يتفحص كتاب «في النخبة والشعب»، الصادر عن دار بترا الدمشقية، عدة أفكار. وهو حوار بين لؤي حسين وبرهان غليون يعكس مواقع الطرفين الأولية، كما يعكس مواقعهما من فهم الديموقراطية والعلمانية وسواهما من مفاهيم السياسة المعاصرة. وأهم أفكار الكتاب أنّ النخبة العربية توالت من سقوط إلى آخر، وأنّ ما يسمى بالطليعة العربية مستتبعة، ومريضة، وغير مستقلة، كما أصبحت جماعة خاصة تخدم الارستقراطية الجديدة، المحرومة من القيم النبيلة، تحت شعارات القومية والاشتراكية، وتحرير الفلاحين والعمال، البراقة الخادعة المتأسية بهدي الثورة الصينية التي علمت الإنسان ما لم يعلم بالبندقية وليس بالقلم. والنتيجة كانت تدمير الحياة الدستورية في الدولة العربية وتفكيك مؤسساتها لصالح العصبيات الأهلية، وسحق الإنسان وتمريغه في وحل الشعارات الكاذبة، وإرغامه على الرقص على أنغام آهاته. لكنه إذ يدعو إلى نخبة ارستقراطية تتمتع بالنبالة الفكرية كالساموراي الياباني، بعد أن يؤكد على معاداة الثقافة السائدة والتغيير، فإنه يقع في إشكال يحتاج إلى شرح: ففرسان الساموراي عملوا بثقافة إقطاعية موروثة...! وإذا كان غليون قد برهن في كتابه «نقد السياسة» خطل النظرية القائلة بحتمية ارتباط الدين بالسياسة، فإنه يثبت مرة أخرى أن معاداة الرأي العام العربي للعلمانية، سببه حسبانها مذهباً فكرياً وهوية لفئة اجتماعية بعينها، داعياً إلى علمنة العلمانية وإنقاذها من خاطفيها، «ومغتصبيها»، والممثلين بجثتها. العلمانية ليست غاية بذاتها، وإنما هي وسيلة غايتها تحقيق الديموقراطية، والديموقراطية ليست صناديق انتخابات فحسب، وإلا كانت النتيجة انتخاب سلاطين طائفيين (لا يشير غليون إلى أن صناديق الانتخاب جيدة حتى في هذه الحال، أي بانتخاب سلاطين فئويين جيدين، هذا إذا كانت حرة، أو كانت الفئات متناسبة القوة والعدد)، والديموقراطية ليست سوى وسيلة لتحقيق غاية هي الحق والعدل والكرامة والمساواة. ويشير أيضاً إلى أن العلمانية والديموقراطية ليستا ماهيات ثابتة، فهما وسائل قابلة للتعديل والتحسين بحسب الزمان والمكان... ويلوّح غليون إلى أن قسماً من المثقفين العرب غالى في تسويد العقلانية، وقدمها نقيضا للفكر الديني، فالمعاندة على أن الدين هو سبب الاستبداد أدت إلى التغطية على الاستبداد (مثاله حملة محاربة التطرف الديني التي تتجاوز ذلك إلى مراقبة أحلام الناس)، كما أن قسما آخر من المثقفين فصل بين الديموقراطية والعلمانية متأسين بالنظم الشيوعية والقومية التي رفعت شعارات تأمين حرية الاعتقاد فسرقت معظم الحريات وأهمها. وينتهي غليون إلى أن تسبيق العلمانية على الديموقراطية فكرة خرقاء أشبه بوضع العربة أمام الحصان و تقود إلى عكس نشيدها، خاصة في مجتمعات تحكمها العقائد والعواطف الدينية، الأمر الذي يؤدي إلى تحويل العلمانية إلى خطاب مثالي للقهر والاستبداد الصافي، المقنع بماكياج حداثي مزيف، لصالح إنهاض المشاعر الدينية بوصفها خيارا حرا للأفراد، نكاية بالخطاب «الأجنبي» المستورد ، أو بالفئة التي تتبنى العلمانية بحد السيف. العلمانية تحولت في بلاد عربية إلى ذريعة للإقصاء، وتعميق التناقضات الفكرية والسياسية، وتهميش الأكثرية الاجتماعية. يحذر المثقفين أيضاً إلى أن اعتناق العلمانية كحركة تبشيرية تفتيشية ضد الكفار (ضد المؤمنين) ينتج مجتمعاً معقماً من النخب المتنورة. فجاذبية العلمانية هي في تكريس قيم المساواة والحق والحرية، فلا يتبقى من حاصل قسمة للعلمانية على مجتمعات متدينة بعد كشط لحمها عن عظمها سوى معنيين سلبيين هما معنى القيمة الأجنبية الغربية، أو قيمتها كعقيدة تدجين واداة للقمع الفكري والسياسي. يحذر غليون المثقفين المعاصرين من تبني العلمانية كهوية مميزة وكدين ضد أغلبية اجتماعية «مدانة» «متخلفة» متهمة، لا أمل بتغييرها إلا بالبندقية الصينية كحل . ومثل هذا الموقف ينفي العلمانية ويجعلها جارية في منزل الأقليات المذهبية و يعوق تحولها إلى قيمة عمومية. حتى الآن لا قيمة «ايجابية» للعلمانية العربية المسلّحة على الطريقة الصينية، سوى تلك القيمة المرذولة، التي تجرد النظام من الالتزامات الأخلاقية والشرعية تجاه الغالبية الاجتماعية. يعود غليون مرة تلو الأخرى، لنعي النخبة العربية العقلانية، التي قصرت في قيادة معركة التحديث، وأخفقت في جذب الغالبية الاجتماعية إلى مبادئ السياسة والمدنية. يشير إلى أن الحوار ليس صراعاً يحول فيه المنتصر محاوره إلى معتقده الفكري، وإنما يفتح سبيلاً إلى فهمه والقبول به. وإذا كان الشهرستاني قد لاحظ في كتابه «الملل والنحل» أنّ المذاهب الدينية كانت أقنعة لصراعات سياسية، فإن غليون يرى المذاهب الفلسفية السياسية تأخذ نفس الأقنعة! لا بد من تحرير العلمانية، وإذا كان من حق العلمانية أن ترتدي البكيني، فمن حقها أن تضع النقاب، إلا أذا أفتى صندوق الانتخاب بفتوى أخرى. ويبقى السؤال مُلحاً. * كاتب سوري.