بعض ما منح جريمة اغتيال رفيق الحريري، قبل عام بالتمام، دويّها الاستثنائي، ذاك الفارق بين سياسته ومصرعه. فهو لم يكن رجل عنف وحدّة، جاءت حياته السياسية شهادة متواصلة ضد التطرف: فمنذ البداية ارتبط صعوده بالختام الرسمي للحرب وإبرام اتفاق الطائف. وما لبث ان تحول أول رجل أعمال عربياً يصير قائداً وزعيماً في منطقة تنعقد زعامتها الجماهيرية تقليدياً للعسكريين الانقلابيين والمشايخ الراديكاليين وحدهم. فكان الحريري، من ثم، يقارب السياسة سياسياً، فيعترض ويعارض ويستقيل ويعتكف، أو يتولى رئاسة الحكومة بالاستناد الى أكثرية برلمانية وبموجب الديناميات الدستورية المعمول بها. إلا أنه، حكماً، لا يقتل ولا يحض على عنف أو هوَج مسعور. وقد اندرجت توجهاته في تدرّجية تخالف الانقلاب والنزوع القطعي، كما في تكامليّة تتعايش داخلها سنيّته واسلامه ولبنانيّته وعروبته تعايشاً يذكّر بالرعيل الاستقلالي الأول في بلدان المشرق. هكذا بدا قتله، بالوحشية التي انطوى عليها، أشبه بعمل يستعيض بالبربرية عن افتقاره الى كل شيء آخر. ذاك ان القَتَلة الذين لا يجيدون السياسة تعريفاً، ما عاد في وسعهم، كذلك، شن الحروب. وليس بلا دلالة ان أثر الجريمة على لبنان ومحيطه جاء يشبه الآثار التي تخلّفها الحروب عادة. فكأنما قتل الحريري، والحال هذه، ناب مناب حرب، إقليمية أو أهلية، لم يعد في وسع أحد شنّها. و"العدو"، هذه المرة، لم يعد"العدو الاسرائيلي"الذي شُنّت آخر الحروب عليه قبل ثلث قرن بالتحديد. فقد تصدّر خانة العداوة رموز الخروج من وضع مشوّه ساد المنطقة عقوداً متوالية وقاد الى العجز عن الحرب والعجز، في الوقت نفسه، عن السلام. ولم يكن مصادفاً ان يقدم لبنان، في رفيق الحريري، أهم رموز الخروج من الوضع الموصوف، هو الذي أريد له أن يبقى"ساحة"يُستأنف فيها العجزان الى ما شاء الله. وما يقال في الحروب يقال في الاستبداد. صحيح ان الذين يبالغون في التبشير بالديموقراطية، أو يستعجلونها، يذهبون بعدياً في التفاؤل الارادي. بيد ان الصحيح ايضاً ان الاستبداد ما عاد في وسعه ان يبقى على ما كان عليه ابان الحرب الباردة وقبل ثورة الاتصالات. ومن يريد البحث عن شواهد، ابتدأت بالمنتديات والمقالات عام 2000، لن تعوزه الأمثلة. وفي الهوّة هذه اغتيل رفيق الحريري، فأتت الجريمة إيذاناً بعجز القديم في ظل ضعف الجديد وتعثّره. فأما عجز القديم فتجاوز عدم القدرة على الإفادة من التدرجيّة الحريرية - التي كان يسعها أن تكون جسراً انتقالياً وآمناً ? الى القضاء على صاحبها. وأما ضعف الجديد وتعثّره فلا يزالان قائمين مقيمين في لبنان وفي محيط لبنان سواء بسواء. وهو جميعاً ما يجعل الحزن، في ذكرى السنة الأولى، مشوباً بكثير من الغضب وشيء من الحيرة وقدر من الاحباط. ومؤلمٌ، في آخر المطاف، ان يبقى الأسرع مدعوّاً دائماً الى الابطاء، والأذكى مدعوّاً الى التغابي، لأن هذه"طبيعة المنطقة". وهي، الى حد بعيد، كذلك، تكتب على الجدار"هذا جدار"وتمضي في نَطحه.