ربما بدأ كل شيء لحظة حطت هذه المطرقة البيضاء، الأكثر بهاء من شقتي الجديدة، بهدوء على أسياخ الشرفة لحظات قبل سفري. لعل هذا كان ثمرة وحدتي الطويلة. حلم، معجزة غير متوقعة. كنت في الصالون أمام النافذة - الباب ولم يكن جرس الهاتف ليتوقف عن الرنين. الى ناطحات السحاب التي تتقدم كعماليق من الخرسانة نحو الأحياء العتيقة لضفة السين اليمنى، كنت أنظر، الغيوم كانت تتفتت في السماء والريح تعول، الجو كان صافياً. ولم يكن السحاب ما يتقدم بل البنايات تنزلق في دفق النور. ليس أمام شقتي ما يحجب النظر، وبدعة كانت تطل على المدينة، وكنت مسروراً بذلك. كنت قد قضيت شبابي في غرف طلابية معتمة. أقفاص باردة في الشتاء وأفران حقيقية في الصيف. على مشارف الأربعين، حسب، تهيأت لي فرصة السكن في شقة مريحة في باريس. شقة بصالون وغرفة نوم في بناية كبيرة تتربع على سفح تلة، أمام ناطحات السحاب القريبة من باب المدينة الجنوبي. لم يكن ضيق المكان ما يدعوني للشكوى، بل الشعور بالوحدة. زد على ذلك أني لم أكن أمضي وقتاً طويلاً هنا. هذه السنوات كانت سنوات ترحال، كنت أقطع العالم ماضياً من ميناء لآخر، من مدينة لأخرى. سنوات تيه كمركب سكران يمضي به التيار دونما مرسى. نعم، ربما بدأ كل شيء لحظة حطت هذه الحمامة على أسياخ الشرفة من دون أن أنتبه لها. ما زلت أذكر" حقيبتي معدة وكنت أتهيأ للخروج لحظة رن جرس الهاتف. للحظة ترددت، ان أجبت فسوف يفوتني القطار. هرعت نحو الباب، أدرت بكرته" بالضبط وأنا أهم باجتيازه غيّرت فكرتي. وهذا الهاتف الذي لا يكف عن الرنين! تقهقرت، ركنت حقيبتي في مدخل الشقة ومضيت نحو الصالون ثم توقفت عند الباب - النافذة المؤدي للشرفة. لم أكن قد قررت بعد رفع سماعة الهاتف. في تلك اللحظة بالذات رأيت المطوقة. كانت تضرب الهواء بجناحيها من دون أن تتقدم شعرة واحدة، كما لو أنها تحاول الطيران من لا مكان لتمضي الى لا مكان آخر. شاقة الريح بجناحيها، مجتازة ناطحات السحاب سالكة طريقاً كقوس قزح قبل أن تأتي لتحط على الشرفة. للحظة، للحظة قصيرة تقاطعت نظراتنا. فاخترق بريق عينيها الحمراوتين شغاف قلبي، أدركت أني لن أستطيع تركها هنا في هذه الريح العاصفة، خرجت الى الشرفة ورحت أمسد رأسها. برفق. لم تكن خائفة. حين أمسكتها توقف الهاتف عن الرنين. انتظرت في هذا الصمت تاركاً نفسي لهذا الشعور باللذة التي صاحبني وأنا أمسد ريشها الرقيق. كان نبض قلبها سريعاً. وشعرت من أعماقي حرارة جسمها وخفقان قلبها. كانت حية. ومن جناحيها الممتلئتين انبعث عشق دافىء، شعور بالألفة ملأ يدي ومن ثم جسدي كله، جسدي المحروم منذ زمن بعيد من أي ألفة. لم تكن من تلك المطوقات اللواتي يعشعشن بين الجدران الحجرية للكنائس المجاورة. كان ريشها ناصع البياض، ومنقارها منفتح على اتساعه. مع كل شهيق لها كان عنقها المبقع ينتفخ. أخذتها وضممتها اليّ فغزتني سخونتها كما لو كانت جزءاً من كياني، امتداداً لجسدي. كنت