الفكرة التي أطّرت وتؤطّر النظرة او الرؤية لإسرائيل ما بعد ارييل شارون، وعموماً إزاء أي انتخابات في اسرائيل، والتي تنطلق على الدوام من شخصنة السياسة والرؤى السياسية، لم تعكس سوى الرغبات الذاتية لأصحابها، في مقاربة اشد وضوحاً لواقع السياسة في الفضاء العام العربي تحديداً على رغم البون الشاسع الذي يفصل محددات السياسة باستراتيجياتها وتكتيكاتها، بين فضاءين مختلفين تماماً. فالقرب الجغرافي لا ولن يعكس يوماً، قرباً او اقتراباً تاريخياً او مفهومياً بين السياسة بمنظورها العام، والسياسة من منظور الشخصنة التي تقوم على ركام من الأوهام، في غياب اي نظرية سياسية او ثقافة سياسية رشيدة وحكيمة تؤطّر مسارات العمل السياسي. وسواء رحل شارون، او بقي عاجزاً لفترة طويلة، فإن سياسته ستبقى تمارس من دونه، اذ ان الشخص في اسرائيل، لا يقود السياسة, او يصنعها بكاريزماه الشخصية، قدر ما تأسست وتتأسس على قواعد وأنظمة ايديولوجية مغلقة لمؤسسة قامت وتقوم على ركائز توراتية، هي المحدد الأول لطبيعة الصراع وطبائع سياسياته وتكيتكاته اليومية، حتى وهي تأخذ بعداً تسووياً بالتفاوض او من دونه لان مرجعية الصراع في الجانب الإسرائيلي تتحدد من مرجعية توراتية، لا استناداً الى مرجعية سياسية أو شخص او حزب. ليس في اسرائيل حزب حاكم، بل هناك مؤسسة يؤول إليها الحكم دائماً، حتى في حال فوز حزب واحد بغالبية مقاعد الكنيست، على غرار ما حصل في الفترات التأسيسية الأولى لنشوء الكيان وحتى عام 1977، وهي الفترة التي وصفت بالانقلاب اليميني بوصول الليكود الى الحكم، اذ انه طوال الأعوام السابقة، كان حزب العمل هو الذي شكل الحكومات الإسرائيلية منذ عام 1948. وحتى الحزب الواحد العمل او الليكود لم يكن حزباً واحداً فعلياً، قدر ما كان ائتلافاً بين مجموعة احزاب صغيرة، شكلت العمل على يسار الليكود، فيما شكلت احزاب اليمين ائتلافها على يمين العمل، وتلك سمة خاصة من سمات العمل الحزبي في اسرائيل منذ انشائها. ولهذا فإن"كاديما"ليس صنيعة او عجينة خاصة جرى تشكيلها في سماء صافية، انها طبيعة العمل السياسي الإسرائيلي المؤسسي، حتى وهو يتحلق حول شخصية كاريزمية قد تحدث اختراقاً في التوجهات، من دون المساس بمحددات الاستراتيجية العامة التي تقود المشروع الصهيوني. شارونية اسرائيل، اذاً، ليست حكراً على شارون الشخص، خصوصاً ان خلفاءه لن يكونوا اقل شارونية في مواجهة وضع فلسطيني منفلت لن تستطيع الانتخابات المقبلة ضبطه او الحد من اضراره، خصوصاً ان شارونية اسرائيل، لم تعد مقطوعة الصلة بشارونية مماثلة اميركية لا سيما في اعقاب صعود اليمين الأميركي المحافظ واندفاعه الامبراطوري عقب هجمات 11 ايلول سبتمبر 2001. بعد شارون، لن يكون حزب"كاديما"المرجح فوزه في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة صورة طبق الأصل عن شارون وما أنجزه حتى اللحظة، قدر ما يكن ان تتشكل اهدافه وفق خريطة طريق اميركية اكثر وضوحاً، لجهة ربط ما يجري في فلسطين بما يجري في المنطقة عموماً، من لبنان الى سورية الى العراق الى الملف النووي الإيراني، والإيغال اكثر في ترسيم خريطة طريق"الشرق الأوسط الكبير"، كونها الأداة الأكثر مركزية في محورة المصالح الأميركية في بؤر النفط والغاز والأسواق