اذا اخذنا اتفاقية اوسلو 1993 مرجعاً يُستند اليه في المساءلة عن التنفيذ. فقد كان يفترض ان تنتهي التسوية على المسار الفلسطيني قبل ايلول سبتمبر 1998 بمرحلتيها الثانية والثالثة الوضع النهائي. ولكن منذ العام 1996 لم تنفّذ اسرائيل التزاماتها التعاقدية، اذ كانت تطالب بتفاوض جديد على ما كان قد تمّ الاتفاق عليه. وهكذا، حتى وصل الامر الى كامب ديفيد الثانية. واذا كانت هناك اسباب دعت اسرائيل والبيت الابيض الى عقد كامب ديفيد، وهي اسباب فصّلتها الصحف والبيانات والتصريحات، فثمة سببان آخران يكمنان في خلفية الدعوة والموقف الاميركي - الاسرائيلي: اولهما ان ميزان القوى بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي وصل الى ذروة من الخلل تناسب وسائل الابتزاز والسلب والضغط على الجانب الفلسطيني. وثانيهما استدراك الوقت قبل ان يأخذ النموذج اللبناني في دحر الجيش الاسرائيلي وتحرير الجنوب ايار/ مايو 2000 مكانته في الرأي العام الفلسطيني وبخاصة جانبه المقاوم. واذا رحنا ننقّب في وثائق الاممالمتحدة، فإننا نجد انه ليس في الاممالمتحدة قضية مماثلة لقضية فلسطين، استطاعت ان تحصد مجموعة كاملة متكاملة من القرارات التي تغطّي جميع جوانب القضية. وحينما اعلن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر 1998 قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، استند الى قرارات الاممالمتحدة منذ العام 1947، وفيها قرار التقسيم 181، وقرار العودة 194، وقراري مجلس الامن 242 و338. بيد ان التحولات العميقة الدولية والعربية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي حتى خريف 1991، جعلت استراتيجية التحرير الكامل جدّ صعبة في المدى الزمني المنظور، واقنعت منظمة التحرير الفلسطينية بضرورة الاستفادة من الشرعية الدولية واستثمارها. فالعالم بعد حرب الخليج الثانية هو غير ما قبلها. وفي حين فعلت المنظمة كل ما يعبّر عن اقتناعها هذا بتنازلات متتالية خرجت رويداً رويداً عن قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، اعتبرت اسرائيل والولاياتالمتحدة ان مواقف المنظمة المتتالية اعترافات بالامر الواقع واستسلام لارادة الاقوى، وان ذلك كله نتيجة طبيعية للمتغيرات الدولية وللوضع العربي السيء. وهكذا حان وقت استبدال ميزان القوى بالشرعية الدولية. وفي حين لم تُحسن الاطراف العربية قراءة المتغيرات في العشر الاخير من القرن الماضي - حتى ان احدها او بعضها ذهب الى قراءة معاكسة تماماً - نجد ان اسرائيل، بمساعدة الولاياتالمتحدة السياسية والاعلامية والاقتصادية والعسكرية، اجرت حساباتها بدقة، وخطّطت لبلوغ بعض اهدافها المرحلية على اساس اقتناص اكبر ما يمكن من مكاسب غزوة 1967، وتقنين ما ستحصل عليه من مكاسب في اتفاقات تفتح لها الباب لمرحلة نوعية جديدة، جوهرها تأصيل عضويتها في منطقة الشرق الاوسط، ومنافستها العلمية والثقافية للدول العربية للهيمنة على المنطقة وقيادتها وفق تخطيط اميركي - اسرائيلي مشترك. واذا كان قرارا مجلس الامن 242 و338 يرسيان أسس السلام في المنطقة، فان قضية فلسطين وحقوق شعبها قد عالجتهما الجمعية العامة للامم المتحدة بقرارات جد كثيرة، منذ العام 1947، اشرنا الى بعضها، ونضيف الىها القرار 3236 1974 وفيه تحديد مفصّل، تاريخياً وقانونياً، لحقوق الشعب الفلسطيني، لهذا كانت خطيئة مبدئية كبرى ان تكتفي المنظمة بقبول قراري مجلس الامن وحدهما مرجعية للتسوية السلمية، من دون النص بوضوح على القرارات 181 و194 و3236. نشير هنا الى ان من اخطر القرارات التي اصدرتها الجمعية العامة القرار 3379 1975 الذي اعتبر الصهيونية شكلاً من اشكال العنصرية والتمييز العنصري، فنسف بذلك دعائم اسرائيل تاريخياً واخلاقياً وقانونياً. وحينما توافرت للولايات المتحدة عوامل الهيمنة، ربطت اسرائيل قبولها المشاركة في مؤتمر مدريد 1991 بالغاء القرار المذكور. وهكذا تم الغاؤه في الجمعية العمومية يوم 16/12/1991، بجهود الولاياتالمتحدة. هناك سؤال يطرح نفسه في هذا السياق: كيف امكن لاسرائيل ان تستمر في رفض هذا الكمّ الهائل من القرارات الدولية. لعل الاجابة تكمن في الهوة بين طبيعة هذه القرارات المستندة الى مبادئ الميثاق والقانون الدولي، وبين الواقع السياسي والاستراتيجي المتجسّد في ميزان القوى. بيد ان ذلك لا يعني ان هذا الرصيد الكبير والغني من القرارات الدولية لا يساوي شيئاً، او انه عديم القوة - على رغم انه عديم القدرة - فلا يمكن تطبيقه، بل على العكس من ذلك، اذ انه يشكّل مصدراً ثرّاً للشرعية الدولية. واكبر دليل على ذلك تهالك اسرائيل والولاياتالمتحدة على الغاء قرار قرن الصهيونية بالعنصرية والتمييز العنصري. لان هذا القرار - كما قلنا - يلغي مشروعية وجود اسرائيل قانونياً واخلاقياً. فهذا الرصيد الكبير من القرارات يمكن ان يكون مصدراً للتعبئة والفاعلية، اذا ما تغيّرت موازين القوى العالمية، واتجه العرب نحو تكوين كفّة واحدة خاصة بهم في تلك الموازين، وامكن بناء شبكة عربية للتأثير في مواقع اتخاذ القرار في الغرب، وبخاصة في الولاياتالمتحدة. ان حرب 1973 ليست بعيدة عن الفكر والعين وبخاصة اننا نعيش زمناً اخذت فيه جدوى استخدام القوة المسلحة لقمع شعب يطمح الى التحرر والاستقلال تتآكل وتصبح سلاحاً مثلوماً. ولأن المرجعية اصبحت ميزان القوى، فقد أحلّت اسرائيل لنفسها ان تتحلّل من الالتزامات التي ارتبطت بها ولم تلق هوى في نفسها. وكانت دائرة شؤون المفاوضات في السلطة الفلسطينية اصدرت يوم 9/2/2000 قائمة بالقضايا الانتقالية التي لم ينفّذها الجانب الاسرائيلي بعد ان التزم بتنفيذها في اتفاقات ومذكرات عدة. وقد بلغت تلك القضايا 32 قضية رئيسية، من دون تعداد القضايا الثانوية او الفرعية. واذ تعتمد اسرائيل على ميزان القوى دون غيره، فقد كان من الطبيعي ان تكشف مفاوضات كامب ديفيد مرة اخرى، وبشكل تصادمي، التناقض الاساسي بين السيادة الوطنية الفلسطينية والمكاسب التي تريد اسرائيل اقتناصها من احتلالات 