كسر الفلسطينيون في الانتخابات التشريعية الأخيرة قاعدة اللامبالاة العربية والكسل السياسي العربي، سواء بانتخابهم فريقاً معارضاً، او بالنسبة الكبيرة التي شاركت في التعبير عن انها ليست من القطيع العربي الذي إستمرأ إدمان القاعدة الذهبية"الذي نعرفه احسن من الذي لا نعرفه"، وتفريعاتها فى كل قطر عربي، والتي تجعل التداول السلمي للسلطة محل سخرية وجماهير الناخبين محل رثاء يثير تساؤلاُ دائماً عن أسباب اختيار الناخب العربي نائباً لا يشاركه الحد الأدنى من طموحه. الإنتخابات الفلسطينية أعطت درساً آخر، وهو أن الشعوب العربية لا تتساوى في وعيها السياسي وفي تقديرها لقيمة الإنتخابات في تغيير احوال الشعوب ومصائرها. فى هذه الانتخابات اثبت الفلسطينيون، سلطة وجماهير، نضجاً غير معروف في غالبية الدول العربية. فالسلطة لم تزوّر الانتخابات كما هو سائد في"الديموقراطيات"التي تعرف فيها النتائج سلفاً ولا تساوي ما ينفق عليها، وتكون هي نفسها موسماً للفساد وسوء إستخدام المال العام الذي ينفق من دون رقيب ولا حسيب. ولأن الإنتخابات الفلسطينية تختلف عن شقيقاتها التي يشق عليها إعمال مبادئ الشفافية، فإن الإعلام الغربي لم يشكك في نزاهتها، بل اهتم بها كما لم يهتم بأي إنتخابات عربية أخرى، وهو بذلك يدرك انها تستحق هذا الإهتمام الذي لم يكن العامل الإسرائيلي وحده المحدد له. اذ أن الغرب يرى في الديموقراطية الفلسطينية عاملاً مساعداً يعينه على الإستمرار في جهوده لتحقيق التسوية السياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ناهيك عن فائدتها لنقل رسالة تلقى آذانا صاغية لدى المستمع والمشاهد الغربي عن الديموقراطية فى الدول العربية التي اصبحت جزءاً من سياسته الخارجية ومن اهداف حروبه في المنطقة. فها هو المواطن الغربي يعرف الآن ان هناك ديموقراطية غير منقوصة في جزء من الوطن العربي، ولو كان مذاقها مراً لإسرائيل والولاياتالمتحدة في المقام الأول. الآن كسرت الديموقراطية الفلسطينية الإحتكار الإسرائيلي الذي دام ستة عقود بأن إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في المنطقة. الإهتمام السياسي والاعلامي الغربي لا يحدده العامل السياسي وحده بل حجم المصالح الاقتصادية والتجارية. وعلى سبيل المثال عندما جرت الإنتخابات البرلمانية اليمنية في نيسان إبريل 2003 كان نصيبها من الإهتمام في"بي بي سي"العالمية الإنكليزية أقل من ثلاث دقائق فقط، مع أن عدد الناخبين اليمنيين بلغ ثمانية ملايين ناخب، فيما كان نصيب إنتخابات عربية أخرى من التغطية الإعلامية المتنوعة اكبر بكثير على رغم أن جمهور الناخبين فيها لا يتعدى 137 الفاً من الذكور الأصلاء. وما يميز الديموقراطية الفلسطينية أن الكل مارسها بنزاهة على رغم قصر فترة التجربة ووطأة الإحتلال. فالإنتخابات الفلسطينية خلت من التهم المعتادة في الإنتخابات العربية حول تزييف النتائج لمصلحة الحزب الحاكم ومن الإتهامات بتسخير المال العام لفوزه، كما خلت من التصويت بالجملة الذي يفسد مبدأ صوت واحد لرجل واحد الذي يعبر