مبتهجاً حتى أني تخيلت حينها بأني أحضنها منذ سنوات طويلة. حينما وضعتها في زاوية منعزلة من الشرفة كانت عينيها ما تزالان مغلقتين. هرعت الى المطبخ وجلبت قليلاً من الماء في علبة بلاستيكية. مدت منقاها وشربت حتى الارتواء. على عجل صنعت من ألواح كارتونية ما يشبه العش ليأويها حتى عودتي، وضعتها في عشها الجديد ثم غادرت الشقة. في آخر لحظة استطعت اللحاق بقطاري. دامت سفرتي أكثر مما كان متوقعاً. كانت وجهة سفري شواطىء بحر الشمال. في البدء تعرفت على الشواطىء العزلاء المكتظة بصراخ النوارس ثم بعدئذ مضيت الى قرى الصيادين قبل أن أتوقف في هامبورغ. في هذه المدينة قضيت بضعة أيام قبل أن أعود أدراجي الى باريس. في قطار الليل الذي عاد بي كانت ذكريات سفرتي تتلاطم في رأسي، فنداء البحر يصدح في شهر أيار مايو هذا. إذ تحت سماء غائمة كان البحر ممتداً الى نهاية الأفق، مستقيماً، هادئاً، وخال، والنور كان في تحولات لا تنتهي" الشمس النافذة عبر الغيوم كانت تنعكس في الأوقيانوس، والماء ماضياً من لون رمادي الى آخر أبيض الى آخر أخضر فآخر رمادي. كان شعور بالتحرر من كل شيء يمضي بي بعيداً. رغبة عارمة ومخيفة معاً. أمامي كان المدى مكفهراً ولم يكن هناك غير عويل الرياح وصدى الموج المزبد. كل الاحتمالات كانت ممكنة في هذه اللانهائية حيث ما من مركب يمخر العباب. لم يكن لي من مرفأ بالانتظار أو رحلة ما حيث أتوقف أخيراً. مدفوعاً بقوة التيار كأني سأحطم كل ما سيصادفني في طريقي. من أنا حقاً؟ عابر سبيل، خفقة قوة، من أنا حقاً؟ لحسن طالعي وجدت الأمان في هامبورغ، هدوء المياه الساكنة لمينائها. كل باخرة هناك كان لها حجم مدينة صغيرة. في حوض اصلاح السفن كانت قيعان البواخر، المخفية تحت الماء في العادة، هائلة ومراوح المحركات كأنها وحوش عملاقة. وأنا أتجول حولها في قارب فكرت أن لكل واحدة منها وجهة في نهاية المطاف، قصة أجهلها وسأظل أجهلها، لا أدري ان كنت أحسدهن على مصيرهن تحت الدهان المانع للرطوبة وملوحة البحر. لكن، على كل حال فأن هذه الهياكل المعدنية البالية، المرمية كانت ملاذاً جميلاً لي مضيت بعد ذلك للنزهة وحيداً على شاطىء الإلب. كان اللون الرمادي ذاته من مدينة لاندنجسبوركن حتى البحر، النور الكامد المنعكس على صفحة الماء. كنت قد مررت في تجوالي أمام المقهى الذي يرتاده الشبان، أمام محلات بيع السجاد والتوابل والشاي والقهوة والتبوغ، أمام البواخر المحملة بالحنين. واحدة منها كانت تحمل اسم ابن بطوطة. أحد المراكب التي تقطع البحار قادمة من الجنوب بدا لي غريباً وفجأة وجدت نفسي في حنين الى الشمس، الى تلك الشواطىء المكتظة بالبشر تحت حرارة الصيف. بينما هنا كان الشتاء يعلن عن نفسه، واحد من الشتاءات الشمالية الباردة، الطويلة والكئيبة. ليس مثل شتاءاتنا التي قضيتها في بيتنا في اسطنبول حول منقلة النار. في شقتي الجديدة ينتظرني شتاء فاقع سأقضيه أمام شاشة التلفزيون. تذكرت سقوف