فيلمان في آن على طريقة سينما السبعينات في بغداد، أو خذْ حاجة إضافية مجاناً إذا اشتريت واحدة! - على طريقة باعة التفرطة الهنود. هذا ما ستحسه للمرة الأولى التي تلامس فيها يداك عمل الشاعر اليمني نبيل سبيع ذمار 1978 المكون من ديوانين يقلب أحدهما ظهره، أو يديره للآخر! فالجهة التي يبدأ فيها ديوانه"هليكوبتر في غرفة"تعاكسها الجهة الثانية التي يبدأ فيها ديوانه"السير ببال مغمض"... وعلى القارئ أن يقلب الكتاب ليقرأ الجهة الثانية... فيحصل على ديوانين في كتاب واحد ويبتهج بلقيته هذه، بينما يكون نقاد القراءة والتلقي فرحين لسبب آخر... فها هو شاعر شاب يبدأ مسيرته الشعرية فينشر، بعد انتظار، عملين في آن واحد... وها هو يعي أهمية العتبات النصية التي يتحدثون عنها كنصوص موازية أو موجهات قراءة تقود إلى حيث نيات الكاتب المضمرة والمعلنة... مقدمة قراءتي لعملي نبيل سبيع هي الأخرى صارت ? بعدواه - عتبة نصية. فها أنا أؤجل ملاحظاتي النقدية منغمساً في ملاطفة عتبته هو، ومؤدياً واجب الألفة والتعارف كما أراد الشاعر نفسه وهو يصمم عمله بقسميه مصمم العمل هو الشاعر نفسه كما تشير الصفات الداخلية الأولى. لقد استثمر الشاعر عتبة الغلاف والعنوان وتوزيع القصائد خطياً في شكل جيد... فأوصل رسالة عمله وأفصح عن هوية خطابه الشعري المنتمي الى الحداثة والقائم على منطق المغامرة الشكلية المجافية للرتابة والمبتعدة من المألوف والسائد حتى في إخراج النصوص إلى الحياة عبر القراءة، وذلك بطباعة العملين في كتاب واحد يعاكس وجود كل منهما وجود الآخر ويخالفه... فيتحصل لنا تعارف أول مع الشاعر بكونه مؤمناً بفتن الحداثة ولا نهائية تجاربها وتنوع كمائنها وفخاخها... وإذ يسلط النص قوته على قراءتنا نستنجد بذخيرتنا وخبرتنا كقراء ونحاول مثلاً أن نحل لغز المركزية، بمعنى أي النصين هو المركز أو الأول؟ المعلومات الوصفية عن العمل ط1 - 2005 - الناشر مؤسسة يمن تايمز إلخ...، تطالعنا في الصفحة الداخلية الثانية لغلاف"هليكوبتر في غرفة"ويتقدم هذا العنوان على"السير ببال مغمض". كما يضع نبيل إهداء عمله للأصدقاء على الغلاف الداخلي الأول لهليكوبتر... إعلانا عن مركزيته وتكريساً لثانوية السير .... ولكن القراءة ستخذل هذا التصور. فثمة إشارات عدة إلى أطروحة"البال المغمض"وحالاته المختلفة في قصائد ديوان"هليكوبتر..."المكتوبة في زمن أقرب الى النشر من زمن كتابة قصائد"السير...". بل سيكتشف القارئ أن في"هليكوبتر..."قصيدة بعنوان"كومة بال مجهدة هناك"وپ"ربما في بال مهمل". لقد سرت مقولة البال كرديف معنوي لمفردة الذاكرة أو تنويعاتها فتسللت إلى"هليكوبتر..."المكتوبة بعض قصائده لاحقاً... ولكن لماذا نشغل أنفسنا بالمركز والهامش في تسطير الديوانين؟ ألكي نكتشف المهنية المعرفية والجمالية فيهما مثلاً؟ لندع ذلك للقراءة الآتية ونكتفي بأن نجعل الديوانين توأماً لا لأن عملاً واحداً يضمهما أو حاضنة ولادة مشتركة، بل لأن الشاعر نفسه يقول في"السير...":"... أفكر في ما هو أكثر ميتافيزيقية/ من اشتراك اثنين/ في مشيٍ واحد"ص 108. إذاً فلتكن تلك إشارة تشتغل لمصلحة قراءة العملين كوجه وقفا، أو كلوحة طرسية من النوع الذي كان الإنسان يشتغله على الجلود فيضع أثراً فوق أثر... وليكن الديوانان بوجودهما الفعلي اشتراك اثنين ولكن في مشيٍ - أو سيرٍ - واحد... سيجرنا