"بغداد - "العربية" -أطوار بهجت"، هذه الجملة التي تكررت، مراراً، في ختام التقارير التي بثتها"العربية"، لن يكون في إمكان المشاهدين سماعها بعد اليوم. صاحبة الجملة التي صنعت الخبر ورسمت بتقاريرها ملامح المشهد العراقي بمهنية عالية، أصبحت هي نفسها، مادة للخبر وللتقرير على مختلف الشاشات إثر النبأ المؤلم الذي يقول إن صورة أطوار بهجت المشرقة انطفأت على يد الظلاميين. كانت عزلاء إلا من الكلمة، تجوب مساحات العراق بحثاً عن خبر، وعن تصريح، وعن حوار. تسعى لأن تكون أمينة لمهنة المتاعب، ومخلصة في إبراز الجوانب السلبية والإيجابية. وهي كصحافية شابة ومتحمسة لم يكن يعنيها شيء سوى بلدها العراق، وأن تجد لنفسها مكاناً وسط عالم الإعلام. ولعل عملها في"العربية"، أخيراً، بصفتها قناة إخبارية ناجحة، دليل على جدارتها، وقدرتها على الفرادة والتميز. وهذه صفات لا تروق للإرهابيين، والمتعطشين إلى رائحة النعوش. فابسط مهمة يمكن تنفيذها بالنسبة لهم هي الضغط على الزناد لتكون الضحية، هذه المرة، الشهيدة أطوار بهجت، واثنين من مساعديها. كان صوت شقيقتها الوحيدة إيثار، عبر شاشة"العربية"، جارحاً، يهز الوجدان. كانت تبكي بحرقة، وتتساءل بمرارة، وبراءة"لماذا قتلوها؟"، صورة وجهها الغارق في الدموع، وهي تصرخ"لا املك أحداً في العالم سواها، لا أخ لي ولا أخت!"ستظل مشهداً تراجيدياً لا يمكن المرء نسيانه بسهولة. كانت بحركاتها الحائرة، وقلقها، ونظراتها المفعمة"بأسى شفاف"تبحث عن أمنية تبشرها بأن الخبر كاذب. غير أن أطوار التي سعت إلى الصدق في كل ما قدمته، كانت صادقة، كذلك، في موتها. "العربية"كانت وفية لمراسلتها، وهي كررت الخبر بالتعليق والتحليل في صدر نشراتها الإخبارية، ونقلت أجواء الحزن التي خيمت على بغداد، وواكبت الحدث لحظة لحظة. غير أن كل ذلك لن يستطيع أن ينتزع حجم المرارة والحزن من قلوب محبي هذه المراسلة التي بدأت حياتها شاعرة وأصدرت ديواناً عنوانه"غوايات البنفسج". وليس في القول مبالغة بأنها كانت، هي نفسها، رقيقة كزهرة البنفسج، وأرادت أن تنثر الجمال والرحيق في أرض العراق، فكانت سامراء المدينة التي تتحدّر منها، المحطة الأخيرة في مشوارها الصحافي الذي كان يعد بالكثير من الأحلام والطموحات. وهي لم تكن طرفاً في هذا الصراع الدموي الدائر في العراق، كانت شغوفة بهذه المهنة، وتعلقت بها إلى درجة الموت الذي اصبح العنوان المألوف الوحيد في سياق أي خبر آتٍ من العراق. من يتجرأ أن يقتل صحافية عراقية شابة، عرفت بمحبتها للجميع، وكانت تحضّر لزفافها، لا يمكن أن يقبل الحوار، أو أن يردع عن ارتكاب المزيد من الجرائم، لا سيما أنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها الصحافيون للقتل في العراق، ولن تكون الأخيرة. ومثل هذا الأمر المخيف يستدعي تدخل مسؤولي القنوات الفضائية، وإعطاء التوجيهات بما يضمن سلامة مراسليها، وتوفير الحماية لهم، والحذر في إرسالهم إلى بؤر التوتر والمعارك. فالحرمان من خبر مهم أقل إيلاماً، بما لا يقاس، من الحرمان من هذا الصحافي أو ذاك.