انعقدت في القاهرة الندوة الثانية عشرة من سلسلة الندوات السنوية التي تعقدها الأممالمتحدة، وقد اختارت القاهرة هذا العام لعل قربها من أطراف الصراع في فلسطين يساعد على البحث عن فرص السلام في الصراع العربي - الإسرائيلي، وعن دور الإعلام في خدمة هذا السلام. ويحضر هذه الندوات عادة مفكرون ورسميون وإعلاميون على مستوى عال من الدول العربية وإسرائيل وأوروبا والولاياتالمتحدة واللجنة الرباعية والاتحاد الروسي. ولعل الإشكالية التي ركزت الندوة عليها هي البحث عن سبل تنفيذ خريطة الطريق، وما إذا كانت خطة شارون بديل عن الخريطة أو أنها جزء منها، وأين نقطة البداية، وكيف يمكن توحيد المفاهيم بالنسبة لكل أطراف الصراع في عملية السلام. وقد أتيح لي أن أكون أحد المتحدثين، حيث تناولت إشكالية السلام والديموقراطية في المنطقة، وقد أثرت في هذا الصدد نقطتين أساسيتين، أولهما تتعلق بالسلام، وثانيهما تتعلق بالصلة بين السلام والديموقراطية. - أولاً: الالتباس في قضية السلام وعملية السلام، فالمعلوم أن مصطلح السلام ليس متفق عليه بين مختلف الأطراف، ولذلك فإن عملية السلام لا معنى لها ما لم نحدد مفهوماً واحداً متفق عليه بين الأطراف. فعندما صدر قرار مجلس الأمن رقم 242 وقعت مغالطات كثيرة وأوهام أكثر حول هذا القرار، وقد ظن العرب أن هذا القرار هو سند الشرعية الدولية، وهو الأداة التنفيذية لانسحاب إسرائيل من أراضيهم المحتلة، ورفضوا التفاوض مع إسرائيل للاتفاق على تنفيذ أحكام هذا القرار على أساس أن القرار واضح بذاته، وأنه يقرر التزامات واضحة لا تحتاج إلى مفاوضات مع طيف ما يعترفون به، بينما أكد شارون في تفسيره لهذا القرار أنه الأداة الرئيسية لتحقيق أمن إسرائيل من خلال المفاهيم الخاصة الإسرائيلية، ورغم ذلك اعتبر القرار الركيزة الأساسية لانطلاق الجهود الرامية إلى تحقيق السلام، وقد فرضت إسرائيل على العالم العربي أن ملف العلاقات العربية - الإسرائيلية يبدأ بهذا القرار، وأن الرجوع إلى قرار التقسيم هو ردة قانونية وسياسية، ودليل على إلتفات العالم العربي إلى الماضي، وعدم رغبتهم في صناعة المستقبل، بل إن اتجاه في العالم العربي ظهر خلال العقود الأربعة الماضية يطالب بإصدار قرار جديد يشير إلى القضية الفلسطينية من الناحية السياسية، وعدم حصرها في القرار على أنها قضية لاجئين، وهذه قراءة قاصرة أخرى من الجانب العربي للقرار. الأدهي من ذلك أنه اعتبار من عام 1982 بدأ العالم العربي في قمة فاس ومع بداية إدارة الرئيس ريغان شاع استخدام اصطلاح الأرض مقابل السلام، وأن هذا القرار يكرس هذه المعادلة، وهذه الصيغة تنطوي أيضاً على خطرين كبيرين، ورغم ذلك ترددها الحكومات العربية والإعلام العربي على أنها أمر مفروغ منه، من دون أن تفكر في مضمون هذه الصيغة حتى تدرك أن المغالطتين والخطرين يتمثلان في أن ديباجة القرار تؤكد على عدم جواز اكتساب أراضي الغير بالقوة، وأنه لذلك أكد القرار على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلت في يوم 5 