فوز حركة المقاومة الاسلامية"حماس"في الانتخابات قلص نفوذها ونفوذ حلفاء لها مثل ايران، وضاعف صلاحيات ووزن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وحشر اسرائيل في زاوية الاختيار بين الحل التفاوضي وبين التهرب منه بمختلف الذرائع. بين ما فرزته هذه الانتخابات مدى دفن الادارة الاميركية لرأسها في الرمال ومدى غباء السياسة الاميركية نحو اسرائيل بحمايتها من استحقاقات المفاوضات والسلام. كل هذا قد يتغير الآن. ففوز حماس بالانتخابات قد يؤدي الى اجبار اسرائيل على التفاوض بصدق نحو قيام دولتين انما ليس مع"حماس"بل مع عباس، شرط ألا تسحب واشنطن البساط من تحت أقدام الرئيس الفلسطيني. فالمطلوب الآن مبادرات عدة على أصعدة عدة وبالتوازي بين تمكين عباس من انتزاع مفاوضات جدية من اسرائيل، وبين دفع حماس واسرائيل على طريق الاعتراف المتبادل. تركيا لديها أفكار وكذلك باكستان. السعودية لديها أدوات التأثير السياسي والاقتصادي. ومن الضروري الاستفادة من الاسابيع والأشهر المقبلة لصياغة استراتيجيات خلاقة غير معتادة. ما يتحكم بالعلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين السلطة الفلسطينية هو اتفاقات اوسلو التي ترفضها حركة"حماس". وحسب أحد مهندسي"اوسلو"المبعوث السابق للامين العام للامم المتحدة الى عملية السلام، تيري رود لارسن ان صنع السياسة الخارجية بموجب"أوسلو"يقع"في ايادي منظمة التحرير الفلسطينية وليس عائداً الى السلطة الفلسطينية". هذا يعني ان محمود عباس الذي يترأس منظمة التحرير الفلسطينية"تبقى له صلاحيات التفاوض والديبلوماسية وتوقيع الاتفاقات والمعاهدات إذا شاء". أما الحكومة التي قد تكون ل"حماس"السيطرة عليها"فواجباتها هي ادارة الشؤون اليومية مثل تأمين الكهرباء والماء"، حسب رود لارسن"وبما ان اسرائيل هي التي تسيطر على موارد الكهرباء والماء فإنها تمتلك أدوات قوية نحو حماس"في الحكومة. بمعنى أنه قد لا يكون امام حماس سوى خيار التفاوض مع السلطات الاسرائيلية إذا أرادت ان تؤمن للشعب الفلسطيني أدنى الاحتياجات. بكلام آخر"انه انتصار بيروس"حسب رود لارسن في اشارة الى القائد الروماني الذي حشره انتصاره في الزاوية،"ذلك ان حماس بنت هويتها على رفض اتفاقات اوسلو وهياكلها، والأن ها هي مكبلة بهياكل اوسلو وباتفاقات اوسلو". وحسب رود لارسن فإن حماس"غير قادرة على تغييرها لأن تغيير هذه الاتفاقات في البرلمان يتطلب اكثرية الثلثين". وبالتالي تبقى اوسلو ملزمة. محمود عباس الذي كان طرفاً أساسياً في اتفاقات اوسلو السرية عام 1993 اصبح الآن، بفوز حماس بالانتخابات، أقوى من"السلطة الفلسطينية الموقتة"الى حين قيام"الدولة الفلسطينية". أقوى لأنه الرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية التي فاوضت على اتفاقات اوسلو. أقوى لأنه الرجل الذي يحتاجه الجميع في هذا المنعطف. حماس لم تخف حاجتها الى عباس. اسرائيل في اشد الحاجة اليه ايضاً لأن استقالته الآن ستخلق معمعة. الادارة الاميركية تحتاجه سياسياً والاتحاد الأوروبي يحتاجه من أجل تحويل الأموال الى الشعب الفلسطيني عبره مباشرة، وليس عبر حماس، كوسيلة من وسائل التغلب على عقدة تحويل الأموال الى حكومة حماس التي تعتبرها الولاياتالمتحدة وأوروبا"حركة ارهابية". ثم ان محمود عباس ما زال القائد الأعلى للقوات