحنيت شاكراً، وقد شملني قدر من الارتباك، عدتُ أتأملها. بدا لي الأمر غريباً بعض الشيء، كانت كبيرة في السن، وكان عمرها قد تجاوز عمر تأليف الكتب، فما بالك بالدوران على القارئين! كانت تتأملني وأنا أقرأ العناوين، وانتبهت حينما سمعتُ صوتها مبحوحاً، ومرتعشًا قليلاً: - أسعد بسماع رأيك. ثم انحنت قائلة: - بإذنك. مضت مثل شعاع. كانت نحيلة، وأقرب إلى القصر. أخذتُ أستعيد ملامحها. بدتْ طاعنة في السن، يشملها ذلك الوقار الأرستقراطي الهادئ، ووجهها على رغم حزنه يشي بطمأنينة افتقدها في وجوه تلك الأيام، ولعل السبب الذي حدا بي، وجعلني انظرها وهي تمضي كانت تلك الحالة من الجمال الآسيوي، وشعرها القصير الذي وخطه الشيب، ونظارة بإطار ذهبي، وقلادة على الصدر على شكل تميمة فرعونية. كنتُ أستعيد رنة الصوت الذي خرج تجاهي عبر الكلمات القليلة التي قالتها، وتلك المسحة من الهدوء في وجهها. عدتُ، وتأملت الكتابين. كانا باسم مؤلف. ديوان من الشعر، ومجموعة من ذكريات نثرية، والغلافان مرسومان بلوحتين عن الرحيل، وشخص يرفع يده بالقرب من البحر.. غروب شفاف داخل زمن مقتطع من وجود زائل.. استغربتُ الأمر، وهمستُ لنفسي: - ليست كتبها! بدا الأمر غامضاً بعض الشيء، ووجدتني أسأل: من تكون؟ ومن يكون صاحب الكتابين؟ سمعته من خلفي يهتف لي: - لا تندهش. هو ابنها. رحل عن الدنيا في عز شبابه! تلفتُ ناحية الصوت. كان صديقي الشاعر. تبادلنا التحية، وبادرني: - مات غريباً. في عز عمره، ومن يومها وهي هكذا. - تعني؟ طبعتْ كل ما كتبه، وفي كل مكان فيه ثقافة تجدها. صمتُ لحظة، وأنا أرمقه بنظرة متطلعة وقد أخذني الأمر. أكمل: - كأنها هو. بالتمام. كأنها هو! كنا في سفينة على النيل، وأضواء من الشاطئين تخفق في الماء مثل أسراب الفراشات، والعمائر والفنادق والجسور بدعة في الليل كأنها حلم، والقاهرة وقد فارقها سور النهار الحجري، قد سكن الضجيج، وتوارت سعفة. رأيتها تبرز مرة أخرى، وتنظر محتضنة سياج السفينة، وتتأمل الليل، مفارقة جمع الحضور. صعدت الدرجات، وبداخلي تتصاعد الأسئلة، والرغبة في معرفة تلك السيدة التي تفيض الآن عليّ بالكثير من المشاعر الغامضة. هب هواء تشرين الثاني نوفمبر البارد من النهر. اقتربتُ منها وألقيت السلام. نظرت تجاهي، وحدقت في لحظة، كأنها تعرفني، وكأنها لم تمنحني الكتابين منذ قليل. كانت تهمس لنفسها"آثر أن يذهب كاملاً، وأنها تعيش اليوم نفسه، الذي ينتهي دائماً بالحلم نفسه". تدفعني المعاني الغامضة التي يطلقها البعض لتأمل أحوالهم، أدرك عبر الكلمات بعضاً من مصائر تخايلني، قالت:"إنه كثيراً ما كان يقف أمام المرآة ويقرأ على نفسه الشعر، وأنها لم توافق أبداً على سفره خارج الوطن". وحين حاولتُ أن أستفسر عما تقصده؟! اجابتني:"انه كان يعشق المدن الغريبة، وصخب التجمعات، ورنين الكلمات في معسكرات الاعتقال": أضافت:"إنه من غير المجدي أن نعيش حياة على نحو من تجريد"صمتت ثم قالت:"لو كان له أخ!"نظرتْ ناحية الماء ووجهت لي السؤال:"كم تبقى من الوقت؟". عادت تخبرني عن الروح، وحاولتْ أن تشرح لي معنى القرين، أضاف:"إن الحياة حافلة بالغرائب، وأنها غادرت البيت القديم، ذلك البيت الذي مات فيه أولادها جميعاً". قالت:"إنها خافت عليه، وأشاروا عليها أن تلده في بيت له حديقة تحت القمر، إلا أنه غافلها ومضى". لم أنتبه للمعة الدموع في عينيها، حسبتُ أن الليلة ستكون طويلة، وبدا الأمر في نظري مؤلماً، وأردت الفرار عندما سمعتها تهمس:"إنها كثيراً ما تمشي في صالة البيت وتشعل مصابيحها، وإن عليها كل ليلة أن تتيقن من وجود معطفه معلقاً على مشجب بالحائط، قرب صورته". اعطتني ظهرها ومضت، كانت تدرج على سطح السفينة وسط أضواء خافتة، وأصوات مختلطة تأتي من الدور السفلي لأدباء وأديبات، وصوت غناء لقصائد صوفية، وعزف قانون، ومجدافان على الماء يمخران اليم نحو أبدية مقيمة، لاحظت مشاعري تحترق ممراً داخل ذلك المعبد في جبل المقطم، وشعفني صوت جرس يصلصل في فراغ الجبل. بعد خطوات وقفت ونظرت تجاهي، مضت مغادرة السفينة. تواترت الأيام! وكنت أراها على هيئتها الحالمة، تعيش نوستالجيا مؤلمة، ترتاد كل الأماكن التي كان يرتادها. التايور البني، والنظارة الذهبي، والبسمة الذاهلة كأنها في منام، وأنا من غير وعي يشغلني الأمر وأغرق في السؤال تلو السؤال، ولا إجابة. عن الميت الحي. وأتفكر في ما قالته مرة:"إن كونها أمه مسألة تستدعي الألم". إلى أي الأماكن أيها السيدة الفاضلة؟ هل ستذهبين حيث هذا المركز في وسط المدينة؟ أم إلى ذلك الأتيلييه آخر الزقاق الضيق الذي لا يفضي الى شيء، حيث أراك جالسة وسط تجمع من إناس يضعون على عيونهم نظارات، وتحمل وجوههم ذلك الحزن، وتحدق عيونهم الى شجرة وحيدة مستحيلة؟ أم إلى تلك القاعة المضاءة على مرايا معلقة على جدران قديمة تعكس الأخيلة مثل أحلام؟ "ما الذي في إمكاني الوثوق به بعد أن عرفتك؟".