عن المجتمع العشائري اكثر من تعبيره عن المجتمع العصري. باختصار كانت الإنتخابات الفلسطينية إستثناء للقاعدة العربية التي تتعامل مع الناخب العربي كقاصر غير مدرك لمصالحه الحقيقية، وبالتالي فإن المصلحة الوطنية العليا هي في الوصاية عليه وتزوير إرادته. وخارج فلسطين لم يخف احد بأن هذه الإنتخابات ستكون الأولى والأخيرة وبعدها تشهر"حماس"السيوف إذا فازت لتطبيق الحدود. ومما تبين حتى الآن، فإن"حماس"التي لم تكن تتوقع هذا الإنتصار الساحق إن لم تكن لا تريده في الفترة الحرجة الحالية التي يقل فيها اصدقاؤها بخاصة على الصعيد الدولي، تود إثبات ان السلطة ليست مبتغاها الأول، ولذلك تبحث عن شريك كانت تضع نفسها البديل له وتدين سياساته من اوسلو وحتى خريطة الطريق. وهي تدرك ان التحدي الرئيس امامها هو الخارجي وليس الداخلي، لأن العالم اجمع يتطلع إلى أن تعلن أن ما كانت تقول أنه مرحلي سيصبح هو النهائي. الخيارات أمام"حماس"ضيقة، وخيار السلام اصعب من خيارها لإعادة صوغ المجتمع الفلسطيني وبنائه وفق رؤيتها. وفي الشأن الإستراتيجي الفلسطيني فإننا جميعاً كنا"حماس"قبل ان تولد"حماس"، وفي عالمنا اصبح العمل الوطني مثل الأمور الشخصية التي لا تخص المرء وحده الذي ينبغي عليه مراعاة أذواق الغير وأحكامهم. وهذه مأساة القضية الفلسطينية التي كلها عدل، ولكن بمن ومتى وبما يمكن تحقيق العدالة لها؟ نحن نحيا في ظل نظام دولي يضع العدالة وراء ظهره على رغم تشدقه بما هو أكثر من مضامينها. وبناء عليه فإن من حسن السياسة كما يقول الفقهاء إدراك الممكن من المستحيل وتحديد موقف واقعي من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وستجد"حماس"في الشرعيتين الدولية والعربية ما يسندها. تحتاج"حماس"إلى ان تستفيد من تجربة منظمة التحرير ، فلا تبدأ من حيث بدأت المنظمة، وليس بالضرورة ايضاً ان تبدأ من حيث كل ما قبلته المنظمة. ومن المهم أن يكون قرارها الفلسطيني مستقلاً عن التنظيم الإسلامي العالمي أو أي نظام أو تنظيم اخر خارج فلسطين، فالعالم كله مقتنع بعدالة القضية الفلسطينية وضرورة حلها، وتشاركه في هذه الرؤية غالبية الشعب الإسرائيلي وغالبية الشعب الفلسطيني أيضاً. وعلى الحركة أن تدرك أيضاً أن الحل العسكري للصراع مستحيل وأن عملاً عسكرياً كالانتفاضة لا يستطيع تحرير الأرض وان تجربة"حزب الله"مستحيلة التكرار في فلسطين."حماس"التي في السلطة الآن يتوقع منها ان تكون غير"حماس"الأمس. مطلوب منها أن تسهم في تحقيق السلام لشعبها وللمنطقة والعالم، وان تكون شريكاً وليس مناوئاً للشرعيتين العربية والدولية، وهذا لا يعني أن ليس من حقها أن ترفع سقف مطالبها وأن تصر على عدم التنازل عن شبر واحد من الأراضي التي احتلت عام 1967. فالشرعيتان العربية والدولية تسندها في ذلك، وقرار مجلس الأمن الرقم 242 واضح في نصه على عدم جواز الإستيلاء على اراضي الغير بالقوة، وهذا القرار أحد مرجعيات خريطة الطريق، لذا فإن السقف الفلسطيني هو هذا القرار الذي فصلته مبادرة السلام العربية في بيروت عام 2003 والتي