حزيران يونيو 1967، وإذا كان القرار لم يشر إلى كلمة الأراضي العربية فمن المفهوم أنه لم يتم احتلال أراضي إسرائيلية، ومادام التكليف لإسرائيل بالانسحاب، فإن القرار في ظني واضح في عدم استثناء أي أرض احتلت في ذلك اليوم من انسحاب إسرائيل منها، وليس صحيحاً أن عدم الإشارة إلى أداة التعريف هي الغموض الوحيد في القرار، فإذا كان الاحتلال غير مشروع فإنه لا يجوز أن يدفع العرب ثمن الانسحاب من الأراضي المحتلة بشكل غير مشروع. أما المغالطة الثانية، فهي أن إعادة إسرائيل للأراضي العربية المحتلة يجب أن تكون مكافأتها أن يعطيها العرب السلام، وهذا تأكيد للمقولة الإسرائيلية بأن العرب يهددون إسرائيل، ويحرمونها من الشعور بالأمن والاستقرار، وبذلك يكون معنى السلام في هذه المعادلة هو التأكيد بعدم الاعتداء أو التعرض، وهذه المقولة مردودة لأنه لم يحدث أن هاجم العرب إسرائيل داخل أراضيها، وكان العرب دائماً هم ضحية العدوان الإسرائيلي داخل أراضيهم. وهكذا أصبح السلام عند إسرائيل يعني فرض الرؤيا والمصالح الإسرائيلية على الجانب الفلسطيني، كما أنها لم تعد ترى علاقة بين القضية الفلسطينية وبين العلاقات بين إسرائيل والعرب على أساس أن الصراع العربي - الإسرائيلي قد انتهى، وأن الذي لا يزال مستمراً هو تعثر التسوية بأي شكل بين إسرائيل والفلسطينيين، وكان شارون طرح رؤيته للسلام مع الفلسطينيين على أساس أن القوة هي التي تفرض السلام، والسلام في هذه الحالة يعني الخضوع والسكون سواء كان سكون الأحياء المستسلمين أو سكون المقابر. ومعلوم أن القوة في المشروع الصهيوني وفي الخبرة التاريخية الإسرائيلية هي التي قلمت أظافر العرب وأنيابهم، واضطرتهم إلى السعي إلى السلام مع إسرائيل بيد ذليلة، وهم ليسوا أطرافاً بعد في هذا الصراع، ولا يستطيعون ذلك بعد أن تمكنت إسرائيل من التحالف المطلق مع الولاياتالمتحدة، وفك الارتباط بين العرب والقضية الفلسطينية. وإذا كانت القوة هي جوهر العقيدة الإسرائيلية، وأن الصراع أصبح إسرائيلياً فلسطينياً تنعكس على صفحته مرارة الواقع والميزان المختل بين الطرفين يتضح لنا أي سلام تريده إسرائيل، وأي سلام يريده الفلسطينيون، وما مدى فرص التوفيق بين المفهومين. - ثانياً: الديموقراطية وما يحيط بها من إشكاليات وعلاقاتها بالسلام أصبحت بحاجة إلى بيان، فقد نظر الغرب إلى إسرائيل على أنها نموذج للديموقراطية في صحاري الدكتاتورية العربية، وقد أدعت بعض الكتابات الغربية أن الهدف من إنشاء إسرائيل هو نشر الديموقراطية في العالم العربي، ولذلك فقد تجاوز الغرب عن مغامرات إسرائيل وتجاوزتها على أساس أنها دولة ديموقراطية، كما أثار النموذج الديموقراطي الإسرائيلي أوهام كثيرة في المنطقة العربية، ومقارنات غير دقيقة بين الواقع الإسرائيلي والواقع العربي، بل جرت مقارنات تلقائية في الذهن العربي بين ما يحدث في إسرائيل من مساءلة وشفافية، وبين الفساد والاستبداد المحيط بإسرائيل في المنطقة العربية، مما رسم صورة سلبية للشعوب العربية عند