عمر سوسا موسيقي كوبي... هو ربّما أبرز الورثة الشرعيين لجماعة"بوينا فيستا"التي خلّدها فيم فندرز وراي كودير في فيلم شهير بالاسم نفسه. كومباي سوغندو نفسه اعتبره الوحيد القادر على تحقيق اجماع الجمهور. وهو أيضاً هديّة كريم غطّاس الى الجمهور اللبناني! هذا الفنّان الأسمر البشرة، العالميّ الشهرة منذ سنوات عدّة من طوكيو الى نيويورك مروراً بأمستردام، من دون أن ننسى موطئ قدمه الثابت في برشلونة جاء أخيراً إلى بيروت، حاملاً معه أنغام الجاز الأفرو- كوبي، ضمن إطار تظاهرة"ميوزيكهولوجي"التي تقدم برنامجاً خاصاً بموسيقى الجاز في صالة"ميوزيكهول"البيروتيّة. هذه المبادرة يقف وراءها كريم غطّاس الذي نظّم حتّى الآن موسمين صيفيين لموسيقى الجاز ضمن"مهرجانات الزوق"في لبنان، Libanjazz... وقد شعر منذ أشهر، بحاجة ماسة الى الاقتراب من قلب العاصمة، والى خلق تقاليد تتواصل طوال السنة، خارج صخب الصيف ومهرجاناته... يواصل كريم غطاس رهانه إذاً، من خلال برنامج"شتائي"للجاز، بالاشتراك مع صالة"ميزيكهول"ألفترياديس. وقد توصّل الى برمجة تشمل أسماء مهمّة، مميّزة، في طريقها الى التكريس عالمياً، آخر نزعات هذه الموسيقى في تحوّلاتها وتأثراتها الإثنيّة والثقافيّة المختلفة، من خلال ما يعرف بال"وورلد جاز"World Jazz. وطموح غطاس هو"انفتاح البرمجة على جمهور واسع خارج دائرة النخبة، من دون تقديم تنازلات على مستوى النوعيّة التي يتطلّبها جهور الجاز الحقيقي". وتعطي الحفلة الأولى التي احتضنتها بيروت قبل يومين، فكرة واضحة عن مشروعه وطموحاته. استضاف كريم غطاس ليلتها المغنية الفرنسيّة البينينيّة مينة أغوسي. تلك الفنّانة التي تكتفي بآلتين: كونترباص ودرامز، تتعامل مع صوتها بصفته آلة قائمة بذاتها. تجمع بين ديوك إلنغتون وجيمي هندريكس. كتبت عنها صحيفة بريطانيّة يوماً:"لنتصوّر جانيس جوبلين تعيد تقديم كلاسيكيات الجاز... تكون النتيجة اداء مينة أغوسي!". منذ مطلع العقد ارتبطت أغوسي بشراكة فنية مع أرسي شيب، أحد كبار الجاز. وهي سبق أن فتنت الجمهور اللبناني في مهرجانات الزوق"الصيف الماضي... تعود هنا لتخاطبه وتثير الحماسة في الصالة. تكاد تكتفي بنفسها وبطاقتها، حين يتركها الجمهور الى اهتماماته الاجتماعيّة، فتواصل بالزخم نفسه، وبتلاوين وتنويعات صوتيّة استثنائيّة فذّة تخاطب المشاهدين، ترغمهم على التفاعل ثم تتركهم بين يدي عمر سوسا الذي يتطلّب التواصل معه كثيراً من التفرّغ الشعوري والحسّي والنفسي. وعازف البيانو الكوبي عمر سوسا يعتبر وجوده في بيروت حدثاً ثقافياً قائماً بذاته. يصعد الى الخشبة بالشموع والبخور، في طقس روحاني غامض يتطلّب الاندماج والتحليق... اسمه عمر على اسم عمر الشريف هكذا قال له، قبل أن يرحل، والده الذي أحب فيلم"دكتور جيفاكو". أحد أجداده كان عربياً، وكان مشهوراً بمواويله التي لا يفهمها أحد. كان مخيراً بين أن يصبح رياضياً أو راقصاً تقليدياً أو موسيقياً... فقال له عمّه :"إصغ الى أصوات الذين رحلوا، حاول ان تلتقط طاقة الاجداد، وحوّلها الى موسيقى". وهكذا كان. حين يجلس عمر سوسا الى البيانو، وينقر نقراته الأولى، نلمس تلك الشحنة التأمّلية الميتافيزيقيّة التي تقرّبه من أسلاف مثل غوردجييف وآخرين، والبعد الروحاني لبحثه الدائم عن الطاقة الكونيّة في الانسان، يستند الى فلسفة بسيطة:"كل يوم هو الأوّل والأخير، لا بد لي من أن أعيشه حتّى الثمالة". يؤلّف عمر سوسا ويعزف مثلما يعيش... بكثافة اللحظة، بحثاً عن الطاقة حوله. يعزف حتّى"النشوة". ذات يوم رافقه على العود الموسيقي والعازف التونسي ظافر يوسف المعروف بمشاغله الصوفيّة فاعتبر أنّها أجمل حفلة أحياها في حياته الفنيّة. لكن أصوات الذين رحلوا يتطلّب الاصغاء إليها كثيراً من الصمت والتركيز والخشوع. وجمهور ال"ميزيكهول"في معظمه ليس جمهور الجاز الذي يتطابق مع أذواق مهرجان"ليبان جاز"وتطلّعاته. إنّه جمهور طوني حنّا والفترياديس وفنّانيه، يأتي للهيصة والرقص وپ"الهوبرة"والتفريغ والتبجّح وتصنّع الفرح إنّه"مرض العصر"في ليالي بيروت اليوم: لا يهمّ أن نتمتّع فعلاً، يكفي أن نتظاهر بذلك!. ولعلّها نقطة الضعف الكبرى في برنامج كريم غطّاس الذي سيضطر الى اعادة النظر بجمهوره، كي يستمرّ في تحقيق مشروعه الطموح. عمر سوسا نفسه وقف قبل نهاية الحفلة يعاتب الجمهور على عدم تفاعله واصغائه... وأضاف:"للقلّة المهتمّة، سأواصل العزف بعض الوقت". المواعيد المقبلة في بيروت مع ال"ورلد جاز"مغرية ومثيرة. الحفلة المقبلة يحييها عازف الفلوت الفرنسي - الكاراييبي مالك مزّادري وضيوفه ساكسوفون، بيانو، كونترباص وايقاع يوم 13 نيسان ابريل... ولعلّ المنظمين لم ينتبهوا الى البعد الرمزي لهذا التاريخ في لبنان انطلاق الحرب الاهليّة. ثم يأتي دور عازف البيانو الصربي بوزان ذو الفقار باسيك الذي حاز العام الماضي جائزة"يوروبيان جاز"المرموقة، ويعتبر اليوم أحد أكبر اسماء الجاز الأوروبي. ويشاركه في الأمسية نفسها 20 أيلول/ سبتمبر عازف السكسوفون جوليان لوارو الذي يمزج بين الايقاعات الكوبية والريغي والبلوز والموسيقى الالكترونيّة.