أجريت الانتخابات البرلمانية الفلسطينية والإسرائيلية في زمن متقارب نسبياً، وتشكلت في أعقابها حكومة فلسطينية، فيما لا تزال الإسرائيلية في طور التشكل. الأولى ما زالت تثير لغطاً في إسرائيل وفي العالم الغربي، فيما الثانية أياً تكن تركيبتها، ستستقبل بالترحاب من دون أي لغط، وذلك في تمظهر جديد من تمظهرات ازدواجية المعايير الغربية، في اعتبارها الأولى غير"ديموقراطية"أو ان ديموقراطيتها"مارقة"كونها لم تلب الطموح في حكومة موالية للسياسات الغربية، ومن دون احترام لخيارات الشعب الفلسطيني. في وقت عدّت خيارات الإسرائيليين ديموقراطية، وهي على الدوام كانت تحسب كذلك لتستقبل بالترحاب في أروقة ومحافل الدول والمؤسسات الغربية. وإذا كان في الإمكان الحديث عن تحول في المزاج الشعبي الفلسطيني على خلفية الانتخابات الأخيرة، منشؤه الوضع الداخلي، فإن التحول في المزاج الإسرائيلي، وإن بدأ قبل الانتخابات الأخيرة، أفرز خريطة حزبية جديدة، سيكون من نتائجها ائتلاف حكومي جديد لن يستطيع الاستمرار من دون المزاوجة بين توجهاته الداخلية وسياسات إدارة الصراع مع الفلسطينيين، والتي تشكل خطة إيهود أولمرت أحد أبرز معالمها، في ما تعنيه من فشل تلك الإدارة وفشل مسار التسوية المتفاوض عليها. فالحل الأحادي محاولة فاشلة من رزمة محاولات الحفاظ على إدارة الصراع، وإدارة دفته كخطوة استباقية لاستجلاب دعم دولي أميركي وأوروبي، وفرض خطة أولمرت على اللجنة الرباعية بديلاً لخريطة الطريق التي غيبها آرييل شارون قبل غيبوبته. وهذا في حد ذاته كاف للقول ان ليس هناك استعداد اسرائيلي لتسوية تستجيب الحد الأدنى من التطلعات الوطنية الفلسطينية. لكن التحول الذي أظهرته الانتخابات الإسرائيلية يبقى محدوداً، وهو في نطاق السياسات الداخلية، فالمزاج الشعبي الإسرائيلي الذي اتاح مثل هذا التحول، ما زال ينحو في اتجاه محاولة تحجيم التطلعات الفلسطينية وتقزيمها، وحصرها في حدود"نهائية"أو"دائمة"لا تترك للشعب الفلسطيني سوى حدود جدار الفصل العنصري الذي تبغي خطة أولمرت تحويله، جداراً سياسياً حدودياً، بما يحويه من معازل وكانتونات تشكل عقبة رئيسة امام دولة فلسطينية مستقلة. ومن الواضح الآن، في ضوء نتائج الانتخابات للكنيست الپ17، أن اسرائيل في طريقها الى التخلص في ديكتاتورية الحزب الواحد، بزعاماته العسكرية التاريخية، فيما يجري حسم ازدواجية الثنائية القطبية الحادة من داخل السلطة حكومة ائتلافية او من خارجها حكومة ومعارضة، وباتت الخريطة السياسية الإسرائيلية تقترب اكثر نحو تقدم قيادات مدنية، لا تمتلك حالة الزعامة، الصفوف الأولى للأحزاب القائمة. فالإرث الشاروني الذي افتتح به شارون زعامته لحزب"كاديما"ينتهي الى تسلم مدنيين قيادة الحزب، بما يعنيه ذلك من مؤشر على تحول مهم في الخريطة الحزبية في اتجاه تحول أحزابها الى كوكتيل ائتلافي متنوع في انتماءاته الإيديولوجية وخياراته السياسية، كدليل عجز وفشل حزب واحد في قيادة اسرائيل نحو مواجهة، او حل مشاكلها الأمنية او إدارة الصراع وسط إجماع قومي كامل. بات الفلسطينيون اليوم امام نموذج آخر من سياسيي الأحزاب الإسرائيلية في غياب شارون، وانزواء شمعون بيريز خلف ايهود أولمرت بعد هزيمته امام