الفلسطينية المسلحة على رغم احتجاجه على احتفاظ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بهذا الملف وإدخال تعديلات تسمح له بصفته رئيس حكومة، حينذاك، بقيادة القوات المسلحة. فحسب رود لارسن الذي قام بهندسة بعض التعديلات على اوسلو وليس بالمشاركة في هندسة اوسلو نفسها،"ان القانون الاساسي، على رغم التعديلات، هو ان الرئيس يبقى القائد الأعلى للقوات المسلحة". بما ان"اوسلو"هي التي انشأت"السلطة الفلسطينية الموقتة"، وبما أن حماس رسمت هويتها على اساس معارضتها اتفاقات اوسلو، من البديهي القول ان فوز حماس بالانتخابات يفرض عليها اختيار هوية جديدة. عندما كانت حماس حركة معارضة كان سهلاً عليها انتقاء هوية التصعيد بلا محاسبة. جاء به فوزها الكاسح بالانتخابات هو انه وضعها في الخط الأول من المحاسبة. هذا الفوز يضعف"حماس"لأنه يسحب منها أدوات مهمة في فن المناورة. فالاضواء المسلطة عليها تكشف اماكن ضعفها الاقتصادي والسياسي والعسكري. هذا الفوز يشبه اللعنة على حماس، حسب بعض أقطابها، لكنه قد يكون خشبة الخلاص لهذه المنظمة وللمسيرة الفلسطينية، إذا لعبت دول مسلمة مهمة الأوراق بذكاء ودقة وقامت بمبادرات خلاقة واثرت في اسرائيل والادارة الاميركية. قد يكون فوز حماس في الانتخابات الوسيلة المتاحة لتحولها من مقاومة مسلحة الى مقاومة مدنية ضد الاحتلال الاسرائيلي. عليها الآن ان تحسم بين كونها انتفاضة ضد السلطة الفلسطينية أو جزءاً من السلطة الفلسطينية بشراكة مع محمود عباس ومنظمة التحرير الفلسطينية من أجل اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. حقيقة الأمر ان لا مجال أمام حماس سوى الشراكة وبهوية جديدة تجعلها تلتحق بالتيار العربي الرسمي العام الملتزم بموقف قيام الدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967 الى جانب دولة اسرائيل. فالمعارضة باتت قناة حذف"حماس"من المعادلة بعد فوزها في الانتخابات، وليس أمامها سوى الشراكة والائتلاف. حتى اللجوء الى ايران للمعونات لم يعد خياراً ل"حماس"أو لطهران بعد الفوز بالانتخابات لأن هذا الفوز ليس مكسباً لطهران وانما يسبب احراجاً لها. فلا مخرج ولا إخراج أمام طهران بعدما دخلت حماس السلطة وباتت جزءاً من الحكومة. ولكن، من جهة أخرى، قد يكون هذا التطور ملائماً لطهران إذا اختارت"المقايضة"أثناء مفاوضاتها مع أوروبا، وعبرها مع الولاياتالمتحدة بحيث تتخلى عن"أوراق"سورية و"حزب الله"و"حماس"مقابل حصولها على تنازلات في القطاع النووي. فوائد التبادلية و"المقايضة"مع ايران مهمة كجزء في اطار ما يسمى ب"تحالفاتها"الاقليمية رغم ان تغيير"التحالف"يطبق على"حزب الله"فقط وليس الأقطاب الاقليمية الأخرى. الإدارة الاميركية تغش نفسها إذا تمسكت برفض الجلوس على الطاولة نفسها مع ايران للتفاوض. وقد حان الوقت لهذه الإدارة لأن تفكر بترابط المسائل الاقليمية عند صياغتها السياسة الاميركية نحو القضايا المتعددة. عليها الكف عن النظر الى كل المسائل من منظور اسرائيل فقط، فالفرص متاحة لتغيير جذري في المعادلات في المنطقة بما يؤدي الى حل قضايا معلقة بعدل، وهذا يتطلب إدراك واشنطن وبريطانيا والدول الأوروبية الأخرى ضرورة الاستثمار في الفرصة المواتية ليس فقط لتغيير جذري في هوية"حماس"وانما ايضاً لكسر"تحالفات"ايران الاقليمية. وهذا يتطلب شراء