أسعدني الاتصال التلفوني الذي قررت أن أقوم به مع السيد خالد مشعل لتهنئته بالفوز الكبير التي حققته حماس في انتخابات المجلس"التشريعي". لم يكن شعوري بالرغبة في اداء هذا الواجب مدفوعا بأية أسباب سياسية أو عقائدية أو يعكس انحيازا لفصيل فلسطيني من دون آخر، وإنما كان تعبيرا عن قناعة بأهمية وحرج لحظة تستدعي تضامنا، ولو رمزيا، مع من يحملون أمانة مسؤولية وطنية وقومية ودينية تنوء بحملها الجبال. فبهذا الفوز دخلت القضية الفلسطينية ومعها قضايا الأمة بأسرها مفترق طرق جديد يحمل من المخاطر بقدر ما يتيح من فرص. ويكفي أن نستعرض ردود أفعال القوى الدولية، وخصوصًا الغربية منها، لندرك أن نذر عاصفة جديدة تتجمع الآن في الأفق استعدادا للانقضاض على الجميع، وليس على فصيل او تيارا بعينه، وهو ما يتطلب رص الصفوف والتحسب لكل الاحتمالات، بما فيها احتمال انفجار الأوضاع في المنطقة برمتها. ففوز حماس يجيء متواكبا مع تصعيد متعمد على الجبهات اللبنانية والسورية والإيرانية. وبالتالي فليس من المستبعد استخدام هذا الفوز لوضع المخططات العسكرية المؤحلة موضع التنفيذ. لفت نظري، في معرض متابعتي لردود الأفعال على فوز حماس، مقال كتبه دانيال بايبس ونشرته صحيفة"ناشيونال بوست"الكندية تحت عنوان"حصاد الديموقراطية المر"في عددها الصادر في 27 كانون الثاني يناير الماضي، ثم أعيد نشره بصحيفة"الأوستراليان"تحت عنوان"المنطقة ليست ناضجة للديموقراطية"في عددها الصادر في 30 كانون الثاني. ومن السهل على القارئ أن يدرك، حتى من العناوين، أن الكاتب أراد أن يقول إن المنطقة ليست جاهزة لعملية ديموقراطية، وان الضغط الأميركي على حكومات المنطقة سيكون حصاده مر ولن يسفر إلا عن وصول أنظمة حكم معادية وإضفاء الشرعية على تنظيمات"إرهابية"، وذلك عبر عملية اقتراع لمرة واحدة!. وبالتالي تقويض المصالح الغربية كلها في النهاية. ومن الواضح أن هذا النوع من الأفكار لم يعد يشكل نغمة نشازا، وإنما بات يعبر بدقة عن تيار متصاعد يطالب الإدارة الأميركية بمراجعة سياستها في ما يتعلق بقضية الديموقراطية في المنطقة، وهو ما يثير التساؤل من جديد حول حقيقة الافتراضات التي بنيت عليها. ربما ما يزال البعض منا يذكر خطاب كوندوليزا رايس في الجامعة الأميركية وما أعقبه من تصريحات كشفت في ثناياها عن التوجه الأميركي الجديد والذي عبر عنه مفهوم"الفوضى الخلاقة". وكان البعض قد حاول تخويف"كوندي"من سيناريو الفوضى التي قد تنجم عن الديموقراطية والتي قد تستغلها تيارات الإسلام السياسي للقفز على السلطة في المنطقة، لكنها أجابت بأن أوضاع الاستبداد الراهنة هي التي أفرزت الإرهاب الذي ضرب الولاياتالمتحدة الأميركية في 11 أيلول سبتمبر، وهي غير قابلة للاستمرار، وأن الولاياتالمتحدة تفضل سيناريو التغيير حتى وإن أدى إلى بعض الفوضى لأنها ستكون حينئذ"فوضى خلاقة"لا بد وأن يخرج من بين ثناياها أوضاعا أفضل مما هي عليه حال المنطقة الآن. وكتبنا في حينه تعليقا على هذا الطرح مؤكدين على أن هذا التوجه يخفي وراءه أجندة خاصة. فالولاياتالمتحدة