عمير بيرتس في انتخابات حزب"العمل"، وهو ما شكل الضوء الكاشف على التحولات في المزاج السياسي والشعبي الإسرائيلي، بهجرته الى احزاب الوسط وسياساتها الوسطية - الاجتماعية خصوصاً -، كما كان خروج"كاديما"من رحم الليكود واستقطابه عداً من سياسيي أحزاب اليمين ويسار الوسط أبرز مؤشرات هذا التحول، الذي اعادت بلورته الانتخابات الأخيرة بما تتيحه الآن من وضع حصان"كاديما"في مقدم عربة الائتلاف الحكومي الجديد. إلا ان القواعد الهشة التي قامت عليها الائتلافات الحكومية السابقة، انطلاقاً من سياسات داخلية على الغالب، قد لا تتيح للحكومة الجديدة بزعامة"كاديما"الاستمرار طويلاً، إلا اذا كان يمكن للسياسة الأحادية التي يقترحها أولمرت ان تشكل عامل استقرار لحكومة كهذه، بعد التوصل الى تسوية على صعد السياسات الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً مع حزب"العمل"باهتماماته الاجتماعية الحالية. من هنا يمكن القول ان الانتخابات الإسرائيلية - وإن كانت احدى مفاجآتها فوز حزب"المتقاعدين"بسيطة من مقاعد الكنيست - أظهرت انهياراً في المواقع الإيديولوجية اليمينية، وسقوطاً مدوياً لدعاة"ارض اسرائيل الكاملة". إلا انها، وفي المقابل، بلورت جبهة عريضة تمتد من يمين ويسار الوسط وحتى اليسار - وإن بحدود - مؤيدة لأهداف تقليص مساحة ما يمكن ان يتبقى للفلسطينيين من اراض لا تتيح لهم إقامة دولة، ولا حتى التواصل بين اجزائها. فپ"الواقعية"المكملة لپ"واقعية"شارون في توالي الانسحابات الجزئية الأحادية، تستهدف خفض أعباء الضغط الفلسطيني، عبر التخلص من مزيد من"الأغيار"كخطوة في سلسلة خطوات تتجه بأوساط الحكومة الجديدة لپ"تنقية"الدولة والاتجاه بها في شكل بطيء ومدروس، ومنسق مع الأميركيين والأوروبيين نحو التخلص تدريجاً من"ثنائيتها القومية"ولو بعد حين، وهو ما أشار إليه أولمرت عشية الانتخابات بدعوته الإسرائيليين الى"بلورة هويتنا الذاتية وضمان وجود اسرائيل كدولة يهودية ذات غالبية يهودية واضحة". وعلى هذا تصبح لعبة التحالف الجديد الناشئ في اسرائيل اليوم اكثر انكشافاً، وهي تتجه الى عزل الحكومة الفلسطينية وممارسة مزيد من الضغوط عليها، والمضي في سياسة رفض التعامل مع السلطة كشريك سياسي، وكمبرر للاستمرار في سياسة الحلول الأحادية بتأييد اميركي - أوروبي سيتوضح اكثر فأكثر، خصوصاً في أعقاب تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الأخيرة في هذا الشأن. اما عن دعوة أولمرت الرئيس الفلسطيني الى مفاوضات مباشرة، وإعلانه استعداده التفاوض في حال كان هناك استعداد مماثل في الجانب الفلسطيني، وإلا فالانفصال من طرف واحد، فهذا ما لا ينسجم وتوجهات الحكومة الإسرائيلية القديمة - الجديدة الفعلية الآن - فيما هي تستبعد الحكومة الفلسطينية من أي توجهات تفاوضية، بل بعيداً في رفضها التفاوض اساساً، إذ لا يمكن للرئيس الفلسطيني ان يستجيب أي دعوة تفاوضية من دون الحكومة، كما لا يمكن للحكومة ان تمضي في سياساتها من طرف واحد من دون إشراك الرئاسة، بمعنى ان أي خطوات سياسية كبرى أو صغرى لا يمكن ان تتم بمعزل عن رعاية النظام السياسي الفلسطيني. وما يعرضه أولمرت لا يستجيب إمكان قيام مفاوضات مباشرة نظراً الى الأهداف