الزنك المخضرة، الأبراج العالية لمدينة هامبورغ، السفن الشراعية المنتفخة الأشرعة كنوارس تحط على بحيرة استر. في المساء مضيت للعشاء عند عائلة عامل تركي تسكن في الطونا. وجدوا لي عرقاً وهيئوا لي مائدة عامرة بالجبن وسمك التون المملح وقدد اللحم المتبل وسمك الطراخور المحشي كما في وجبات الفوسفور. في ذلك المساء نسيت وحدتي. شربنا العرق تحت صورة لجسر البوسفور وتركنا أنفسنا أسرى لهدير السفن التي تنشر قلوعها هناك. لم تكن أوروبا تلك التي يربطها الجسر بالأناضول بل نحن الى ماضينا، الى قحل الأراضي التي تشهد انقطاع جذورنا. كنا كأشجار يبست وقد قطعت جذورها. بعد العشاء جلس الإبن وراح يعزف بعوده. غنى لنا أغان الغربة التي جعلتنا نهيم في سفوح طوروس المغمورة بالزعتر وعطور السهوب الأناضولية. كانت كلمات إحدى الأغاني تتموج في ذاكرتي ومشاهد من جنيات البحر تمر أمام ناظري مطبوعة على الوسادة التي كنت أنام عليها مختلطة بأشجار تبدو أغصانها تتكسر في ريح السهوب بينما قطار هامبورغ - باريس يشق ظلمة الليل الضبابي: "ستمر حياتي في المنفى، ما من بيت لي ولا حبيبة، لمن سأسرد قصص آلامي؟". والقطار كان يجتاز بسرعة محطات مهجورة مغمورة بضوء كابي. في الخارج كان الليل يغمر القرى والقنوات والحقول المحروثة ومداخن المصانع في هذه الأصقاع المنبسطة. عند وصولي لباريس نظرت الى صورتي في مرآة وأنا أشرب قهوتي الأولى في مقهى محطة الشمال. كانت عيني متعبتين كأنهما تحدقان في الفراغ. كانت لحيتي قد نمت وملامحي المتعبة لم تروق لي. كأنها الوجه الآخر للعالم الكامد على سحنات الحشود التي كانت في المحطة كما في عشية هزيمة. كان الجليد قد بدأ يتساقط حينما غادرت المحطة. أخذت تاكسياً ومضيت الى الدار. اجتزت شوارع ما تزال معتمة وجادات خالية. وفي المقاهي كانت الأضواء مشتعلة، النهار على وشك اليقظة. ندف الجليد كانت تتراقص في سقوطها أمام أنوار السيارات ثم سرعان ما تذوب حينما تحط على الإسفلت الرطب. حالما حاذينا السين شعرت بتعب ثقيل يأخذ بتلابيبي. كان النهر يجري بصمت تحت الجسر الحجرية، متماهياً في البعيد مع الضباب الصباحي بين الأبنية القديمة. وأنا أحدق في النهر أخذت أشعر بتثاقل جفني وخرجت من فمي آهة. كما في الحلم رأيت المطوقة، الحمامة البيضاء التي نسيتها حالما خرجت من شقتي ولم أتذكرها ولو مرة واحدة منذاك. كانت ترتجف تحت الجليد المتساقط، وأنا أحدق فيها انتابني حزن عميق سرعان ما غزى كياني كله. في تلك اللحظة استيقظت من اغفاءتي. كان الجليد قد غطى أغصان الأشجار. فركت عيني، فرأيت الريش يتساقط على الشوارع العارية للمدينة. في الفضاء كان الوفر يتطاير مختلطاً بريش الحمام. شعرت بالطمأنينة حين تذكرت أن أحداً ينتظرني هناك، في البيت. وأنا أصعد السلّم ابتسمت وأنا أفكر أني سأجدها في عشها في الصفيحة الكارتونية عند الشرفة. كما في كل عودة لي، فلا أحد سيهب لاستقبالي حينما سأدور المفتاح مرتين