ان تخرج محاولات البحث عن اطر تصنيفية لاصطلاحي"المقاومة"و"الارهاب"في العراق من التضمين والتلميح إلى العلن, حتى لو جاء على خلفية حملة انتخابية محتدمة, ظاهرة صحية ولا ريب, خصوصاً حين نلمس نزعة رسمية اميركية وعراقية للرضوخ اخيراً لمنطق التمييز الذي ظل غائباً ومتأرجحاً بين تنويعات اللغة حيناً مسلحون - مقاومون - صداميون - ارهابيون - جزارون..., وبين مخرجات الواقع مفخخون - مقاتلون - ضباط سابقون - بعثيون متضررون - منتقمون... حيناً آخر. لكن البحث في مفارقات التصنيف العراقي تقود إلى تعقيدات جديدة مرتبطة بجذور خلاف لا يجدر التعامل مع معطياته بفوقية وعمومية, ما حرص عليه السياسيون العراقيون بدافع انعدام الخبرة تارة او تجنب اثارة الخصوم والاصدقاء في واقع سياسي متحرك تارة اخرى, وتجاوزتهم إلى وسائل الاعلام ومنها إلى الشارع المسيس. واذا قفزنا على الحقيقة التي تشير إلى ان الاعتراف بواقعي"المقاومة"و"الارهاب"كمنظومتين مستقلتين لن يقود بأي حال إلى تجسيم المشكل العراقي تمهيداً لتطبيع تجلياته وتناقضاته, مع انه يفتح ابواباً إلى هذا الهدف, فاننا نقف امام آليات تصنيف تتجاوز الاصطلاح إلى المعنى والموقف السياسي إلى الموقف الفلسفي والعموم إلى الخصوص, وهكذا نجد من المنطق تصديق ثلاثة مستويات تمييزية ترتبط بمجملها بمواقف وخلفيات سياسية واجتماعية واقتصادية لا يمكن فهمها من دون استعارة معطيات براغماتية تفض التناقض الفكري والاخلاقي مع تداعيات الحدث على الارض وتنويعاته الدامية. وتأسيساً على ذلك لا يغدو من المجدي ان نتعامل مع التصنيف العام لحالي"المقاومة"و"الارهاب", باعتبار ان الاولى تستهدف الاميركيين والثانية تستهدف المدنيين, معتمدين على معايير تاريخية واخلاقية لكل جماعة مسلحة او شخص للاجابة عن تساؤلات على نحو: استهدفت من؟ وكيف؟ ومتى؟ لنضع الجماعة او الشخص المعني في صف"الارهاب"او"المقاومة", لأن المعلن وغير المعلن في عراق ما بعد الاحتلال الاميركي يشير إلى تداخل خطر في المفاهيم والقيم والتسويغات, فرضها ارتباك اخلاقي وسياسي لم تتمكن الاسرة الدولية من تجاوزه حتى هذه اللحظة في شأن: لماذا احتل العراق وكيف ومن دفع فاتورة هذا الاحتلال؟ انعكس على واقع عراقي تتمايز فيه القيم الدينية والمذهبية والاخلاقية والعصبية, ثم تتلاقح ببعضها بعضاً لتخلق ديناميكيات براغماتية للافعال والخطوات سواء تلك التي تجلت في اطر سياسية واختبرت منظومة السلطة والسطوة على حين غرة, فاستعارت من البوتقة القيمية المتداخلة مسوغات للاحتفاظ بمكاسبها الجديدة, او تلك التي فقدت امتيازات السلطة والسطوة, فأخرجت من البوتقة القيمية ذاتها استعارات جديدة لتسويغ رفع السلاح, فيما تقف بين هذا وذاك مناهج فكرية وسياسية واجتماعية تستمد ديمومة مواقفها من تلك البوتقة ايضاً. ولنا ان نصدق الاطار التمييزي الاول الذي يذهب إلى ان"لا ارهاب في العراق وانما مقاومة واخطاء", مثلما سنصدق من يقول ان"لا مقاومة في العراق