إسرائيل، وكانت هذه الصورة فيما يبدو هي أحد أسباب التي دفعت إسرائيل إلى اغتيال عشرة آلاف أسير مصري، وإلى شعور إسرائيل بالتميز، وبأنها فوق القانون الدولي الذي وضع لتهذيب البرابرة في العالم الثالث. وقد نظرت الأطراف المختلفة إلى قضية الديموقراطية وعلاقاتها بالسلام نظرة مختلفة، وإذا كان السلام عند إسرائيل هو فرض رؤيتها بالقوة على العالم العربي مقابل نظرة العرب في السلام على أنه إعادة الأرض إلى أصحابها، وإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل بموجب اتفاقات سلام لا تراها إسرائيل أكثر من أنها رصاصة ورق، فإن إسرائيل اعتبرت الديموقراطية العربية مقدمة ضرورية للسلام معها، وفسرت إحجام العرب عن مزاعم مطالبات السلام الإسرائيلية على أنه بسبب غياب الديموقراطية، لأن الدول الديموقراطية تتحدث لغة واحدة، وتعتنق مفاهيم مشتركة. أما الديموقراطية الفلسطينية اعتبرتها إسرائيل شرطاً أساسياً للسلام مع الفلسطينيين، ورغم أن عرفات انتخب انتخاباً ديموقراطياً صحيحاً إلا أن الصفة الديموقراطية للزعيم الفلسطيني لا تحددها طريقة انتخابه وفق النظرية الإسرائيلية، وإنما سلوك الزعيم الفلسطيني بما يتفق مع هوى إسرائيل. وطوال العقود الأربعة الأخيرة لم تكن الولاياتالمتحدة تهتم كثيراً بالرؤية الإسرائيلية ربما لأن الولاياتالمتحدة كانت تعني بالنظم التي تخدم مصالحها وليس بالضرورة أن تكون ديموقراطية، بل إن النظم غير الديموقراطية كانت أكثر قدرة على خدمة الأهداف الأميركية، حيث لم يكن للشعوب دور في قراراتها. غير أن الولاياتالمتحدة بدأت مؤخراً تربط بين السلام والديموقراطية على أساس أن الديموقراطية هي التي ترسي قيم السلام وقبول الآخر ومنع التطرف وامتصاص الاحتقان المترتب على المناخ الدكتاتوري. وقد دخلت الولاياتالمتحدة إلى السلام من المدخل الديموقراطي، وهي أصلاً تحاول أن تجعل الديموقراطية طريقاً إلى مكافحة الإرهاب، ما دام أحد أهم أسباب الإرهاب هو الكبت السياسي والظلم الاجتماعي، ولذلك لا تزال هناك مسافة بين النظرة الإسرائيلية والنظرة الأميركية إلى أهمية الديموقراطية، ولكن واشنطن تلتقي مع إسرائيل فيما تسميه إصلاح المؤسسات في فلسطين، وتعني بذلك أن الديموقراطية ليس مدخلاً إلى السلام، ولا تهذيباً لقوى التطرف فقط، وإنما أصبحت الديموقراطية عندهما شرطاً يجب أن يستوفيه الجانب الفلسطيني إذا كان يطمح في مجرد الإلتقاء بالإسرائيليين، ناهيك عن بحث شروط السلام والتسوية معهم. أما الجانب العربي، فقد فوجئ بتركيز الولاياتالمتحدة على قضية الديموقراطية في الفترة الأخيرة، واعتبارها الهدف الأول في السياسات الخارجية في المنطقة، ولكنها لم تربط بين الديموقراطية والسلام، بل إن الجانب العربي هو الذي ربط بين الاثنين، ويمكن القول إجمالاً أن الحكومات العربية نظرت إلى صور العلاقة بين الديموقراطية والسلام في فلسطين من زوايا متعددة. الزاوية الأولى، أن الأخذ بالديموقراطية يجب أن يسبقه أولاً تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي، ويقوم