العنوان - حين لا يؤدي دور الثريا المضيئة أو الحلية الجمالية أو فتنة اتباع الحداثة كصِنفِ دمٍ - إلى مصائد شكلية ودلالية. وستتوسع غرفة نبيل سبيع بجدرانها لكي تحل فيها هليكوبتر لا تظهر إلاّ عبر ضوئها الكشاف، ربما لتنير ظلامها... أو لتنتشل ساكنها من سكونه... وستقوم العنونة المنبنية على ثنائية الضيق المحدود غرفة والمتسع الفضائي"هليكوبتر"لإنجاز دلالة فائقة الأهمية: إننا محدودون بوجودنا الجدراني، لكننا متسعون بحلمنا الفضائي... وربما أدت الهليكوبتر وظيفة حلمية مناسبة لا مبالغة فيها، لأنها أقرب الطائرات إلى الأرض... ولنرَ ما في جهة الكتاب المعاكسة، فإذا كانت"الهليكوبتر"وسيلة إنقاذ فضائية، فإن"السير"وسيلة خروج أرضية، تتصدر عنوان الديوان الثاني، ولكن الانزياح الدلالي واضح عبر الواسطة التي تستخدم في السير: ببال مغمض... بذاكرة لا تريد أن ترى، فتتم المعاكسة لا بالوجود المقلوب للديوان باتجاه الآخر، بل باختيار وسيلة أرضية للمشي كمواجهة لضوء الهليكوبتر في ظلام الغرفة... كلا العنوانين سيضع القارئ في ثنائية ضدية قاسية: الوجود والحلم... الغرفة والطائرة... السير والسهو أو إغماض الذاكرة... وهذا هو الوعد الذي يقطعه العمل لقارئه وهو يستقبله. السرد هو مفتاح قراءة قصائد الديوانين، فالشاعر الذي بدأ تجربته بقصائد النثر دون سواها، ولم يتدرب أو يجرب إمكانات تعبيرية أخرى، عثر على حداثة خطابه باختلاطات السرد التي تتمدد على حساب كثافة الشعر وتركيزه واختزاله. الاختلاطات وصف لحضور عناصر بنائية سردية في نصوص سبيع منها: تعيينات المكان وتحيينات الزمان والقص المسترسل والحوارات داخلية كانت أم في هيئة مناجاة ومخاطبة وأفعال السرد وأحداثه المتلاحقة التي تقرر مصائر النصوص... ولعل لهذه الاستعانات السردية تشكل وجوداً مركزياً طارداً لغنائية النص الشعري ومجازفات الصور والاستعارات... المخيلة هنا إطار... والعمل كله للذاكرة... حتى وهي تتخفى تحت مسمى البال... لكن الذاكرة ليست تقليدية أو اجترارية... إنها تعوض عمل المخيلة، أي أنها توسع المفردة المستعادة وتصفها في أتون سردي لا يضيق بالخيالي بل يطوره ليخلق إيقاعاً بديلاً عبر تآزر تلك العناصر في حاضنة السرد. هنا سأستعين بمثال: قصيدة قصيرة عنوانها"أوزات حميمية من دون مناسبة":"هذا الصوت في الظلمة/ هو بحثي عن زر الإضاءة/ وهذا المسدس الشفوي/ والمشحون في يدي/ سيصيب بدقة/ الأوزات الناصعة في الصالة/ ومع أن بالي معصوب كله بالشاش/ إلاّ أنني سأسبح به من هنا إلى المطبخ/ من دون أن يبتل بقطرة ماء واحدة". كثير من متواليات الديوانين تحتشد هنا وتتنضد: استذكار أشياء الغرفة في الظلام... استيهام المسدس لتبديد الخوف، وتخيل الأوزات البيض في الصالة... ثم السباحة - تماهياً مع وجود الأوزات - ولكن من دون مياه. هذا الاصطفاف الفانتازي للأشياء هو من صنف العجائبي المتميز بشعرية خاصة: الإيهام بوجود الأشياء أو حدوثها، والبقاء على مسافة كافية من التيقن بحصول ذلك، حتى تسري العدوى إلى القارئ الذي لا يدري إن كان ذلك كله قد حصل في زمن ما أو مكان داخل النص... لعبة الإيهام بعض النصوص تكاشف القارئ بلعبة الإيهام وتفضح له آلياتها. في نص طويل بحركات عدة عنوانه"تفصلنا واو عطف... لا يمكن زحزحتها"يواجه القارئ افتراضات لا يخفى طابعها التهكمي:"لنلتقِِ مصادفةً في الشارع/ أنا سأسألك مراراً عن حالك/ في محاولة لنقل صفر الصداقة إلى مكان أنسب/ وأنت ستبتسمين بالموازاة/ لأن الصفر ظل مكانه كل مرة". هذا الاستهلال يضع القارئ في صلب لعبة الإيهام، فكل ما سيحدث هنا افتراضي. صحيح أن الكون الشعري كله ورقيّ متخيّل، لكن الاستيهام هنا يضاعف ابتعاده وانتماءه إلى متخيل مطلوب أو مشتهى، فاللقاء بالمرأة مصمّم على أساس أنه سيحدث افتراضاً... وذلك يتيح للشاعر أن يصنع ما يمكن تسميته بپ"الميتاسردية"، أي إمكان وجود نص شارح يعلق عمل النص الأصلي ويراقبه ويعترضه ويرصد خطابه... الدلالة بدورها لا تبتعد كثيراً. فالشاعر يعرض خساراته هنا. إنّ واو العطف التي تفصل بين الشاعر المتحدث والمرأة المخاطبة ستظل فاصلاً يحول دون اتحادهما... وهذا الشعور مترجم إلى حبكة قصيرة في قصيدة"الثالث"المهداة إلى ماريان بتمويه مقصود يوحي بأنها ليست مهداة لها بالضرورة:"... إننا لم نكن اثنين فحسب/ لأن عدم رغبتنا بالبقاء معاً/ كان ثالثنا باستمرار". هذا تنويع آخر للانفصال والابتعاد، لا بوجود حرف فاصل يجعل لكل من المرأة والرجل وجوداً مستقلاً بعيداً، بل بوجود البعد نفسه بهيئة نفور أو في شكل عدم رغبة هذه المرة. تستفيد قصائد نبيل من استرخاء السرد وامتداده وكذلك من فضاء الاستيهام والتخيل لصنع خطاب ساخر. السخرية هنا ليست من النوع المجاني أو المموّه لعرض المآسي. فالسخريات في الواقع سخريات شعرية من المصائر والأقدار كلها، ومن الأفعال قبل أن تنجز، والمواقف قبل أن تتحقق... سخرية من صورة مرحوم لا تقبلها الجدران. وجدران وهمية لا تقبل مسماراً... ومن مانيكان ينزل إلى الشارع ليتعقب الفتيات... ومرمى مهجور تُسدَّد إليه ضربات خيالية بكرة غير مرئية... وهكذا. التراكيب هنا في خدمة خطاب متنوع. أيُّ شيء هنا على حافة الحلم وهوس اليقظة ورغبة الانفراد لا الانخراط... العناوين وحدها تجعل حداثة نبيل سبيع شبيهة بزملاء التسعينات وحداثتهم التي وجدت مراجعها وموضوعاتها وصياغاتها وإيقاعاتها بعيداً من شعرية الاجترار والمماثلة... العناوين إعلان باذخ وحادّ لدى نبيل سبيع عن حداثته... أحياناً بأكثر مما يحتاج نص بسيط أليف... بينما تتراجع نصوص أكثر حميمية وراء لافتات العناوين العادية مثل"الملعون"المهداة إلى الأم. لا تنخرط دعابات نبيل سبيع في المجانية بل تحفر في بالٍ حداثي مأزوم. الأزمة عنوان العصر الذي عاشه جيله وتفتح على أصدائها وعيه، لذا كان الهروب لازماً وضرورياً إلى البال... وتجميد الأشياء في ثلج الذاكرة التي لا حدود للزمن فيها... إيقاعات العمل كلغته تنمو من داخل النص... يمتصها النثر أحياناً ويلفها ببرودته... لكن الشعر يلتهم كل شيء من بعد، ويراقب الأفعال حتى في صياغاتها اللغوية ليخلق نصوصاً تتعالى على النصوص ذاتها مثل تقليبه كلمة جالس: "أجلس كما لو كنت كلمة جالس ذاتها". وكذلك يمتص النص حكايات ودعابات شائعة: حذاء أبي القاسم الطنبوري في المحكي الموروث يعاد الى صاحبه كلما ألقاه بيدي فاعل خير. هنا يعود الوجه الملقى بإرادة صاحبه إليه كلما رماه:"كان فاعلو الخير الوفيرون/ يعيدونه إليّ يداً بيد/ أو بواسطة البريد...". هكذا أزعم وأنا أختتم تداعياتي حول عمل نبيل سبيع بقسميه أنه يضيف الى ملفوظ التسعينات الشعري مقترحات ورؤى ومغامراتٍ وهواجس قلّ أن يضمها عمل في أيامنا هذه.