عندما طرح الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، قبل حوالي العام، "رؤيته" لحل للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي أساسه قيام دولتين متجاورتين ومتساويتين في الحقوق والواجبات يعيشان جنباً إلى جنب في سلام ووئام واحترام متبادل، تفاءل الكثيرون. وكان لتفاؤلهم هذا أسبابه العديدة: أولها: أن هذه الخطوة تعكس تحولاً مهماً وجوهرياً في رؤية الرئيس بوش نفسه للصراع ولما يتعين أن يكون الموقف الأميركي منه. ومن المعروف أن هذا الرئيس كان أعلن في بداية ولايته، وبوضوح كامل، أن السلطة الفلسطينية هي وحدها المسؤولة عن إفشال دور أميركي كان نشطاً بصورة غير مسبوقة، خصوصاً خلال الشهور الأخيرة من إدارة كلينتون، وأنها، أي السلطة الفلسطينية، أهدرت فرصة نادرة وحقيقية للتسوية، وعرضت سمعة الولاياتالمتحدة ومكانتها للخطر، وهو أمر ينبغي عدم السماح به أو تكراره مرة أخرى. وفسّر شارون هذا الموقف بأنه إشارة تمنحه ضوءاً أخضر للتصرف المنفرد بل تحرضه على فرض الحل الذي يستطيع، شرط أن لا يستخدم وسائل تعرض مصالح الولاياتالمتحدة مع العالم العربي لخطر دائم لا يمكن إصلاحه. ولولا هذا الضوء الأخضر لما تجرّأ شارون على اجتياح الأراضي الفلسطينية التي كانت إسرائيل انسحبت منها بموجب اتفاقات أوسلو، ولما ذهب إلى حد تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني ومحاصرة الرئيس المنتخب للسلطة الفلسطينية في مقره المدمر. وبالتالي فحين يعود بوش بعد كل ما جرى ليطرح "رؤية أميركية" لحل أساسه قيام دولتين مستقلتين، ويؤكد عزمه على إعادة تنشيط الدور الأميركي لتحويل هذه الرؤية إلى واقع، فمعنى ذلك، هكذا يقول المتفائلون، أن تحولاً انقلابياً في الاتجاه الصحيح قد حدث في الموقف الأميركي. وثانيها: أنه لم يسبق أن تحدث أي رئيس أميركي طوال تاريخ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وبمثل هذا الوضوح، عن "دولة فلسطينية مستقلة". ومعنى ذلك، يقول المتفائلون، أن التحول الذي حدث لا يتعلق بشخص الرئيس الأميركي أو إدارته وإنما هو ثمرة لعملية نضج بطيئة وطويلة ومعقدة أدركت معها الولاياتالمتحدة الأميركية، خصوصا بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر، أن أوان الحل النهائي لهذا الصراع قد حان، وأن هذا الحل لن يكون قابلاً للدوام إلا إذا قام على مصالحة تاريخية أساسها اقتسام الأرض المتنازع عليها بين شعبين يجب أن تكون لكل منهما حقوق متكافئة عليها. غير أن المتشائمين، من أمثالي، كان ولا يزال لهم تفسير آخر لما يبدو تحولاً في الموقف الأميركي، وهو تشاؤم له أسباب عدة أيضاً: أولها: أن الحديث عن "دولة فلسطينية مستقلة"، رغم أهميته الكبيرة من الناحية النظرية، لن يكون له، من الناحية العملية، تأثير حقيقي على أرض الواقع إلا إذا ارتبط بموقف أميركي واضح من حدود الدولة الفلسطينية وصلاحياتها. فالخلاف بين إسرائيل والفلسطينيين ليس على مبدأ قيام الدولة ولكن على حدودها وصلاحياتها. وبينما يريد الفلسطينيون دولة حقيقية في حدود معروفة ومتفق عليها، أي دولة متصلة جغرافيا لها الخصائص والصلاحيات نفسها المعترف بها للدول في القانون الدولي تكون عاصمتها القدسالشرقية وتفصلها عن إسرائيل والدول الأخرى المجاورة حدود 67، فإن شارون يريد دولة فلسطينية على 42 في المئة فقط من أراضي 67، مقطعة الأوصال، تحيط بها المستوطنات من كل جانب، وتسيطر إسرائيل على منافذها وحدودها الخارجية وحتى على أجوائها ومياهها الجوفية، وظيفتها الأساسية المحافظة على أمن إسرائيل. وفي هذا السياق فإن معيار التحول الحقيقي في الموقف الأميركي يكون