اجتذب التصور الألماني للأمة، الذي يقوم على الثقافة والعرق، مثقفين عربا مشارقة، وصبغ فكرتهم عن الأمة العربية. وحول هذا التصور الماهوي تكونت الحركة القومية العربية بين الحربين، وصارت حركة صاعدة بعد الحرب العالمية الثانية، قبل أن تدفعها هزيمة حزيران يونيو 1967 في منحدر يبدو بلا قعر. أهم من استعارة هذا المفهوم من الألمان، كان ثمة تقارب في شروط العرب التاريخية في النصف الأول من القرن العشرين حيث تكون وعي ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق، وشروط الألمان في مطلع القرن ال 19 حين ألف وولفغانغ فيخته رسائله الموجهة للأمة الألمانية، وبالخصوص تدني مستوى الرأسمالية والبرجزة، وضعف الطبقة الوسطى والعناصر الليبرالية في الثقافة، وهيمنة قيم المكانة الموروثة على قيم الاكتساب والإنجاز. ويتعارض المفهوم الماهوي للأمة، المشترك بين العرب والألمان، مع المفهوم الفرنسي التعاقدي، والذي يتلخص في قولة أرنست رينان إن الأمة استفتاء يومي. على أن تصور الفرنسيين للعلمانية هو الذي فاز بأفئدة نخب سياسية وثقافية مشرقية حديثة. وهو تصور نضالي، موسوس حيال أي شكل لتدخل الدين في الحياة العامة، وليس في الدولة فقط. وهو يتعارض مع نماذج أخرى للعلمانية أقل تمامية وأكثر مرونة، عرفتها البلدان الأنكلوساكسونية. ويشكل هذا التصور قلبا تاما وبسيطا للنظرية الإسلامية السياسية المعاصرة التي توحد الدين والدولة. وبينما يهمل التصور الإسلامي هذا وقائع التعدد الديني والمذهبي والفكري في المجتمعات المعاصرة ذات الأكثرية المسلمة، فإن التصور العلماني المتشدد، العلمانوي، لا يشعر بضرورة مراجعة ذاته في مجتمع متدين ودينه ذو طابع اجتماعي قوي. كذلك فتنت الاشتراكية الروسية، في صيغة الشيوعية السوفياتية، أكثر من جيل من المثقفين والنشطاء المشارقة والعرب. كان الاستيلاء على سلطة الدولة وتأميم وسائل الإنتاج على يد حزب شيوعي ثوري متشدد هو البرنامج المعياري للشيوعيين العرب، حتى نهاية الستينات على الأقل. أما تنويعات الاشتراكية العربية، الناصرية منها والبعثية، فقد استندت إلى النموذج الاجتماعي السوفياتي، حتى حين كانت معادية للشيوعية إيديولوجياً. ويمنح النموذج هذا دورا لا منافس له للنخبة العقيدية السياسية المستولية على السلطة، ويترك للمجتمع المحكوم دور الورقة البيضاء ماو، عن الصين التي تكتب عليها"الطليعة الثورية"ما تميله عليها"قوانين التاريخ الموضوعية"، من أن"الاشتراكية هي الحل". يتعلق الأمر بتأثر وتفاعل، هنا أيضا، لكن شروط التخلف والحاجة إلى"اللحاق"بركب التقدم، المشتركة بين روس مطلع القرن العشرين وعرب ما بعد نزع الاستعمار، تفسر التأثر ذاته. وبعد انتهاء الحرب الباردة، وبالخصوص في السنوات التالية لهجمات 11 أيلول سبتمبر 2001، تظهر قطاعات من مثقفي المشرق وناشطيه افتتانا كبيرا وغير نقدي بالليبرالية المناضلة من النموذج الأميركي، لا يختلف في شيء عن الافتتان السابق بالشيوعية السوفياتية. وغير قليل عدد من تحولوا من هذه إلى تلك، غير متخلين عن النزعة النضالية ذاتها. تبدو الليبرالية هذه علاجا للاشتراكية الدولانية في طور تفسخها من جهة، ولما يفترض انه استشراء الأصولية الإسلامية من جهة أخرى. وكما كانت"الاشتراكية"عقيدة تركيز السلطة بيد مثقفين وعسكر شعبويين، فإن الليبرالية، وفي صيغة الليبرالية الجديدة بالأخص المعادية لشبكات الحماية الاجتماعية والمتحمسة لبرنامج"وفاق واشنطن"، تبدو مرشحة لأن تكون عقيدة الفئات التي أثرت من العهود الشعبوية، وتستفيد اليوم من انهيارها الاقتصادي ومن قمعيتها كي تحتل الموقع الأفضل في اقتصاد وسلطة العهد ما بعد الشعبوي. لكن الأشيع، في الواقع، هو ما قد نسيمه الليبرالية الرثة، وهي عقيدة متعصبة لمجموعات معزولة، منشغلة بمواجهة"الأصولية المتعصبة". والتنويعة الثالثة لليبرالية نجدها لدى أفراد لا يخفون استعدادهم للاندراج في الخطط الأميركية، وربما صيد المال الأميركي، والبحث عن أدورا سياسية في بلدانهم تحت المظلة الأميركية. باختصار، تعد الليبرالية الهجومية في زمن ما بعد الحرب الباردة ببرنامج"ثوري"، لم تعد الشيوعية قادرة على الوعد به: تغيير اجتماعي وثقافي وجيوسياسي عميق. وبالمجمل، يبدو أن النخب المشرقية أخذت من الغرب الأشياء الأقل ملاءمة. ومن أجل أن نفهم هذا الواقع يتعين أن ندرس نشأة النخب الحديثة في مجتمعات المشرق، وتكوينها، وسير ونظام عملية التحديث الاجتماعي والسياسي والفكري. على أننا نكتفي في هذا المقام بعنصر تفسيري واحد هو الحاجات الاعتقادية للنخبة الحديثة، أعني مطالبها الفكرية والمعنوية المتصلة بوعيها لذاتها، ومستلزمات تميزها الاجتماعي ووحدتها، فضلا عن إشباع اقتناعها بتولي رسالة عمومية تموّه عليها وعلى غيرها مطالبها هذه. تتميز الحاجات الاعتقادية للنخب باستقلال مزدوج: من جهة أولى، عمّا قد يوصف بأنه حاجات اجتماعية موضوعية يمكن أن يوضحها البحث العلمي والنقاش العام المفتوح"ومن جهة ثانية، عن المضامين النوعية للمذاهب ونظم الفكر التي قد تروي تلك الحاجات. والاستقلال هذا يفسر أننا قد نتحول من واحدة إلى أخرى، من الشيوعية إلى العلمانية المحاربة، أو من القومية والشيوعية إلى الليبرالية المناضلة، دون أن نمر أبدا بصراع روحي ومرحلة من الحيرة والشك، ودون احتياز للحس الإشكالي. فالمهم هو تلبية المذاهب تلك لمطالب التماسك وتعريف الذات الفردية والجماعية، وليس دعاويها ومفاهيمها ومبادئها الخاصة. المهم، بعبارة أخرى، وظائفها التعبوية البانية للهوية، وليس وظائفها البرنامجية والنظرية. يفسر الاستقلال ذاك أيضا جاذبية كل من القومية الماهوية والعلمانية المناضلة والشيوعية المحاربة والليبرالية الثورية. فهي أجود تأهيلا من نقائضها لإشباع المطالب والحاجات الاعتقادية، أكثر مما يعد به مفهوم تعاقدي للأمة، وتصور معتدل للعلمانية، وبرنامج اشتراكي إصلاحي، وليبرالية مستنيرة. والراجح في تقديرنا أن الحاجة الاعتقادية للنخب تتضخم بقدر ما تضمر فاعليتها الاجتماعية وإبداعيتها الثقافية وطاقتها على التجديد الفكري. فالنخب النشطة تستوطن، بل تستبطن، عالما قائما برأسه، لا دستور له، توفره لها عقائدها، بقدر ما تتعذر عليها الإقامة والفعل في العالم المشترك. ولا ريب أن العكس صحيح. فحيث تتسع فرص التأثير في هذا العالم، تتراجع الحاجات الاعتقادية الذاتية، أو تجد إشباعها في معرفة الواقع والتفاعل معه والفعل فيه. ولعل ثبات ارتفاع الطلب على الاعتقاد يفسر ندرة انتقالنا، أعني المثقفين المشرقيين، والعرب عموما، من دائرة الاعتقاد إلى دائرة المعرفة والاجتهاد والتحليل المتجدد. إننا ننتقل من اعتقاد إلى اعتقاد، أو نحافظ على"مبادئنا"فنبقى في دائرة الاعتقاد ذاتها. بعضنا مبدئيون، ومن هم غير مبدئيين بيننا، هم، في الغالب، أتباع مبدأ آخر، وليسوا نقاد مبادئ أو منتجي مبادئ. ولا يزال يصح القول إن المثقفين النقديين محدودو العدد والفاعلية في البلاد العربية. وهم عرضة على الدوام لضغوط"أصحاب المبادئ"وأصحاب السلطة. لقد أخفقت القومية الألمانية والاشتراكية الروسية، وينبغي ألا نهدر نصف قرن آخر حتى تبرهن العلمانية الفرنسية والليبرالية الأميركية على إخفاقهما. لكننا لا ندعو إلى استعارة القومية من فرنسا، والعلمانية من بريطانيا، والاشتراكية من السويد، والليبرالية من سويسرا. ما ندعو إليه بالأحرى هو العمل على قلب نظام حداثتنا الفكرية: من أولوية المفهوم على الفهم، والمعقول على المحسوس، إلى العكس: تحرير الفهم من الاعتقاد ونظم الفكر الجاهزة، ومقاومة دكتاتورية المعقول لنعيد اكتشاف المحسوس واعتبار الحواس.