المنطق العربي لهذا الشأن على أساس أن الديموقراطية هي انتقاص من سلطات الحاكم، ولكي يضحي بذلك فإنه يشترط على الولاياتالمتحدة أن تسوي الصراع في فلسطين، ولم تشترط القمة العربية في الجزائر شكلاً معيناً للتسوية، لكنها شددت على أنه لا ديموقراطية بلا تسوية. أما الزاوية الثانية في علاقة السلام بالديموقراطية، فهي أن الصراع مع إسرائيل جعل الديموقراطية طرفاً لا تحتمله الظروف مادامت الموارد مخصصة كلها لهذا الصراع، ولما احتلت الأراضي العربية في عام 1967 ظهر عذر جديد، وهو أن تحرير الأراضي العربية مقدم على الديموقراطية، ويلاحظ أن الحكومات العربية نظرت من هذه الزاوية إلى العلاقة بين السلام والديموقراطية على أساس أن لديها الخيار بين أولوية الصراع أو الديموقراطية، فاختارت أولوية الصراع لسبب واحد، وهو أن الصراع يؤدي إلى الإلتفاف حول الحاكم مهما كان مستبداً، لأن القضية تتعلق بسلامة الأمة أكثر من تعلقها بتوزيع العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي صيغة مريحة تماماً للحكومات العربية، بل تستطيع بعض الشخصيات أن تحقق فيها بعض البطولات الوهمية، ولم يتساءل أحد لماذا لم تتحول مصر إلى الديموقراطية بعد أن فقدت الخيار الثاني وهزمت أمام إسرائيل؟ هذا السؤال لم يطرح حتى الآن بسبب الغوغائية في التفكير والعمومية في التناول، وعدم تدريب العقل العربي على التدقيق والتعمق، مما سمح للرئيس عبد الناصر أن يكسب شعبية جديدة حتى رغم هزيمته برفعه شعار"لا صوت يعلو على صوت المعركة"وكان جديراً به أن يفكر جدياً في مدى وجاهة هذا الشعار، فالتف الناس من حوله، واعتبره ضحية"الامبريالية"العالمية و"ربيبتها"إسرائيل. أما الزاوية الثالثة، فهي التي رأت فيها الحكومات العربية أن تسوية الصراع في فلسطين سوف يؤدي إلى المطالبات الديموقراطية، لأن المطالبة الديموقراطية من جانب الشعوب لم تعد واضحة قبل أن تعلن الولاياتالمتحدة أن هدفها الأول في المنطقة هو نشر الديموقراطية في المنطقة، رغم أن الحكومات لا تكترس برغبات هذه الشعوب، ولذلك فإن ربطها بين السلام في فلسطين وبين إدخال الديموقراطية يبدو وكأنه اشتراط صعب التحقيق، لأنها تعلم أن السلام في فلسطين سيكون سلام إسرائيلي بحكم أوضاع القوة على النحو الذي قدمنا في صدر هذا المقال، وهذا يذكرنا اشتراط صدام حسين عندما غزا الكويت أن تنسحب إسرائيل من كل فلسطين، أي أن تزول إسرائيل حتى يوافق على الانسحاب من الكويت، وهو يعلم أنه شرط مستحيل ولكنه في انتظار تحقيقه، وغير متصور أنه يستطيع أن يماطل في الانسحاب. وقد خالصنا في نهاية هذا التحويل إلى أنه مادام مفهوم السلام غير متفق عليه بين الأطراف، فإننا لا نرى علاقة حتمية بين التسوية في فلسطين وبين الديموقراطية في العالم العربي، وإن كان إنشاء الديموقراطية الحقيقية سيؤدي إلى صراع أكيد بين دول عربية قوية وبين إسرائيل، ولذلك فليس من مصلحة إسرائيل أو الولاياتالمتحدة أن تصبح الدول العربية دول ديموقراطية. كاتب مصري.