قياسا بموقفه من طبيعة وحدود الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها، وموقعه على المسافة الممتدة بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي، وليس بموقفه من مبدأ قيام الدولة الفلسطينية، والذي لم يعد هناك خلاف عليه حتى داخل إسرائيل نفسها. وثانيها: أن أي تحول في الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية لا يكون حقيقياً وجوهرياً إلا بقدر ما يعكس تحولاً إما في طبيعة العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، وبما يفسح المجال لظهور شرخ واضح فيها يسمح بتوقع ممارسة الولاياتالمتحدة لضغوط فعلية على إسرائيل، أو في طبيعة المشروع الصهيوني نفسه، وبما يفسح المجال أمام ظهور توافق إسرائيلي واضح حول مشروع لمصالحة يقوم على حل وسط تاريخي. ولم يكن هناك ما يشير من قريب أو بعيد إلى أن تحولاً من هذا النوع قد حدث، سواء في ما يتعلق بطبيعة العلاقات الأميركية - الإسرائيلية أو في ما يتعلق بطبيعة المشروع الصهيوني، قبل أن يتقدم الرئيس الأميركي ب"رؤيته". فالعلاقات الأميركية - الإسرائيلية كانت تبدو حينئذ في أفضل حالاتها، خصوصاً بعد وصول اليمين المتطرف في كل منهما إلى السلطة، وهو يمين جمعت بين صفوفه رؤية عقائدية، عنصرية في جوهرها، ومشروع للهيمنة العالمية والإقليمية، يحاول فرض نفسه بقوة السلاح، وهدف مشترك يتخذ من "مكافحة الإرهاب" ذريعة لتحقيق هذا الغرض. ولأن شارون كان قد نجح في إقناع بوش بأن الإرهاب الذي ضرب الولاياتالمتحدة في أيلول سبتمبر 2001 هو نفسه الإرهاب الذي يضرب إسرائيل منذ قيامها، فلم يكن من المتصور حدوث شرخ حقيقي في علاقة أميركية - إسرائيلية بدت متحالفة إلى حد التلاحم أيديولوجياً واستراتيجياً على نحو غير مسبوق. كما لم يكن من المتصور أن يحدث تحول إيجابي في طبيعة المشروع الصهيوني يسمح بمصالحة تاريخية في وقت تتآكل فيه قوى "اليسار" وقوى "السلام" في إسرائيل على نحو غير مسبوق أيضاً. لكل هذه الأسباب كان تقديرنا منذ البداية أن "الرؤية" الأميركية عن الدولة الفلسطينية ليست سوى محاولة لإدارة أميركية - إسرائيلية مشتركة لصراعات المنطقة وليس لحل هذه الصراعات، وأنها تنطوي على صياغة جديدة للقرار 242 من دون أي تغيير في جوهره. وأعتقد أن كل ما جرى منذ زيارة الرئيس بوش للمنطقة وطرح خريطة الطريقة يثبت هذه المقولة. ويبدو أن المتفائلين اكتفوا بقراءة نصية قانونية لهذه الخريطة، ولذلك وجدوا فيها بعض العناصر الإيجابية تسمح بحدوث تقدم على طريق التسوية. أما المتشائمون من أمثالي، والذين قرأوا هذه الوثيقة قراءة سياسية في ضوء الخبرة التاريخية المستمدة من التعامل الأميركي - الإسرائيلي مع القرار 242، فلم يجدوا فيها سوى مصيدة كبرى تحاك للفلسطينيين وللعالم العربي. ولذلك فإنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأن طريق التسوية لا يزال طويلاً جداً ومعقداً جداً ومليئاً بالدم والدموع. فخريطة الطريق هي، من منظور الولاياتالمتحدة وإسرائيل، مجرد آلية لتفكيك "حماس" و"الجهاد"، حتى ولو كان الثمن حرباً أهلية فلسطينية. ومن المثير للتأمل أن الصيغة التي تطرح بها القضية الآن من جانب الولاياتالمتحدة وإسرائيل، خصوصاً بعد العملية الاستشهادية الأخيرة في القدس، تظهر الدولة الفلسطينية وكأنها مجرد "هدية" سيقدمانها مهراً لأي شاطر فلسطيني يتمكن من تدمير "حماس" و"الجهاد". المعضلة هنا أن الشاطر لم ير بنت السلطان بعد ويريد، قبل أن يقدم على مغامرته الجسور، أن يطمئن إلى أن حبيبته الموعودة تستحق بالفعل أن يدفع فيها هذا المهر الباهظ، وأنهم لن يستبدلوها في اللحظة الأخيرة بأختها