الوقت ديبلوماسياً، وليس عسكرياً، مع ايران. يتطلب دفع اسرائيل الى الالتزام بالتفاوض مع محمود عباس بجدية والالتزام الفعلي ب"خريطة الطريق"التي تبنتها اللجنة"الرباعية"المؤلفة من الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي والأمم المتحدة وروسيا. على"الرباعية"الكف عن تحويل نفسها الى لجنة اعتذارية عن اسرائيل باسم أولوية تجريد"حماس"من السلاح. فاسرائيل لم تنفذ التزاماتها بموجب"خريطة الطريق"التي تتجنبها وهي فرضت الحلول الأحادية البديلة القائمة على الفصل وليس على تعايش الدولتين. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعتبر ان تجميد المساعدات الدولية للشعب الفلسطيني"أمر خاطئ في كل الظروف"فيما كان وزير خارجيته سيرغي لافروف يشارك في اجتماعات لندن حيث ربطت"الرباعية"المساعدات بشروط على حركة"حماس". الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر الذي اشرف على الانتخابات الفلسطينية قال ان"الأزمة الكبرى المقبلة ستكون حول ما إذا ستسمح اسرائيل للنواب ان يشكلوا حكومة". واوضح:"الحكومة الاسرائيلية لا تسمح لهم بعبور نقطة تفتيش رغم انتخابهم ولا يستطيعون العبور من غزة للضفة الغربية وبالعكس". وتساءل:"كيف لهم تشكيل حكومة بهذه الظروف". الأهم هو ما لفت اليه كارتر من أن المفاوضات اساساً غير موجودة الآن، ومع انتخاب أبو مازن محمود عباس كان الأمل بأن يستعد الاسرائيليون للتفاوض،"لكنهم لم يكونوا، ولا أرى أي فرصة للمفاوضات حتى وان كانت فتح قد فازت بالانتخابات. فاسرائيل لا تريد ذلك الآن". يجب على الإدارة الاميركية وعلى"الرباعية"الاستماع جيداً الى جيمي كارتر لأنه يتحدث بصدق ونزاهة ومن دونهما لا مجال لإنقاذ عملية السلام. وفي وسع المملكة العربية السعودية ان تلعب دوراً مع"حماس"لمساعدتها على التحول من حركة الى حكومة، سيما وان حاجة"حماس"الى أموال عربية حاجة ماسة انما ليس في وسع الدول العربية تقديم تلك المساعدة إذا بقيت"حماس"- الحكومة على نفس هويتها ك"حماس"- الحركة. أفضل سبل هذا التحول هو في قيام السعودية بتجديد وطرح المبادرة السعودية الصادرة عن قمة بيروت والعمل على التزام"حماس"بها. مبادرة رئيس وزراء تركيا، رجب طيب أردوغان، التي كشف عنها أثناء"المنتدى الاقتصادي العالمي"في دافوس، مبادرة تستحق الدعم والتشجيع من طرف"الرباعية"والادارة الاميركية. فهو قال انه بحث والرئيس الباكستاني برويز مشرف في مبادرة مشتركة، يكون لمنظمة المؤتمر الاسلامي دور فيها، تنطوي على قيام تركيا وربما باكستان معها بدور"الوسيط"على اساس"التبادلية"بين اسرائيل و"حماس"، بحيث تكف"حماس"عن عدم الاعتراف باسرائيل وتكف اسرائيل عن عدم الاعتراف ب"حماس"في الحكومة. مشرف قال ايضاً في دافوس انه في حال تخلي"حماس"عن"اسلوب المواجهة واستبداله باسلوب التوافق"عندئذ"يجب ان تقبل بهم الولاياتالمتحدة. فالشعب هو الذي انتخبهم، وهذا هو مطلب الديموقراطية في نهاية المطاف". هذه المبادرة وغيرها من الافكار تتطلب التزاماً أميركياً بدفع فعلي بعملية السلام والمفاوضات الى الأمام. فلا يمكن لمحمود عباس ان ينجح إذا حجبت"الرباعية"عن اسرائيل الضغوط الضرورية ومارست الضغوط فقط على الفلسطينيين. هذا الاسلوب فشل بأكثر من صورة وأكثر من مرة ويجب التخلي عنه لأن الفرصة متاحة لضرب أكثر من عصفور بحجر.