كانت وما تزال ترى هذه المنطقة من العالم باعتبارها"موزاييك"من قوميات وطوائف وثقافات ختلفة، وأنه إذا ما أتيح لها الاحتكام إلى صناديق الاقتراع فسوف تتغير خريطتها وتسفر في النهاية دويلات صغيرة متناحرة تحكها نظم ضعيفة تعكس توازنات طائفية وإثنية هشة يسهل التحكم فيها وإدارتها من الخارج، وأن هذا الخيار هو الأفضل من منظور المصالح الأميركية، مقارنة بخيار النظم المركزية القومية المستبدة الذي ولى زمنه وانقضى بانقضاء الحرب الباردة ونهاية الثنائية القطبية. ويبدو أن فوز حماس في أكثر بؤر المنطقة صراعا والتهابا أسقط الافتراض الذي يقوم عليه هذا الخيار تحديدا، أي افتراض أن صناديق الاقتراع ستثير"فوضى خلاقة"تغير المنطقة إلى الأفضل من وجهة نظر المصالح الأميركية، وهو ما يفسر مطالبة بعض الأوساط النافذة في الولاياتالمتحدة بمراجعة السياسة التي بنيت عليه وإعادة النظر فيها. فوفقا لهذا الافتراض كانت فلسطين تبدو وكأنها تقدم، على العكس، واحدا من أهم مسارح المنطقة استعدادا وترحيبا بالاستعراض الأميركي الجديد!. في سياق كهذا لا يجب علينا أن نندهش من عنف ردود الأفعال المحلية والإقليمية والدولية تجاه فوز حماس لأنه يقلب استراتيجية"الفوضى الخلاقة"في المنطقة رأسا على عقب. فبينما كانت السياسة الأميركية تبدو معنية بتثبيت أوضاع التهدئة في فلسطين وتعمل جاهدة لخلق ظروف مواتية لإعادة ترتيب أوضاع المشرق العربي من خلال تهيئة الساحات اللبنانية والسورية والإيرانية للعب دورها المرسوم في استراتيجية"فوضى خلاقة"كان مخططا، فيما يبدو، أن يشهد المسرح الفلسطيني فصلها الختامي، إذا بالساحة الفلسطينية تقلب الطاولة على رؤوس الجميع مذكرة إياهم بأن قضيتها هي أصل الحكاية، وأن العرض الأميركي الإسرائيلي لم يقترب من مشهده الختامي المرسوم بعد. ولذلك فمن المتوقع أن تتعامل الولاياتالمتحدة وإسرائيل مع ما يجري الآن على الساحات المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا وإيران، وربما العراق أيضا، باعتباره مشاهد لمعارك متفرقة من حرب واحدة يصران على خوضها حتى النهاية، ويؤمنان بالانتصار الكامل فيها. وفي تقديري أن الضغط على حماس، في إطار الإدارة الشاملة لهذه الحرب المعلنة، سيتصاعد من خلال ثلاث روافد، أحدها دولي تقوده الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، والثاني إقليمي تقوده الدول الحليفة لها في المنطقة والمرتبطة بعلاقة مع إسرائيل، والثالث محلي تقوده الأطراف الفلسطينية التي تتصور أن نجاح حماس يعني إقرارا بفشلها وربما يضر بمصالحها الحالة والمستقبلة. ومن المتوقع أن تصب هذه الروافد في اتجاه واحد وهو إجبار حماس على الاعتراف بإسرائيل كنقطة انطلاق لعملية تستهدف استنزافها بنفس الطريقة التي استنفدت بها فتح من قبل، ورمتها عظما بعد أن أكلتها لحما!. غير أن حماس ليست مجبرة على مثل هذا الاعتراف وعليها أن تحذر منه تماما، وأن تصمد ما وسع لها الصمود. ذلك أن المعركة التي وضعتها الأقدار في موقع القيادة منها ليست معركتها هي، ولا معركة الإسلام