1967 والتي تستخدم الامن الاسرائيلي قناة لها. وخلاصة الموقف الاسرائيلي في اقصى حدوده العليا هي الموافقة على اقامة دولة فلسطينية مجرّدة من مقومات السيادة. وستكون هذه الدولة - بالمفهوم الاسرائيلي - دولة فريدة بين دول العالم الثالث، من حيث اعتراف العالم بها وهي ليست بذات مقومات مماثلة لسائر دول العالم. ان مراجعة وثائق مؤتمر مدريد الدعوات، خطبة الرئيس الاميركي بوش، خطبة وزير الخارجية الاميركية، رسائل التطمينات الاميركية تؤدي الى اقتناع مفاده ان الولاياتالمتحدة نجحت في النهاية، في ترك الحرية لاسرائيل لتفسّر القرار 242 تفسيراً يضمن لها المكاسب المختلفة الناجمة عن احتلالات 1967. وهذا ما يوضّح موقف اسرائيل الرافض تطبيق القرار 242 على المسار الفلسطيني، رغم تأكيد واشنطن النظري والخجول بأن القرار ينطبق على المسار الفلسطيني. لقد أدى ميزان القوى دوره الفعّال في بناء الموقف الاسرائيلي. وكانت الولاياتالمتحدة خططت لعقد مؤتمر مدريد بدور دولي رمزي، لتكون عملية التسوية بكاملها بإشرافها، مُشركة، تحت مظلتها، روسيا الاتحادية. لهذا لم تخف واشنطن نياتها امام جميع الاطراف المدعوة الى مؤتمر مدريد، واوضحت تلك النيّات - على تناقضاتها - في رسائل التطمينات. وهي رسائل مُعلنة ومعروفة لجميع الاطراف: 1 - ففي حين تعلن الولاياتالمتحدة الزامها امن اسرائيل وتفوقها النوعي، واستحقاقها حدوداً آمنة وقابلة للدفاع، يُتفق عليها في مفاوضات مباشرة هدفها هو اقامة سلام عادل ودائم يتحقق عبر محادثات تستند الى القرارين 242 و336 ومبدأ الارض مقابل السلام. 2 - وهي، اي الولاياتالمتحدة، لا تؤيد "انشاء دولة فلسطينية مستقلة" كما انها "لا تؤيد استمرار السيطرة او الضمّ للمناطق التي تحتلها اسرائيل". وعلى هذا "توافق الولاياتالمتحدة على التشاور مع اسرائيل وعلى اخذ مواقفها في الحسبان في مسائل مسار السلام". 3 - اما القدس "فيجب ان لا تكون مرة اخرى مدينة مُقسّمة. ووضعها النهائي يجب ان يُحدّد خلال المفاوضات". 4 - "ان الاتفاق النهائي يأتي نتيجة للتفاوض". المشكلة هي ان منظمة التحرير قبلت في اتفاق اوسلو 1993 ان تكون المرجعية في حال حدوث اي خلاف في تفسير او تطبيق الاتفاق، هي التفاوض بين طرفي الاتفاق، وليس الاممالمتحدة او اي هيئة دولية او طرفاً ثالثاً. ورغم كثرة المطالب الفلسطينية بعقد مؤتمر دولي خاص بقضية فلسطين او بتنشيط دور الاممالمتحدة في عملية التسوية، او بعرض القضية على محكمة العدل الدولية لبتّ ما اذا كانت الضفة الغربية وقطاع غزة اراضي محتلة ام لا بيان السلطة الفلسطينية في 1/10/1999، كانت هذه المطالب تصطدم دائماً برفض اميركي حازم. وهذا الرفض مستند الى ما ورد في احدى رسائل التطمينات الاميركية "لن تؤيد الولاياتالمتحدة اي عملية اخرى تجري بالتوازي، داخل الاممالمتحدة او مجلس الامن". وهكذا أغلقت الولاياتالمتحدة اغلاقاً صريحاً اي باب قد يعيد قضية فلسطين الى اي نسق دولي. على رغم الالحاحات العربية