والجميع متورط في دم العراقيين"او نختار تصديق الآلية التوافقية التي تدعي ان هناك"مقاومة وارهاباً"بعمومية التمييز التي ذكرناها. والخطورة في التعامل مع الخيار الثالث, وان بدا للوهلة الاولى حلاً نموذجياً بين اتجاهين متناقضين تماماً, تكمن في جوهره الذي يستعير او الية عاطفية ترتخي امام العقدة, فتختار حلولاً جاهزة وتوافقية عادة ما تكون سائبة النهايات, ولا تقود سوى إلى تعقيد المواقف بخاصة حين تتعالى على"براغماتية الحل السياسي"إلى"الهروبية السياسية", وايضاً حين تفترض حسن النية في مواقف سياسية لها خلفياتها وجذورها الدولية والتاريخية العميقة التي تأسست على اقصاء النيات الحسنة من حساباتها لمصلحة ضمان ترتيب اوراق المعركة. وندعي ان الجهل بخفايا المتغيرات العراقية والعطف على مخرجاتها الظاهرية مثلما ان الغفلة عن القراءة الموضوعية لكل ما جرى في العراق بدءاً من العقد الثامن من القرن الماضي حتى اليوم, والرضوخ لقراءات اولية متأخرة في شأن عراق ما بعد الاحتلال, قاد ويقود باستمرار إلى استباط افكار وقناعات دعمت صورة الحل المثالي التي تذهب إلى تفسير واقع العنف في العراق استناداً إلى مصطلحي"المقاومة"و"الارهاب", على رغم ان دلالاتهما الواقعية والتاريخية والدينية والاصطلاحية مازالت عائمة وغائبة عن اي محاولة تصنيفية, فيما لا نجرؤ على الاعتراف بعجز فردي امام مثل هذا التصنيف مرتبط بعجز مماثل على مستويات دولية ومحلية وثقافية ايضاً. ونزعم ان قادة العراق الجدد, على اختلاف تصنيفاتهم خارج المسؤولية الرسمية او داخلها, لا يجرؤون ايضاً على مواجهة مثل هذه الحقيقة, وان كان بعضهم يستخدم غموضها لاغراض سياسية او انتخابية, مع ان الرئيس العراقي جلال الطالباني بدا اكثر جرأة من سواه حين تحدث عن امكانية للحوار مع"ارهابيين"اذا اقتنعوا بالانضمام إلى العملية السياسية, وهذا الموقف الاخير بصرف النظر عن مسبباته التي تخص طالباني باعتباره"كردياً"اولاً وسياسياً متمرساً"ثانياً"هو الاقرب الى هيكلية الحل كما تراه الولاياتالمتحدة في العراق وان كان الوقت قد يطول قبل التعامل معه علانية. هل نبحث في عامين ونصف عام من الدم والعنف وتداخل المواقف لنستخرج ابرة الارهاب من قش المقاومة او العكس؟ وهل نشيد محاكم جزائية ودولية لوضع الجميع, قادة سياسيين ومسلحين, في دائرة الاتهام فنفرز اياً منهم متورط في الدم العراقي؟ ومن اين نأتي بمعايير اخلاقية ودينية وقانونية ثابتة ورصينة لمثل هذا التصنيف؟ هل سنفترض الجميع ارهابيين ومتورطين في الدم العراقي حتى يثبت العكس, ام نفترضهم مقاومين وطنيين حتى يثبت العكس؟ وماذا لو لم يثبت العكس في كلا الخيارين؟ ربما طالت قائمة الاسئلة لتفرخ اخرى قبل ان نتنبه إلى ان واقعاً لم نكن نتمناه يتشكل مستلهماً حيرتنا ومتأسساً على ارتباكنا ومرتبطاً بمساجلاتنا غير المنتهية, لكننا نكون قد قفزنا على منطق التاريخ لو افترضنا ان حيرتنا وارتباكنا ومساجلاتنا كانت محض صدفة. كاتب عراقي.