الأصولي، ولا حتى معركة التيار الإسلامي المعتدل، ولكنها معركة الأحرار والشرفاء في كل العالم. بل إن حماس ليست مضطرة حتى للتفاوض مع إسرائيل وليس من مصلحتها ذلك في الوقت الحاضر. وليس لهذا علاقة بموقف حماس المبدئي الرافض للاعتراف بإسرائيل أو التفاوض معها والمطالب بعودة فلسطين من البحر إلى النهر، كما تحاول أن توحي إسرائيل، ولكن هذا هو الموقف التفاوضي الوحيد الصحيح. فلا أحد يعرف بالضبط من هي إسرائيل التي يطلبون من حماس الاعتراف بها والتفاوض معها. هل هي إسرائيل الحالية التي تحتل الأرض الفلسطينية واللبنانية والسورية، أم إسرائيل التي تعبر عن الدولة اليهودية المعترف دوليا بحقها في الوجود وفق الحدود المرسومة لها في قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة عام 1947، أم إسرائيل في حدودها التي كانت قائمة قبل حرب 1967؟. فالاعتراف لا يجوز إلا بشيء واضح ومحدد المعالم. أما اعتراف جهة ممثلة شرعية للشعب الفلسطيني بإسرائيل في المرحلة الحالية فلا يعني سوى شيء واحد وهو القبول بكل ما تدعي إسرائيل أنه حق لها،بما في ذلك حقها في إقامة المستوطنات على اي بقعة من فلسطين التاريخية وإقامة جدار عازل ترى فيه أكبر هيئة قانونية في العالم عملا باطلا وغير شرعي. إنني، وعلى عكس بعض الآراء التي أحترمها وعلى رأسهم محمد حسنين هيكل، أعتقد أن وضع حماس في المعارضة ليس أفضل وأن المصلحة الوطنية الفلسطينية والقومية تتطلب قيامها بتشكيل وقيادة حكومة نأمل أن تضم الجميع. صحيح أن المخاطر كبيرة، لكنها ليست أكبر من المخاطر التي تواجهها حماس في الوضع الحالي. وفي تقديري أن الاستراتيجية الفلسطيينية لإدارة الصراع مع إسرائيل كانت قد بدأت تواجه مأزقا حقيقيا منذ إبرام اتفاقية أوسلو. فقد أسفرت هذه الاتفاقية في نهاية المطاف، وفي غياب نص صريح بوقف الاستيطان، عن عربة فلسطينية يقودها جوادان يشد كل منهما في الاتجاه المعاكس. وما كان يمكن لهذه العربة، مهما بلغت قدرتها على التحمل أن تتحرك وتظل محتفظة بسلامتها في الوقت نفسه. بوصول حماس إلى السلطة بعد فشل أوسلو، يتجدد الأمل في توحيد الاستراتجية الفلسطينية ووضع العربة أمام كل من يريد أن يقودها من الأحصنة، شريطة أن يسير الجميع في نفس الاتجاه الموصل إلى التحرير. وهذا هو الهدف الذي يتعين أن يسعى إليه كل وطني حقيقي وكل قومي حقيقي وكل متدين حقيقي، مسلما كان أم مسيحيا، بل كل الشرفاء ليس في فلسطين وحدها أو في العالمين العربي والإسلامي وإنما في العالم أجمع. فالشعب الفلسطيني هو الآن أكثر شعوب العالم تعرضا للاضطهاد من جانب التحالف الأميركي الصهيوني واستهدافا من جانب آلته العسكرية والسياسية والإعلامية الجهنمية. ولذلك فمن واجب كل المدافعين عن حقوق الإنسان والشعوب أن يقفوا إلى جواره، لا أن يتخلوا عنه بدعوى أنه أساء اختيار ممثليه كما تدعي أبواق هذه الآلة، وأن يساعدوه على التقدم إلى الأمام،لا أن يثبطوا هممه. إذا كان العالم يريد لهذه المنطقة البالغة الحساسية والتأثير أن تستقر وأن تسهم في صنع السلام العالمي لا أن تتحول