في قفل الباب. سأجتاز الصالون وأتجه الى الشرفة كي أرى مطوقتي. سآخذها بين راحتي وأضمها إليّ كي أدفىء بأنفاسي جسدها المقرور. بجلدي سأشعر بسخونة جسدها ودقات قلبها السريعة. حالما دخلت في الشقة مضيت الى الباب - النافذة. فتحتها وخرجت الى العراء. لم تكن المطوقة في عشها داخل علبة الكارتون. شعور الحزن الذي أخذ بي وأنا في التاكسي تضاعف وعصر قلبي. لبرهة بقيت أحدق في الجليد المتساقط، كانت الحياة قد بدأت خلف النوافذ المضاءة في الشقق المقابلة. كان الناس قد استيقظوا في أعشاشهم المطمئنة. نوافذ المطابخ كانت مضببة والأطفال كانوا يتهيأون للذهاب الى مدارسهم والآباء لأعمالهم. خيل لي ان الجدران الكونكريتية أمامي كانت تبتعد مع الجليد المتساقط. بقيت للحظات متكئاً على حديد الشرفة ناظراً للمدينة في يقظتها. أمامي، الفراغ المفتوح العميق وتحتي أنوار السيارات كحبات المسابح الفوسفورية. كانت اشارات المرور تضيء عند التقاطعات، ودخان العادمات يختلط بالظلمة التي ما تزال في الفضاء، شعرت بالبرد فدخلت ومضيت الى غرفتي. وأنا أشعل المصباح خيّل لي أني قد تجمدت. على السرير كانت امرأة بشعرها الفاحم ورقبتها البيضاء قد استلقت في نوم عميق. توهمت أني ما زلت أحلم بسبب التعب ففركت عيني. نعم، امرأة بوجه نوراني في سريري. من خلال الابتسامة التي ترسمها شفتيها خيّل لي أنها تحلم أحلاماً جميلة. لم أجرؤ على الحراك لدقائق ثم فكرت أن أوقظها. لكن نومتها على هذه الحال أخذت بشجاعتي. كانت أجفانها تبدو طويلة بفعل الضوء ونهديها يعلوان وينخفضان مع تنفسها بأيقاع متناغم. وساقها اليسرى كانت خارج الغطاء. كانت عارية، بيضاء كعمود من مرمر مستلق على وردية الغطاء، دثرتها وأطفئت النور وأغلقت الباب بتؤدة. مضيت الى أريكة وتهاويت هناك ثم غططت في نوم عميق. استيقظت على دفء يد تمسد شعري. كانت أمامي. منحنية عليّ تمسد لحيتي وشعري وتقبل عيني وشفتي وجبهتي. شعرت بدموعي تنبجس وتبلل وجنتي وتمضي هابطة أبعد من شفتي. "كنت أعرف أنك ستعود، هدلت، كنت أعرف أنك ستعود" كان صوتها هادئاً وكانت كلماتها تسقط على مسمعي كندف من الجليد "لا تغادرني مرة أخرى، لتكن هذه سفرتك الأخيرة، ان سافرت من جديد فلا تعد أبداً!"، ثم أضافت "لقد نسجت الوقت على سجادتي، غيابك، حياتي بعيدة عنك، دموعي نسجتها. حكت الأيام مع الشهور مع السنين، وما من لحظة انزلقت لإغراء آخر دونك"، ثم انفجرت في بكاء ضاع في صوتها، سحبتها اليّ "فشعرت بوجيب قلبها في صدري. كانت مطوقة تخفق بجناحيها على قلبي. مسدت يديها وقبلتها في عينيها وعرفت حينها أن أيام تيهي في غرف الفنادق، في حشود المقاهي الصباحية، في المحطات والمطارات صارت بعيدة. عرفت أن حياتي عند ضفاف البحار البعيدة قد تلاشت وأنا أمضي للقاء هذا الحاضر. عرفت أني منذ الآن سأعيش معها، ذائباً فيها تحت خيمة العشق التي كانت يداها تحيكانها حولي. * كاتب تركي. ترجمة جبار ياسين من الفرنسية