الكسيحة أو العرجاء. ورغم أن رغبة الشاطر الفلسطيني المتيم برؤية حبيبته قبل أن يدفع المهر الباهظ أو الثمن التعجيزي تبدو بسيطة جداً ومنطقية جداً ومشروعة، إلا أنها تقابل بالاستهجان دائماً من الولاياتالمتحدة وإسرائيل. فإسرائيل تخاطب أبو مازن بهذا المنطق: لن تحصل على دولة فلسطينية قبل أن تعتقل كل كوادر "حماس" و"الجهاد"، وتصادر أسلحتهما، وتمحو كل أثر لوجودهما على الأرض. وحين يستدير أبو مازن ليسأل الولاياتالمتحدة عن ضمانات بمواصفات العروس قبل دفع المهر الباهظ يقال له بأن المواصفات خاضعة للتفاوض وأنه ليس من حقه أن يصادر على نتائج المفاوضات قبل أن تبدأ. أي أن المطلوب من أبو مازن أن يشعل حربا أهلية ويدمر نصف شعبه، لمجرد أن يحظى بشرف الدخول في مفاوضات لا يعرف على وجه اليقين ما إذا كانت ستنتهي بقيام دولة فلسطينية حقيقية ومستقلة وفي حدود 67، أم بدولة بالمعنى الذي يقصده شارون، أي دولة في حدود 42 في المئة من أراضي 67 ممزقة الأوصال لا وظيفة لها إلا حماية إسرائيل الكبرى. وهذا منطق عبثي ويمثل مهزلة وفضيحة قانونية وأخلاقية غير مسبوقة. لذلك يبدو لي أن ما يجري الآن من مشاورات واتصالات حول ما يسمى ب"خريطة" الطريق لن يوقف مسلسل الكوارث الراهنة وسيعرض المنطقة للمزيد من المؤامرات والحروب. وفي اعتقادي أنه آن الأوان لاتخاذ موقف شجاع لوقف كل أنواع الاتصالات الراهنة مع إسرائيل والولاياتالمتحدة قبل أن يعلنا بوضوح تام أنهما يقبلان بالتفسير القانوني الدولي للقرار 242 وهو تفسير يشير بوضوح إلى أن أساس التسوية هو العودة إلى حدود 67، وأن جميع الأراضي التي دخلها الجيش الإسرائيلي منذ الخامس من حزيران يونيو عام 67 هي أراض محتلة وليست أراض متنازع عليها، وأن هذه الأرض ليست محلا أو موضوعا للتفاوض، وأن المطروح للتفاوض يتعلق فقط بترتيبات الأمن المتبادل ومستقبل العلاقات الإسرائيلية - العربية في مرحلة ما بعد التسوية. فإذا ما أعلنت الولاياتالمتحدة وإسرائيل هذا الموقف يصبح من حقنا حينئذ فقط أن نطالب "حماس" و"الجهاد" بأن يسلما سلاحهما للسلطة الفلسطينية ويندمجا في القوى السياسية وتشارك في الانتخابات وتصبح جزءاً من دولة فلسطينية حقيقية. أما إذا رفضت الولاياتالمتحدة وإسرائيل هذا المنطق، فمعنى ذلك أن التحالف الأميركي - الإسرائيلي ليس له سوى هدف واحد وهو إدارة الصراع مع العرب بطريقة تؤدي في النهاية إلى تسوية في إطار خريطة جديدة للمنطقة تتحول فيها المنطقة العربية إلى كيانات طائفية متصارعة تلعب إسرائيل دور رمانة الميزان فيها وتتولى ضبط تفاعلاتها بما يحقق هيمنة إسرائيلية كاملة عليها، في إطارها هيمنة أميركية أوسع على العالم. وإذا صحت هذه الرؤية، وأظن أنها صحيحة، تصبح خريطة الطريق المطروحة بداية لمرحلة جديدة ستشهد فيها المنطقة حروبا وصراعات دموية أكثر مما ستشهد من جهود فعلية لتحقيق الأمن والاستقرار فيها. وحين تتعقد الأوضاع في فلسطين، بالنسبة الى اسرائيل، وفي العراق، بالنسبة للولايات المتحدة، فسيكون الحل هو مزيد من التوافق الأميركي - الإسرائيلي في اتجاه الهروب إلى الأمام بإشعال حروب جديدة في المنطقة. إيران ستكون هذه المرة هي ساحة إطلاق النار، لكن الهدف الحقيقي سيكون "حماس" و"الجهاد" و"حزب الله". فهناك دلائل كثيرة تشير إلى أن الأوساط الفاعلة في مراكز صنع القرار في إسرائيل وفي الولاياتالمتحدة باتت مقتنعة بأنه لا تسوية قبل الانتهاء من حماس والجهاد وحزب الله، ولن يمكن الانتهاء من هذه القوى قبل تصفية مراكز إمداداتها الرئيسية من خلال تغيير النظام في كل من إيران وسورية حتى ولو تم ذلك بالقوة المسلحة. * كاتب واكاديمي مصري.