إلى فتيل دائم لإشعال الحروب فعليه أولا أن يحترم اختيار الشعب الفلسطيني وأن يتعامل مع ممثليه الشرعين بنزاهة وتجرد من دون أحكام مسبقة، كما أن عليه ثانية: أن يقوم بما يتعين عليه القيام به لحث الأجهزة المعنية في الأممالمتحدة على فرض تسوية شاملة للصراع في الشرق الأوسط على جميع الأطراف، ووفق قواعد الشرعية والقانون الدولي، لا أن ينتظر توصل طرفي الصراع إلى تسوية من خلال المفاوضات. ففي ظل الخلل القائم حاليا في موازين القوة بين الفلسطينيين و الإسرائيليين لن يكون بوسع أي مفاوضات، حتى لو أمكن استئنافها على الفور، أن تتوصل إلى تسوية عادلة. فمجلس الأمن نفسه هو المسئول عن هذا الشلل لأنه ترك الأطراف تتفاوض حول مرجعية مختلف عليها، أي على القرار 242. وبوسع مجلس الأمن أن يقدم إسهاما إيجابيا حاسما في هذا الشأن إذا ما استطاع أن يصدر قرارا جديدا استنادا إلى الفصل السابع من الميثاق يفسر فيه قراره السابق 242 على ضوء مجمل القرارات الصادرة عن جميع أجهزة الأممالمتحدة، وأن يحدد مهلة زمنية لتنفيذ قراره الجديد، ثم الشروع على الفور في اتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في هذا الفصل لمعاقبة كل الأطراف التي تعرقل أو ترفض تنفيذه. إن القرار 242 لايخص الشعب الفلسطيني. وإذا إراد مجلس الأمن أن يفرضه كمرجعية لتسوية قابلة للتطبيق الفوري فعليه أن عليه أن يخير الأطراف المعنية بين حلين، الأول: تفسير رسمي للقرار 242 بصدره على شكل قرار جديد يوضح فيه أن المقصود ب"الحدود الآمنة والمعترف بها"لجميع الأطراف المعنية، بما فيها الفلسطينينن، هي حدود 4 حزيران يونيو 1967، وأن"الحل العادل لمشكلة اللاجئين"هو الحل المستند إلى القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة عام 1949 بكافة بنوده. ويفترض وفقا لهذا التفسير أن تقبل إسرائيل بالانسحاب إلى المواقع التي كانت عندها في 4 حزيران 1967، وبعودة كل من يرغب من اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي عاشوا فيها وتعويض الآخرين. الثاني: تبني مجلس الأمن لقرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة لعام 1947 واعتبار الحدود الموضحة فيه هي الحدود النهائية للدولتين الفلسطينية واليهودية. وفي هذه الحالة يصبح القرار 1949 غير ذي موضوع لأنه صدر بعد قرار التقسيم ولأن العودة ستكون حينئذ للدولة الفلسطينية التي سبق للشرعية الدولية رسمها وتحديدها. في سياق كهذا، يبدو واضحا أن كرة التسوية الحقيقية هي الآن في ملعب كل من إسرائيل ومجلس الأمن، وعليهما أن يقوما بما يتعين القيام به أولا قبل أن يطلب من حماس الالتزام بأي شيء. أما أن يطلب من حماس أن تعترف بإسرائيل في مقابل قبول هذه الأخيرة فقط بالتفاوض معها، فهذا ليس حلاً، لأن إسرائيل ستظل تتفاوض 50 سنة أخرى. أما إذا قام مجلس الأمن بما يتعين عليه القيام به ورفضت حماس، فبوسع الجميع حينئذ أن يشيروا إليها باللوم ويتأكدوا أنها المشكلة. وإلى أن يتحقق ذلك فليس أمامنا سوى أن نأمل أن تكون حماس هي الحل!. * كاتب وجامعي مصري.