في إمكان"حماس"إخراجها من الموت السريري. ولكي تعزز الحركة شرعيتها وشعبيتها، فإن من الأوليات أن تحرص على إجراء إستفتاء شعبي حول الحل. فإذا ما اختار الشعب رفض الحل السلمي وتحمل تبعات هذا الإختيار، لن تستطيع أقوى قوة على وجه الأرض أن تفرض عليه حلاً لا يرغب فيه. ومع ذلك فإن"حماس"تستطيع إعمال قاعدة دينية كثر ترديدنا لها، وهي اننا امة وسط وأن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. إذاً أليس الإضرار الماحق بإسرائيل كالمطالبة برحيل اليهود عن فلسطين إنتهاكاً لهذه القاعدة الدينية وخروجاً عن مبادئ الإسلام، مع انهم مغتصبون لا ريب في ذلك؟ تنتصب أمام"حماس"مهمات جسيمة هي مسؤولة عنها تاريخياً امام شعبها والعرب والمسلمين وكل المناصرين للقضية الفلسطينية. وبالإضافة إلى موضوع الأراضي المحتلة يعد ملف اللاجئين الأكثر تعقيداً، ولذلك يجب أن يكون مشمولاً بالإستفتاء. هذا الموضوع لا تجدي فيه إلا الحلول الوسط التي يلعب العرب فيها دوراً إيجابياً، وإشراك العرب يعفي الحركة من الإتهام بالتفريط. فمشكلة اللاجئين رباعية الأبعاد وحلها رباعي الأطراف يسهم فيه الفلسطينيون وإسرائيل والعرب والأسرة الدولية، وفي القرار 194 ما يساعد على الحل الوسط شرط ان تكون إسرائيل جزءاً من الحل بشقيه: العودة والتعويض، ولا تبقى فقط جزءاً من المشكلة. إسرائيل والولاياتالمتحدة تبذلان جهوداً لتصفية قضية اللاجئين وتجاوز القرار 194 أو إبطاله، وفي السنوات الأخيرة تغير الموقف الأميركي من هذا القرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وليكن في علم"حماس"أن مشكلة اللاجئين قد تتفاقم وتتعقد لغير مصلحتها، اذ قد يضطر بعض المضيفين إلى تحبيذ مشروع تهجيرهم إلى قارات بعيدة لأن إسرائيل لا تود ان تراهم قريباً منها. وللعرب دور يؤدونه في هذا الخصوص، وهم قادرون عليه وعلى إقناع الولاياتالمتحدة بأن تدرك بأن مشكلة اللاجئين هي مفتاح الحل الطويل المدى القابل للبقاء، وأنه من غير العدل أن تعفى إسرائيل من تبعات النكبة وتهجير الفلسطينيين بالقوة والإستيلاء على وطن كان مرشحاً ليكون من أوائل الأوطان المستقلة، وان يقنعوا النظام الفلسطيني الجديد بان ما لا يدرك كله لا يترك جله. أما الغرب كله فإنه لسوء حظ المنطقة التي تتطلع إلى السلام وإنهاء الصراع فيها لا يزال يعاني من الحول أحياناً والعور في غالب الأحيان. النظام الجديد في رام الله الآن جزء من النظام العربي ومن قراراته، ومنها قبوله بالقرار 242 ومبادرة بيروتواوسلو. ولا يستطيع اي نظام جديد ان يتنصل من التزامات النظام السابق الدولية اذا اراد ان يعامله النظام الدولي كنظام مسؤول. إسرائيل أمام خيارات مرة اكبرها انها لا بد ان تتعامل مع"حماس"، واصغرها انها لا تستطيع ان تطلب من"حماس"السلطة ان تنزع سلاح"حماس"المقاومة أو أن تقوم بتدمير بنيتها التحتية العسكرية، والمنظمة التي كانت منبوذة ستصبح جزءاً لا يتجزأ من الحل، ونقاؤها وعدم تلوثها بالفساد ليس ورقة المرور الوحيدة إلى أدغال السياسة الدولية. پ * كاتب يمني