وبخاصة الفلسطينية، لكي تفسّر الولاياتالمتحدة القرار 242 بالشكل الذي يجعله واضحاً، ويجعل التفاوض، بالتالي على اساسه، واضحاً، رفضت واشنطن ان تلتزم بذلك، وتركت لاسرائيل حق التفسير بما يضمن لها تحقيق المكاسب التي تبغيها. لا ريب في ان انتفاضة الشعب الفلسطيني كانت اهم واكبر ورقة ضغط توصل الى بعض الحقوق الفسطينية. وقد فقدتها السلطة الفلسطينية، رويداً رويداً، يوم ان قبلت بالتفاوض على اساس اطفاء جذوة الانتفاضة، فأضاعت بذلك ثقلها في ميزان القوى، وغدت بدون قوة وازنة، سوى قوة الحق وقوة الشرعية الدولية اللتين لا تعنيان وزناً - ثقيلاً او غير ثقيل - في عملية تفاوضية مبنية على ميزان القوى. فالولاياتالمتحدة واسرائيل تريان في قرارات الاممالمتحدة في عصر النظام العالمي المنهار تراثاً لم يعد بعضه يعبّر عن موازين القوى في النظام العالمي الجديد. واذا كان قرار الاممالمتحدة - حسب رأي واشنطن وتل ابيب - بقرن الصهيونية بالعنصرية يستوجب "الاسقاط" فان قرارات كثيرة صادرة عن الاممالمتحدة تستوجب "الاسقاط" ايضاً، ولكن يمكن تجاوزها بانتقاء ما هو مناسب من قرارات مجلس الامن. لا شك في ان المتغيرات التي أدّت الى انعقاد مؤتمر مدريد، وضغوط الولاياتالمتحدة التي مارستها على منظمة التحرير ثم خلقتها ظروفاً وعوامل ومصالح محددة، قد أفقدت المنظمة معالم استراتيجيتها التي كانت مبنية على الشرعية التاريخية ثم الشرعية الدولية، ووضعتها في عملية تفاوضية، المرجعية فيها ميزان القوى، وهذا ما جرى في جولة كامب ديفيد الثانية. وقد استطاع المفاوض الفلسطيني حتى الآن، ان يرفض ارادة الأقوى وفاعلية ميزان القوى. واثبتت الولاياتالمتحدة، مرة اخرى - وهو ما لا يحتاج الى دليل جديد - انها تناصر اسرائيل وتناهض العرب. هناك نقطة جوهرية لم تنل اي اهتمام في الفكر السياسي العربي الجماعي، الذي يجسّده مجلس جامعة الدول العربية وأمانتها العامة ومؤتمرات القمة، وهي علاقة الامن الفلسطيني بالامن القومي العربي. فالاول جزء من الثاني، وبخاصة انه يتشابك، واقعياً، مع "الأمون" الوطنية لمصر وسورية ولبنان والاردن، تشابك حدود ووحدة مصير. واذ يفاوض الطرف الفلسطيني وحده في كامب ديفيد، فليس هناك من يستطيع ان يزعم بأن علاقة الامن الوطني الفلسطيني بالامن القومي العربي وب"الأمون" الوطنية للدول المحيطة بفلسطين كانت موضع اهتمام الجانب الفلسطيني، او انها كانت موضع تشاور بين السلطة الفلسطينية وحكومات ما كان يسمى بدول الطوق العربي، والامر نفسه ينطبق على سائر الامور المشتركة الاخرى، كاللاجئين والنازحين والمياه وسواها. ثمة قولة للشهيد صلاح خلف ابو أياد: "ليست هناك تسوية سياسية في المنطقة الا على حسابنا كمنظمة وعلى حساب حقوقنا كشعب فلسطيني… وما يُعدّ له هو مؤتمر لتصفية القضية الفلسطينية، لإقرار تسوية لن تكون عادلة ولا شاملة". تعود هذه المقولة الى 1987، لكن صدقيتها حيّة، وبخاصة اليوم. * معاون رئيس المركز العربي للدراسات الاستراتيجية - دمشق