التي يطرحها، والتي تحسم نتيجة التفاوض سلفاً، وهي أبعد ما تكون عن تسوية ممكنة، وأقرب الى حل أحادي، يعرف أولمرت مسبقاً ان السلطة الفلسطينية ومرجعيتها، وكامل مؤسسات النظام السياسي، ترفضه تماماً، بخاصة ان سقف ما يطرحه أولمرت، الأمين على خطة شارون، ادنى كثيراً من أي سقف سابق، من مشروع ايهود باراك الى خطة بنيامين نتانياهو الى مشاريع"واي ريفر"وپ"كامب ديفيد"ايام إدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون. نحن، إذن، امام حكومتين فوق أرض واحدة، تتنازعان السيادة عليها او على اجزاء منها. إحداهما تتبع سياسة الأمر الواقع الشارونية، وهي أكثر استعداداً لمواصلتها على رغم ما قد يعترضها من عقبات داخلية، وأخرى تحاول ان تشق طريقاً جديداً، لتنهج سياسة مغايرة لسياسات الحكومات السابقة، في إطار نظام سياسي يحاول ضبط إيقاع هذه السياسة ومنعها من الخروج الى عراء التصادم الشامل. وكل منهما يتجه صوب الالتفات الى مشكلاته وأزماته الداخلية لكسب أوسع اصطفاف الى جانبه في إدارة الصراع مع الطرف الآخر. وعلى رغم إدراكنا البون الشاسع الذي يفصل بين حكومتين، تنشآن وسط مزاج شعبي عام لا يقود الى حسم خياراته - على الأقل في الجانب الإسرائيلي - فإن الحكومتين الفلسطينية والإسرائيلية ستشهدان تضاداً كاملاً في توجهاتهما وسياساتهما. ف"شراكة السلام"التي طبعت مرحلة من مراحل الحكومات الفلسطينية السابقة، تنتهي اليوم عند تخوم ما يمكن تسميته بپ"غياب الشراكة"، حتى في مجال إدارة الصراع، نظراً الى تباعد رؤى الطرفين، وإلى غياب أي قاسم مشترك، ولو في حده الأدنى، لرؤية وسائل حل هذا الصراع وفق تسوية ممكنة. عموماً، وفي الغالب الأعم، لا تتجه التسويات الى إنهاء الصراعات بأشكالها المتعددة، قدر ما تعلن عدم قدرة الأطراف المتصارعة على الاستمرار في الصراع وفق وتائر سابقة. وهذا لا يعني مطلقاً فقداناً للإرادة، إلا بالقدر الذي تنعكس فيه قدرة الذاكرة على فقدان ذاتها، وهذا ما ليس متوافراً في الحال الفلسطينية، اذ الذاكرة ما زالت في اتقادها تعكس إرادة استمرار الصراع على رغم ذلك فإن التسويات ليست عادلة على الدوام، وهي ليست كذلك على الإطلاق، فقد يكون"حل الدولتين"تسوية ممكنة لكنه ليس عادلاً. ولكن على أي قاعدة يمكن ان تتأسس"التسوية الدائمة"وهل هناك الإرادة الكافية والإمكان الواقعي من الطرفين لتحقيق مثل هذه التسوية؟ على رغم الرغبة المتبادلة في ايجاد"حل نهائي"لدى أوساط في الجانبين، مدعومة برغبات وتمنيات من جانب بعض أوساط المجتمع الدولي، ومن ضمنه اللجنة الرباعية عبر خريطة الطريق التي تبناها الرئيس الأميركي كأساس لرؤيته، إلا ان ذلك ما زال يصطدم بالتعنت الإسرائيلي - الأميركي الرافض استئناف المفاوضات، واستبدال ذلك بخطوات حل احادي لا تمانع الولاياتالمتحدة في اعتباره سياسة التسوية الممكنة في الوقت الحالي، ولهذا ليس هناك امل كبير في تغيير فعلي او حقيقي في الموقف الأميركي حتى نهاية ولاية الرئيس جورج بوش، وتلك هي فحوى رسالة التمسك اللفظي المراوغ بخريطة الطريق، التي لم تعد قائمة بالنسبة الى إسرائيل، خصوصاً الآن وهي تتجاوز عتبة الانتخابات على أساس خريطة اخرى هي الخريطة الشارونية. * كاتب فلسطيني.