المفتوحة، في ظل عولمة هي الأشد إدماجاً بين السياسة والاقتصاد وإخضاعهما لمركز مهيمن واحد. ولهذا فإن سياسة تغييب الشريك الفلسطيني ستستمر الى ما بعد الانتخابات، فالموقف الأميركي ازاءها، وإن لم يخف تدخلاته وإملاءاته حد التهديد بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية في حال فوز"حماس"، يريد القول ان الشريك الفلسطيني لم يمتلك بعد المواصفات المقبولة في الذهن الإسرائيلي - الأميركي، فيما قد يذهب الموقف الإسرائيلي، وعلى رغم قرار السماح بإجراء الانتخابات في القدس واشتراطه عدم قيام حملات دعائية خصوصاً لمرشحي"حماس"، قد يذهب فعلاً الى عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات كونها لا تلبي رغبة اسرائيل في التعاطي مع الوضع الراهن من منطلق تحريك المفاوضات، وإنما المرغوب ان تستمر الخطوات الأحادية من جانبها كونها السياسة الأكثر قبولاً لديها، وذلك فحوى رسالة القول دائماً بغياب الشريك الفلسطيني، او بالأحرى تغييبه. الخطوات الأحادية في اسرائيل باتت سياسة في سلوك القوى والأحزاب، تفادياً للتفاوض مع الشريك، حيث يتحول"اليسار"الى يسار وسط، ويتحول اليمين المتطرف بمجرد وصوله الى السلطة الى وسط براغماتي يحاول التخفيف من غلواء تطرفه انسجاماً مع تحالفاته الخارجية، وهروباً من الخضوع للأوساط الأكثر يمينية وتطرفاً، من دون ان يعني ذلك انه يستطيع ان يحوّل اقساماً من اوساطه الشعبية المتطرفة الى مواقعه. وذلك كان حال شارون وحزبه"كاديما"، الذي ربما صعد الى السلطة في الانتخابات المقبلة مواصلاً السياسات الأحادية ذاتها التي باتت تجتذب حتى اوساط يسار الوسط حزب العمل. وقد ذهب عمير بيريتس في الاتجاه ذاته بطرحه انسحاباً احادياً من الضفة الغربية، على صعوبته، نظراً لقوة اليمين المتطرف وتمركزه الرئيس في مستوطنات الضفة، ونظراً للجدوى التي ما زال الاحتلال يترسمها ايديولوجياً ويجني من ورائها مكاسب سياسية واقتصادية، على عكس لا جدوى الاستمرار باحتلال غزة. الانتخابات الإسرائيلية، وإن كانت ستحقق شيئاً للإسرائيليين، في نطاق التواصل مع استراتيجة الاستمرار في ممارسة الإيديولوجيا الأكثر اقتراباً من التحقق على ارض الواقع، فإن التوجهات الإسرائيلية ومن خلفها الأميركية - ستسعى، ما امكنها، الى إظهار ان الانتخابات الفلسطينية لن تحقق شيئاً للفلسطينيين، في ظل استمرار تبني استراتيجية تقديس الإيديولوجيا على حساب الوقائع على الأرض، ما يعني في المحصلة النهائية ان موضوعة الدولتين جار نسفها لمصلحة تأييد الدعم الذاتي، كشكل من اشكال الدولة المقطعة الأوصال، المرتبطة بإسرائيل سياسة واقتصاداً، وقانونياً حتى، طالما ان التشريعات التي يقرها المجلس التشريعي لن تكون قادرة على نقض قوانين الاحتلال السارية في شكل او آخر وفقاً لاتفاق اوسلو. فموضوعة الدولتين، وهو الإطار المفترض لتسوية خريطة الطريق الأميركية التي استعيض عنها بخريطة مغايرة ما زالت في طي الغيب والغيبوبة الشارونية، لن تؤثر فيها لا نتائج الانتخابات الفلسطينية، ولا الإسرائيلية في ما بعد، وأخشى ما يخشى ان تتحول الدولة الفلسطينية الموعودة نسخة مماثلة لدولة قرار التقسيم الذي أنجز قيام الدولة الاسرائيلية وتمددها حتى خارج أرض الدولة الفلسطينية التي افترضها القرار باحتلال اسرائيل المزيد من الاراضي في حرب 1967. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، ما زالت الاراضي تتعرض يومياً للقضم، لتصبح في التصور الشاروني ومن سيليه مجرد كانتونات معزولة يحيطها الجدار والمستوطنات والشوارع الالتفافية من كل جانب، بمعنى ان الدولة الفلسطينية، وفي وضع كهذا، ستبقى في نطاق الافتراض، وهي في الحلم الشاروني، وفي الحلم الاسرائيلي عموماً، دولة منزوعة السيادة استناداً الى مبدأ في العقيدة العسكرية ينطلق من محدودية السيادة لكل الاطراف المجاورة للدولة المحورية الاقوى، وهو مبدأ انتهجته الولاياتالمتحدة ايام احتلالها لفيتنام ضد لاووس وكمبوديا، وتنتهجه اليوم كأحد أبرز ما يكون اختراق السيادات الوطنية عبر عولمتها الراهنة. اما الانتخابات الفلسطينية المحكومة بسقف اتفاق أوسلو، فليست اكثر من حال فصامية تعانيها بعض اطراف العملية الانتخابية، لجهة كونها لا تعترف بهذا الاتفاق، على رغم ان كل ما تم منذ عام 1994 وحتى الآن انما يتم تحت سقفه، في وقت تذهب البرامج الانتخابية في اتجاهات اكثر فصامية حين تشتبك فيها مهمات الدولة والثورة من جهة، ومهمات السلطة بمهمات المعارضة، ولا يبقى للتقدم من محدودات سوى تلك التي تتعلق بشهوة حيازة السلطة او جزئيات منها، وهو ما يشكل عماد الشخصنة الفردية، والشخصنة الفصائلية، من نزوعها التفردي لما تعتقده انه الهيمنة على قيادة المجتمع الوطني، وتلك علة العلل التي اصابت العديد من القوى، وتصيب الآن بعض قوى اليسار في ادعائها التوصيف الديموقراطي واحتكاره، وهي تذهب في التقرد والفردانية، حدود رفض التحالفات مع قوى هي الاقرب اليها ومنها فكرياً، والى حل ما سياسياً، وما يعنيه هذا من رفض للتكتيل التوحدي، وبالتالي الاتجاه نحو الخسارة مسبقاً، او على الاقل السحب من رصيد اليسار والقوى الديموقراطية عموماً، والاتاحة في المجال لفوز قوى لم يكن مرغوباً فوزها، او على الأقل زيادة رصيدها، على حساب رصيد لم يعرف اصحابه الطريق للاحتفاظ به. وسط كل هذا، هل يمكن القول ان المشروع الصهيوني بات يشهد واحداً من ابرز اندحاراته، بانكسار الحلم الصهيوني، وأوهامه التوراتية، بمجرد الخروج العسكري من قطاع غزة؟ ام ان هذا الحلم يتغذى الآن بمزيد من الجرعات الاميركية باحتلال العراق؟ وهل ما زال الحلم باقامة دولة ديموقراطية علمانية على ارض فلسطين التاريخية قائماً في الذهن، وفي البرامج السياسية المعلنة والمضمرة لقوى الحركة الوطنية الفلسطينية، ام انه هو الآخر شهد تحولاته الخاصة؟ حتى بات القبول بسلطة جزئية على الارض الفلسطينية يجري التنازع عليها شكلاً من الصراع يجري تغييبه، لمصلحة هذا الشكل الرث من اشكال الوصاية على المجتمع الفلسطيني، ما دام الصراع الجاري الآن والمستمر بات يتحدد على طبيعة التسوية الممكنة، غير الواضحة حتى اللحظة، على رغم ان ارادة الصراع في الجانب الاسرائيلي وادارته اكثر وضوحاً، وذلك محل اجماع معظم القوى الاسرائيلية، فيما إرادة الصراع وإدارته في الجانب الفلسطيني، ونظراً لعوامل دولية واقليمية ومحلية، لم تعد تمتلك الاجماع السابق، وتلك علّة رئيسة من علل باتت تمسك بخناق الوضع الفلسطيني... ولن تستطيع الانتخابات ان تشكل طوق نجاته. كاتب فلسطيني